تستحقّ أحدث روايات خالد خليفة “لم يصلّ عليهم أحد” القراءة المتمعّنة والتشريح المفصّل على كل مستويات الدلالة. وهي مهمّة مجهِدة فعلاً. وليس سبب ذلك هو الحجم وكثافة الأحداث وكثرة الشخصيّات فحسب، وهو ما يجعل المؤلف من كبار حكواتيّي العربيّة هذه الأيام، وإنما تعدّد وتشابك مستويات الدلالة تلك. والمشكلة أن الكاتب كان من المكر بحيث أخفى ذلك التشابك من خلال طريقة السرد التي بدا أنّها تقول كل شيء.
بعد قراءتي الأولى للرواية كتبت انطباعي السريع كالتالي: هذه الرواية تصلح لحمل العناوين التالية: “التاريخ المجهول لحلب” أو “مأساة السريان” أو “صناعة القداسة” أو “الحب أحد أثواب الموت اللانهائية” أو “عندما يصاب دراكولا التعصّب الديني بالإدمان على دم العشّاق”. ولعل هذه العناوين الافتراضية تكفي للبوح بوجود تلك المستويات المتعدّدة والمتشابكة للدلالة في هذا الكتاب.
هذا المقال هو محاولة تفكيك إحدى الشخصيّات الرئيسيّة، التي تتقاطع في أحداث حياتها كل تلك المستويات، وترسم طفولتها صورة حلب العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر بوجهين متناقضين، لكنّ واقعية كليهما تكافئ تماماً تناقضهما. كما أنّ جذرية ذلك التناقض تكافئ تماماً بعده التفجيري.
تلك الشخصية تُدعى “حنّا كريكورس”. وهذا الاسم بحد ذاته دالّ. والأسماء في هذه الرواية تبدو في معظم الحالات مرمّزاتٍ جزئيةً تندرج في إحدى مستويات دلالة أشمل. فحنّا مسيحي والقارئ لديه كلّ المبرّرات ليعتبره رمزاً لكل سريان سوريا، وحلب طبعاً بالخصوص. يقتل الجنود الأتراك أباه كابرييل ضمن مجزرة ماردين عام 1876 التي “ذُبح فيها كل أفراد عائلة كريكورس باستثناء الطفل حنّا عقاباً لقتلهم ضابطاً عثمانياً حاول خطف عمّة حنّا في وضح النهار” كما تقول الرواية. يربيّه صديق الأب وشريكه أحمد البيازيدي، أحد كبار محاسبي حلب، وهو مسلم، كما يشي اسمه. لكنّ هذا الاب بالتبنّي ينحدر من عائلة كانت مسيحيّة قبل مئة سنة من ذلك التاريخ ثم أسلمت. هذا التداخل الديني يتظاهر من خلال شلّة الأصدقاء التي تشكّل أحداث حياتهم بنية هذه الرواية: حنا وزكريا ووليم وعازار، الذين “يمثّلون” الأديان الثلاثة، المسيحية والإسلام واليهودية، والذين يحافظون على صداقتهم إلى النهاية دون أن يعكّر تلك الصداقة ولو جدال ديني واحد، ربّما بسبب أنّهم جميعاً “مارقون”، وهو اللفظ الذي سيقابلنا فيما بعد. وسينضمّ إليهم فيما بعد عارف شيخ موسى الكردي لتكتمل تقريباً “الماتريكس” السورية.
