خاض جيمس القحطاني، وهذا بالمناسبة ليس أسمه الحقيقي، مغامرة مدوية. مكث عدة سنين “يبذر البذور” كي يتم الاعتراف بخبراته في بلاد العروبة رغم “قحطانيته” و”الإستفادة منه”. حاول أن يتسلل عبر خبرات راكمها في بلاد الفرنجة، لكنه واجه صعوبات كأداء. كان تعريفه كـ “عدنان القحطاني”، وهذا بالمناسبة أسمه الحقيقي، العقبة الكبيرة أمام الإعتراف به “خبيراً”. كان أصدقاء عدنان من الفرنجة قد داوموا توجيه النصيحة له بتوظيف علمه وتجاربه وشهاداته وخبراته لخدمة وطنه الأم وعروبته بدل أن يستنزفها هنا وهناك في بلاد بني الأشقر. كان أصدقاء عدنان من القحطانيين والعدنانيين الخُلّص يصفعونه بذات النصيحة بين الحين والآخر. عدنان مشتت بين كرامة يتنفسها في بلاد الفرنجة، وإحساس بالتقصير تجاه بلاده، حيث لا كرامة، وظل هذا التشتت ينغص عليه عيشته في الغرب.
عندما قرر عدنان أن يساوم على الكرامة من أجل الوطن ويعيش مطأطأ الرأس كبقية جحافل الشعب أكتشف أن أسمه ثقيل الوطأة على لسان الأعراب. كانوا يبحثون دوماً عن من يعيش عدنان بينهم ويرافقهم، وليس عنه هو. يأتي إلى بلاده فارعاً طولاً وعرضا فلا يرونه، يصوبون النظر على من معه من زملاء أو أصحاب “فرنجة”. كان يتجمد في مكانه، وكان أصحابه “الفرنجة” هم من يتقدمون … لأنهم “خبراء” و”مستشارون”. لا يهم إن لم تكن كفاءاتهم تؤهلهم لأي عبقرية مميزة او خبرة او ملفتة، المهم انهم أجانب. أصبحوا أعلاماً يُستشارون ويشيرون في بلاده في أشياء كثيرة. من هذه الاشياء وهذا ما صدم عدنان في العمق وصولاً الى المرارة، قدموا استشارات “ثمينة” و”مكلفة” في الثقافة واللغة العربية والإعلام العربي … وكيف ننتج أيضا ثقافة عربية! صحيح أنهم لا يتحدثون العربية، ولا يعرفون الثفافة، ولا ما يحزنون أو ما يفرحون، لكن ذلك كله لا يهم، المهم هي “أفرنجيتهم”. مستشارون مستشارون، وخبراء خبراء، ومدراء مدراء، من كل رقعة من رقاع بلاد الفرنجة جيء بهم إلى بلداننا كي يقولوا لنا كيف نكون نحن! قال عدنان لنفسه بحنق، نفهم أن يكونوا في حقول التقنية والتكنولوجيا، أما أن ينظّروا علينا فيه ميدان الثقافة واللغة والإعلام والاجتماع وحتى الدين، فهذه سفالة ونقطة آخر السطر. مؤهلاتهم الأساسية: سحنة غربية (شعر أشقر، وعيون ملونة)، وإسم أجنبي. لكن المشكلة بصراحة ووضوح ليست فيهم، بل في من جلبهم!
على العموم أكتشف عدنان المسألة متأخراً. في الحقيقة كان يعرفها مبكراً لكنه تخادع مع نفسه قائلاً تغيرت الأمور. صفعته الأمور في وجهه وقالت أنا لا أتغير! فكر عدنان ماذا يفعل. شعره أسود وعيونه بنيه ولون جلده حنطي، صفات يصعب تغييرها، لكن ليس هناك ما هو مستحيل على الطب المعاصر – وليكن له في مايكل جاكسون القدوة والمثال. عدنان وضع خطة محكمة للعودة ك “خبير” إلى بلاده، لكن على أن يتم احترامه كـ “أجنبي” لا كابن بلد أو عربي. اتخذ عدة قرارات مصيرية: أولاً: صبغْ الشعر الأسود باللون الأشقر، ثانياً، اعتماد عدسات لاصقة تحول لون عيونه إلى الأزرق الفاقع، ثالثاً، عدم التحدث بلغة الضاد لمدة ألف سنة، رابعاً، تغيير أسمه من عدنان إلى جيمس، وبعدها تقديم أوراق خبراته كخبير أجنبي يقطر نقاءاً أجنبياً وبُعداً عن العروبة!
في أرقى مستشفيات الفرنجة بدل عدنان لون جلده، وركب صرامة أجنبية على وجهه، وصبغ شعره وغير لون عينيه. في السجل المدني في أحد بلاد الفرنجة غير أسمه من “عدنان القحطاني” إلى “جيمس اندرسون”. وفي شهادة ميلاده الجديدة غير أسم أمه من “فاطمة دعيبس” إلى “ليزا ويلسون”. وللتخفف من كل الماضي السابق طلق زوجته عائشة وأتخذ له “غيرل فريند” لأن ذلك سيكون أكثر تأثيراً في الوسط العربي الذي سيحل خبيراً عليه لا يُشق له غبار. تعلم الغولف وأعلن أنها رياضته المفضلة، مع أنه كان يمقتها ويراها مملة وتافهة. أدخل نفسه في دورة تأهيلية لمدة نصف سنة تعلم فيها كل عادات وأمزجة “الخبراء الأجانب”. من اليوم فصاعداً لن يقبل أي دعوة إلا على الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال في الطائرات، ولن يحل ضيفاً إلا في أرقى الفنادق، وسيلف ساقاً على ساق فوق أي مكتب أو منضدة أمامه ويواجه بها محدثيه! التواضع السمج الذي تعود عدنان أن يمارسه سيتخلى عنه بالنُهى او بالعصا. البشاشة والبساطة والتبسم المجاني والتلقائية والعفوية والاقتراب من الناس وتحطيم الحواجز الرسمية ورفض التخاطب بالألقاب وكل ذلك من موشحات الخلق السمح وضعها في ثلاجة درجة حراراتها مائة تحت الصفر وأقفلها. “عدنان القحطاني” دُفن، و”جيمس أندرسون” انبعث. جيمس صار خبيراً غربياً يستعرض ذاته في المناسبات ذات العلاقة ليتم التعرف عليه و”اكتشاف” عبقريته من قبل قبيلته السابقة … وحتما سوف يصطادونه!