لايكتفي أحمد البيازيدي بتبنّي حنّا الطفل، بل يستضيف مربّيته مارغو المرأة السريانيّة شديدة التديّن عنده في المنزل، ويرعى شؤون أملاك حنّا التي ورثها عن والده القتيل ليعيدها إليه بعد أن يبلغ الرشد ويتأكّد من استطاعته إدارتها بنفسه. تلك المربّية تعلّم حنّا اللغة السريانية وتتحدّث معه بها في بيت البيازيدي، حيث يتكلّم الآخرون العربية طبعاً. كما أنّها تحاول من خلال حكاياتها إشراك كل قدّيسي وشهداء تلك الكنيسة الشرقية في حياة الطفل الصغير. كانت تقول له “إنهم أسلافك يا حنّا ويجب أن تردّ الاعتبار لهم”. سيتذكّر حنّا البالغ هذه القصص. لكنّ حنّا الطفل كانت تهمّه شؤون أخرى طبعاً وهي اللعب مع أخويه في المنزل زكريّا وسعاد، باللغة العربية -الحلبية طبعاً. وسيشاركهما كل تفاصيل حياتهما إلى النهاية. زكريا سيلازمه كأخ حقيقي، أمّا سعاد فستكون حبّه الكبير، بينما سيكون هو خيبتها الكبرى. إذ أنه لن يجرؤ على الزواج منها بسبب اختلاف الدين ومشكلة زواج المسيحي من المسلمة. تلك الجرأة التي افتقدها ستواتي صديقاً لهما هو وليم، المسيحي، فيهرب مع عائشة، المسلمة طبعاً، بعد قصة حبّ تشبه السير في حقل من الورود مزروع بالألغام. لكنّ ضابطاً تركيّاً يقتلهما معاً. سيحفر زكريا وحنّا قبراً مشتركاً لهذين العاشقين الثائرين في مقبرة تقتصر عليهما “ليست مسيحية ولا مسلمة”. وحين سيقترح أحد الأصدقاء عليه استدعاء خوري وشيخ للصلاة عليهما، سيجيبه حنّا “إنهما عاشقان ولن يصلّي عليهما أحد”. وهذه الجملة الأخيرة هي نفسها عنوان الرواية بعد تحويل الضمير المتصل من المثنّى إلى الجمع. فمشكلة الصلاة على الموتى سنقرأ قصّتها في الصفحات الأولى من الرواية عندما يدفن الفلاحون تحت قيادة زكريا غرقى الطوفان الذي قضى على جميع سكّان قرية “حوش حنّا”، بما فيهم زوجة حنّا وابنه الصغير. ولأنّ سكّان تلك القرية هم خليط من المسلمين والمسيحيين، فقد رفض كل من الشيخ والخوري الصلاة على من لا يعرفون دينه، فتجاهلهم زكريا واستمر في الدفن.. بدون صلاة. نقرأ الفكرة نفسها فيما بعد، عندما يكتشف زكريا وحنّا أكثر من ثلاثين جمجمة ومجموعة كبيرة من العظام البشرية في موقع الكنيسة السرّية التي كان المسيحيّون الأوائل يتعبّدون فيها، وفق النقوش السريانية المكتوبة على أحد جدرانها. يفكّر حنّا كما يلي: “لماذا لا تكون تلك الجماجم والبقايا هي لقبر جماعي لبني قومه، لجماعة قُتلت ودُفنت على أيدي الإنكشاريين؟. أعجبته هذه الحكاية وفكّر أنّ هذه الأرض تغصّ بالمقابر الجماعية، تضمّ رفات بشر بؤساء لم يدفنهم أو يصلّ عليهم أحد”. ولكن لماذا هذه “الثيمة الجزئية”: الصلاة على الموتى، وخاصّة في شكلها المنفيّ المرفوض؟ ربّما يقودنا ربط تلك الحوادث الثلاث إلى فهم الجواب. فأولئك الذين لم يُصلَّ عليهم هم عاشقان ارتبطا رغماً عن أنف قانون الزواج بين الأديان، وضحايا طوفان النهر من مجهولي الدين، وضحايا القمع الديني المباشر. إنّهم “خارجون” على الدين الرسمي، سواء بإرادتهم أم بدونها. وسيختار حنّا هذا المصير نفسه في شيخوخته، بعد أن جَبُن عن ارتكابه في شبابه. أخيراً فهناك دلالة أخرى ليست بعيدة تماماً عن الأولى. إنّها غُربة الموتى التي تذكّر وبشكل لا منفذ منه بغربة الموت نفسه. وهو ما سأعود إليه في آخر فقرات هذا المقال.
بالموت تبدأ الرواية. إنّه موت جماعي بطوفان النهر. هذا الطوفان الذي حدث عام 1907 سيكون نقطة التحوّل الكبرى في حياة حنّا. وهو تحوّل لا يمكن فهمه بمجرّد حقيقة غرق زوجته وابنه. إنّه تحوّل يتجاوز العاطفة إلى سؤال المعنى.
حنّا الشخصية التراجيدية
قبل الطوفان كان حنّا يعيش وفق مبدأ المتعة. وكان وضعه المادّي كملاّك كبير يتيح له ممارسة ذلك المبدأ دون حدود. كان، مع صديقه زكريا، يتفنّن في اختراع طرق جديدة لممارسة حياة “الآبقين”. وكان آخر تلك الإبداعات بناء قلعة حقيقية ذات دهاليز وممرّات سرّية ولها عملتها الفضّية الخاصّة ويبدو للوهلة الأولى أن قانون اللذّة هو ما يحكمها، إذ أن سكّانها هم حصراً نوعان من البشر: رجال أغنياء وعاهرات، ولعلّ كلمة قيان تناسبهنّ أكثر. لكنّ ثمة منصّة خاصّة للمنتحرين الذين يخسرون كل ما معهم في القمار. وهؤلاء “يتمتّعون” بتبجيل خاص، بما فيه التوابيت الفضّية مثلاً. هذا التبجيل المتساوي لإرادة “الحياة الآبقة” ولإرادة “الموت الآبق” يشير لا إلى درجة عالية من “حرّية الأنا” فحسب، بل وإلى قلق وجودي كامن في قاع النفس ستدفع به كارثة الطوفان إلى واجهة الشخصية.
وكما نتعوّد على شخصية حنّا في الرواية فهي لن تكتفي بالتأمّل بقلقها الوجودي. إنّها ستحوّله إلى تجوال لا يعرف الاستراحات. بل وسيحاول أن يحرم نفسه من أيّ مُنسيات لذلك القلق، كالمتع اليومية مثلاً. ولن يكتفي بذلك، بل سيُسكت لسان الجسد إلى حد الخرس، بأن يحاول محوه تقريباً. بعد اليوم لن يعود السؤال: ماذا؟ ولكن “لماذا”. وعندما يصل إلى الجواب الأعمق يحوّله إلى سلوك بنفس الجذرية، يغطس في النهر، إلى الأبد. أي أنّ الرحلة التي بدأت بطوفان النهر ستنتهي في النهر نفسه. ولكن ما بين تلك البداية وهذه النهاية ستمرّ أربعة عقود من السنين مثقلة لا بأسئلة القيمة والجدوى والمعنى فحسب، بل وبتأمّل الطيور والأزهار وبعقد صلة جديدة مع الطبيعة، كان من نتائجها أنّه كتب ثلاثة مصنّفات عن نباتات وحيوانات شمال حلب ونهر الفرات.
سيتذكّر القارئ هنا الكثير من الشخصيّات الروائية، كالقدّيس فرانسيس عند كازانتزاكيس أو سيدهارتا عند هيرمان هيسة، مثلاً. لكنّ هاتين الشخصيّتين اللتين تمرّان بتحوّل مشابه ظاهرياً لا تحملان صفة “البطل التراجيدي” التي نعرفها في الأدب، ونراها بوضوح لدى خالد خليفة في شخصية حنّا. إذ أنّنا نستطيع أن نرصد كل سمات ذلك الأنموذج، أي البطل التراجيدي” التي نعرفها منذ زمن سوفوكليس. علينا فقط أن نستبدل القدر ونبوءات الكهنة بالنظام العثماني والشرائع الدينيّة وقيود المجتمع التقليدي. وكما نعرف منذ أرسطو بأن البطل التراجيدي يحمل عوامل صراعه في ذاته، وهو صراع لا ينتهي إلاّ بالموت، لم يطل الصراع في نفس حنّا طويلاً ليخرج إلى النور. ظهر هذا الصراع في كل مراحل حياته بأشكال تناسب تلك المراحل. كشابّ مارس حنّا مع عصابته الصغيرة العابرة للأديان والقوميّات تكسيركل تابوات المجتمع، الجنسية والطبقية. ثم تحدّى كرجل رموز السلطة العثمانية وأخذ بثأره ممّن قتل أباه منهم. ولم يكن قد دخل مرحلة الكهولة الحقيقية بعد عندما بدأ يصارع ضد وحش ميثولوجي أقوى من أولئك الأعداء جميعاً، الماضي.
بهذا المعنى فقد كان حنّا مثالاً كاملاً للمتمرّد. ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل خالد خليفة يصرّ على تعبير “آبق” الذي نقرأه كثيراً في الرواية. فإن كان في كثير من المواضع يعني “الفسق” فهو يحتفظ دائماً بمعناه الأصلي، أي الخروج عن الطاعة.