جاءت فرصة العمل المغرية، قدم جيمس أوراق خبراته من موقعه المتقدم في مؤسسة متقدمة في بلاد الفرنجة، وباسمه الجديد، للوظيفة المُعلن عنها في بلاده. جاءه الرد سريعاً. كان عدنان، المقبور أعلاه، قد تقدم لنفس الفرصة المغرية في وقت سابق، لكن لم يأته الرد بتاتاً. جيمس نظر في عيون عدنان نظرة استهزاء واستخفاف: كان يحمل عرض العمل بيده ويلوح به أمام عدنان كأنما يقول له: مُت كمداً يا ابن قحطان! فرك في جروح عدنان مِلحاً عندما أخبره عن الرقم الفلكي للراتب الشهري، والميزات السنوية، والبيت الفاره، والسيارة، والإجازات السنوية الطويلة، ومنح تدريس الأبناء المجانية. عدنان اغتاظ جداً وتناول منفضة سجائر قريبة وقذفها بغضب شديد على جيمس، لكن هذا المتفرنج كان كان قد طور خبرات متعددة في التمويه وتفادى المنفضة، ثم اختفى … سليماً معافى!
في مدينة من “مدن الملح” حل جيمس ضيفاً على مضيفيه الفرحين بـ “الخبير الأجنبي”. حدثهم جيمس أنه جاء إلى هذه البلاد لأنه “يعشقها” وأنه طوال عمره كان يحلم بأن يأتي إلى الصحراء وشمسها اللاهبة ويعبُّ من سحرها وغموضها! كان جيمس قد قرأ مزامير “الخبراء” الموحدة وعرف أن المزمار الأول هو التغزل بمرؤوسيه وبلدهم وصحرائهم وكل شيء فيهم. قال لهم أن جده لأمه، “مايكل ويلسون”، وهو من فخذ مهم من عشيرة أندرسون الكبيرة، كان قد زار المنطقة قبل ستين عاماً، وترك مذكرات لم تُنشر كتب فيها أشياء مذهلة في عشق هذه البلاد، وأنه من يوم أن وقعت عيون جيمس على تلك المذكرات وهو يحلم ويتمنى أن يقتفي أثر جده. الشيء المدهش أن أجداد كل الخبراء الأجانب كتبوا عنا أشياء رائعة في مذكرات لم تُنشر. تباً للناشرين الكسالى! كان الجميع يُنصتون بانبهار ساذج إلى جيمس، وتطوع بعضهم بالتصديق على بعض الحوادث الصغيرة التي ذكر جيمس أن جده مايكل شهدها أو قام بها أثناء مكوثه سنوات طويلة هنا. فقد تذكر بعضهم أن أجداده في مدينة الملح تلك كانوا قد ذكروا شيئاً ما عن افرنجي ساعدهم كثيراً وان وصفهم له يشبه كثيرا وصف جيمس لجده!
على كل حال مزامير “جيمس القحطاني” اشتغلت بكل نجاح. تسلم عقد العمل والبيت والمسبح والسيارة والخدم والحشم. دخل جيمس بيته الجديد المطل على البحر دخول الفاتحين. مرآه كبيرة وسط البهو الواسع استقبلته بعد أن ودع الحاشية التي أوصلته إلى المكان، خبيراً لا سابق له. تقدم مزهواً خطوتين باتجاه المرآه وحملق في صورته بدقة. تفرس في عيونه الزرقاء اللامعة. مسد شعره الأشقر الناعم الجديد وابتسم. تحسس بشرة وجهه البيضاء باحمرار. فعلاً إنهم أطباء محترفون في ذلك المستشفى، قال لنفسه! نظر أكثر ثم قهقه عالياً عندما رأى “عدنان القحطاني” يحاول الظهور في المرآه ويقفز من خلف صورة جيمس. كرر له اللازمة بلؤم: مُت كمداً يا ابن قحطان!
قبل أن ينقل قدمه خطوة بإتجاه الصالة المطلة على البحر دق جرس الباب الموسيقي بشكل متواصل ومزعج. تحرك جيمس ببطء الخبراء وعجرفتهم وفتح الباب. كانت كل الحاشية التي أوصلته محتشدة وراء الباب، ورئيسهم يحمل ملفه وفيه صورة عن شهادة ميلاد جيمس الأصلية. عيونه حمراء تقدح بشرر، وبصوت من تعرض الى خديعة كبرى قال لجيمس: أنت أمك أسمها “فاطمة دعيبس”؟ أنت مين ومن وين أصلك؟ تعال معنا تعال!
بتصرف عن مقالة نُشرت في نوفمبر 2008 ومن يومها ظل جميس القحطاني يكرر مغامراته!