النظرة الأولى لهذا التمرّد، والتي تذكّر بألبير كامو، تخرج بالسيناريو التالي: لقد تجلّى هذا النزوع الداخلي للتمرّد في مرحلة ما قبل الطوفان بعدوانيّة لا تترك حجراً على حجر في عمارة النفاق الأخلاقي الاجتماعي. لكنّ تلك العدوانيّة تتحوّل إلى إنسحابيّة سلبيّة هروبية بعد الطوفان، وكأنه في المرحلة الأولى أراد تدمير البنية الاجتماعية-السياسية التي كانت سمحت بقتل عائلته، وقد استطاع فعلاً الانتقام من ضابطين مسؤولين عن الجريمة، كما جاء أعلاه، لكنّه عندما لم يعد يجد من يدمّره دمّر نفسه، دون أن يطلب أي ثمن لذلك التدمير. وكان ذلك “الإعدام الذاتي” مجرّد نهاية لسلسلة من التفريط بكل شيء، الثروة والعائلة والمكانة الاجتماعية..الخ. وهو فعل عبثي يناسب عبث الوجود الإنساني نفسه.
لكنّها نظرة سطحيّة، ككلّ نظرة أولى.
العاشق الجبان أم الباحث عن أمّ ماتت قبل قرون؟
يقتل الجنود العثمانيّون أم حنّا في جملة ما يقتلون. لم تستطع مربّيته السريانيّة احتلال مكان الأم ولا تعويضها من ثمّة. كانت في الواقع خادمة غريبة في عائلة غنيّة، رغم الصداقة التي عقدتها أم زكريا معها. كل ما نجحت فيه هو “تحفيظ” حنّا الثقافة السريانية كما تفهمها، اللغة وقصص القدّيسين، وتذكيره -بمجرّد وجودها- بتاريخه الإقطاعي شديد الثراء.
لذلك كان حنّا يعيش في الواقع مع “أم فسيفسائية” تشكّل جزءاً منها مربّيته وجزءاً آخر أم زكريا وجزءاً ثالثاً سعاد، الطفلة ذات الموهبة الأموميّة النادرة. هذه الأخيرة ستصبح حبّه الكبير الأول والأخير.
لكنّ الأمر لم يطل كثيراً بالشاب الصغير إلى أن يكتشف أن هناك نساء أخريات في هذا العالم. وهكذا اتّسعت لوحة الفسيفساء النفسية لتستقبل قطعاً جديدة، أمهاتٍ جديدات. لكنّ هاته الأمهات الجديدات دخلن عليه من باب أكثر إمتاعاً، يناسب مزاج المراهق، إنّه الجنس. ونعلم أنّ المراهق لا يتعامل مع الجنس كحقيقة فيزيولوجية، ولكن كمغامرة نفسية، وإن كانت تحكمها الهورمونات. حنّا، المتمرّد الذي سردنا قصّته في الفقرة السابقة، يخوض هذه المغامرة، كغيرها من المغامرات بلا خوف وإلى النهاية. وكان تشييد قلعة اللذة تتويجاً لهذه النزعة. لكنّه سيكتشف بعد وقت ليس طويلاً السلوك المناقض تجاه النساء، فهو يريد اللّذة القصوى والتنويع الدائم، وكأنّه يعرف أنّه قريباً سيترك ذلك كلّه. إنّه يهرب من مواجهتنّ كعشيقات، ولو لحظيّات، رافعاً شعار “إنّ أفضل النساء هنّ اللواتي تستطيع نسيانهنّ بعد المضاجعة” ص19. ولعلّ السبب هو أنّه كان يبحث في تلك النساء عمّا لا يمكن أن يجده. أي عن أمّه. فعاد إلى اختراعه الأثير بتركيب فسيفساء أمومية جديدة تتألّف هذه المرّة من جوزفين التي سيتزوّجها وبغي شابة لم تزل عذراء هي “شمس الصباح” يكتشف شبهها بأمّه ويحكم عليها بأن تبقى عذراء لتظل علاقتهما أقرب إلى علاقة الولد بأمه. وثمة عذراء أخرى هي ماريانا ستحاول حسم مستقبله الروحي فيما بعد عندما تكرّس حياتها لتطويبه قدّيساً.
لكنّ قطعة واحدة بعينها من هذه الفسيفساء النسائية تشخصن أكثر من غيرها إحدى الثيمات الكبرى للرواية. إنها سعاد. أمّ صغيرة، حتّى في طفولتها، ومعشوقة مستحيلة. ستصبح حبّه الأكبر وسيصبح حبّها الأوّل. لكنّه يجبن عن خوض المغامرة لأنّ الثمن الواقعي الذي يجب عليه دفعه للحصول عليها هو أن يُعلن إسلامه. لا ينقل لنا خالد خليفة في الكتاب مونولوجات الصراع النفسي التي رافقت هذا التردّد ما بين تحطيم كل شيء في سبيل الحصول على الحبيبة والثبات على رسالة مكتوبة في اللاشعور الإثني لحنّا السرياني سنقرأها فيما بعد عندما يحلم بوجود دير قديم قدم المسيحية نفسها في سوريا. حلم سيحفر عليه مع صديقه زكريا إلى أن يعثرا فعلاً على أساسات ذلك الدير ويعيدا بناءه من جديد.
سعاد تطلق عليه التهمة الوحيدة الممكنة بسبب هذا التردّد: جبان. وهو يعترف أيضاً بذلك ويعاني منه. ويحاول غسل هذه التهمة لا شعورياً بتقديم دعم غير محدود لصديقه وليم الذي استطاع اقتحام ذلك المستحيل عندما هرب مع عائشة بعد قصة حبّ لن تقف آثارها عند العاشقين وحدهما. لن يستسلم حنّا لآلية التماهي تلك. بل سيكتفي بالتعويض عن هزيمته العشقية وسيستجيب لأول صدمة كبرى، وهي الطوفان الذي أخذ معه الأهل والأحبّة، لينسحب من الصراعات الواقعية إلى بحثه الميتافيزيقي والذي ستحاول ماريانا تحويله إلى قداسة وتمأسسه على هذا الأساس، وخاصّة بعد صدق رؤياه بوجود دير قديم مدفون، كما دُفن الأصل السرياني للمنطقة نفسه.
صناعة القدّيس
إذن ستقوم ماريانا بعنادٍ عجيب و”تخطيط استراتيجي” أعجب بكل التحضيرات الضرورية، بل والثانوية، لتصنع من حنّا قدّيساً. ويتضمّن ذلك طبعاً محو كل ما وجدته غير مناسب لشخصية قدّيس أنموذجي من سيرة حنّا الشخصية، وتأليف ونشر سيرة جديدة مليئة بالمعجزات. وسينجح كاتبنا فعلاً في إقناعنا بأنّ القداسة هي إنتاج بشري كأي إنتاج آخر يمرّ بمراحل ولا يعتمد فقط على اقتناع الناس بالقوة الروحية التي يتمتّع بها شخص ما يدّعي القداسة.
ينجح المشروع طالما ينجح التلاعب “بجزء صغير” منه، وهو تعاون الشخص المقدّس نفسه أو سكوته. وقد “سكت” حنّا طويلاً على ما تفعله فيه ماريانا اتباعاً لنصيحة الأب إبراهيم الذي يلعب دور المرجعية الروحية لحنّا: “قال حنّا لإبراهيم إن هذه المعجزات لم تحدث. لكن ابراهيم شرح له آلية صناعة المعجزة. قال له ببساطة إنه ليس مهماً حدوث المعجزة بل الأهم هو تصديق الناس لها. لن يستطيع أحد إيقافها. دوماً نحتاج إلى المعجزات للتخفيف من بؤسنا البشري… لاتحاول إيقاف الحكايات”. وعندما تتوقّف مقدرة حنّا على هذا التواطؤ يتفكّك المشروع كما تتفكّك كل البنية القديمة وشخصيّاتها، بما فيهم حنّا وزكريا طبعاً. إذ في الوقت نفسه الذي تغزل فيه ماريانا قصص القدرة الخارقة على الشفاء التي يتمتّع بها حنّا، يكون هذا القدّيس الجديد ضحيّة مونولوجات حول وجود الله تنتهي بأن الله في أحسن حالاته هو في الواقع مجرّد فكرة بشرية قد تكون مفيدة.. العبث هنا يصل إلى أقصى درجاته. ويناسب الشخصية الجديدة ليعطيها تبريراً للانسحاب النهائي من أي صراع مادّي، والتفرّغ إمّا للتأمّل بالطبيعة أو لكتابة “مصنّفاته”، أو للعناية بأولاد زكريا، انتظاراً للاستجابة لنداء النهر. لكنّ هذا المسار نفسه يمكن تأويله بطريقة أخرى تناسب إلى حدّ ما توصيف ألبير كامو لما يسميّه “المتمرّد الميتافيزيقي” الذي لا يكتفي بالتمرّد على ظلم ملموس، كتمرّد العبد على السيّد مثلاً، وإنّما يتمرّد على الحياة نفسها. والمتمرّد الميتافيزيقي، وفق كامو، ليس هو من ينكر الإله، بل من ينافسه على وظائفه. وعندما يُصاب هذا المتمرّد بالتعب أو الملل قد يختار إلغاء الوجود نفسه.
وهذا ما يفعله حنّا بالضبط.