كنت قلقاً من كل شيء بعد انقطاع لمدة تسع شهور عن كلّيتي في الجامعة وعن أي روتين يومي، لكن لم أرد إلغاء الرحلة إلى جزيرة كريت اليونانية التي خططت لها وجمعت ما يقارب الثمانية أشخاص لقضاء أسبوع على الجزيرة. بصفتي ابن الضفة الغربية، شعرت بواجب وطني تجاه كل أبناء جيل الجدار أن أسبح في البحر المتوسط كل ما سنحت لي الفرصة.
لطالما كنت أخاف الطائرات، لكن مع الوقت اعتدت على الشعور، حسب قدر دوران الطائرة لحظة الإقلاع. لعلّ سعر التذكرة الذي يصل أحيانا إلى ما يساوي الثلاثين “شيكل” كان يضيف إلى الخوف، أو عدم الاقتناع بأن الطيران الذي ما زلت أنظر إليه نظرة الأطفال من الممكن أو من الصحيح أن يكون بهذا الرخص. كان الإقلاع كارثياً، وبعد رهبة دامت لأول ساعة على متن طائرة الـ”ريان إير” وهي أشبه بباص طائر، ضجرتُ من القلق، وأكملت لعب الضاما على هاتفي والاستماع إلى خمسة أغاني لجورج وسوف لا توجد غيرها على ذاكرة الهاتف، اخترتها لأنها تواسي الوحدة.
بعد الخروج من المطار ولِحظّنا دون الاضطرار للخضوع لفحص مرض الكورونا، صعدنا أول باص رأيناه واتجه بنا خلال ساعة لوسط المدينة، أنا وزميل إيرانيّ نعرف بعضنا البعض صدفةً لوجودنا في السكن نفسه في حيّ سوڤييتيّ جنوب مدينة “برنو” التشيكيّة.
أوّل ملاحظاتنا كانت طبيعة الأرض التي لم يخفى على ملامحها مناخ البحر المتوسط، لكن لم نرَ غير ذلك، فقد وصلنا في الليل وكانت الجزيرة كاحلة. قلت لزميلي بأن منطقة المتوسط، بالنسبة لي، عالم لوحده، فقد اعتبرت مؤخرا التقسيم الجغرافيّ بين أوروبا والشرق الأوسط ولا شيء آخر، تقسيما مغالطا للواقع، فكيف لهولندا واليونان أن يصنّفا معا في جهة واحدة، مقابل الشام في جهة مقابلة؟
بعد وصولنا لوسط البلد ما بين الحادية عشرة ومنتصف الليل، اتجهنا إلى أقرب شاطئ في الجهة الشمالية لمدينة “خانيا”، ووجدناه. شاطئ “نيا خورا” كان أسود، أسود، مظلماً، صغير نسبياً ويقبع أمام شارع سياحيّ مضاء إضاءة خليطة ما بين إضاءة الشوارع الصغيرة في حيفا وإضاءة شبيهة بالأحياء الفقيرة في الأردن حيث تسكن نصف عائلتي المهجّرة الذين لم يعد من بينهم سوى أمي للعيش في الضفة الغربية. اجتاحني القلق مجددا، لكني اعتدته منذ فترة، وأحسست بقلبي ينبض سريعا وعقلي يخفّ، وبدأت أفكر فيما أتى بي إلى هنا، وبأن الرحيل من هنا سيكون أيضا على متن طائرة مزرية أخرى؛ كان منظر البحرِ الأسود يخيفني، يبدو وكأنه نهاية العالم ولا شيء إنسانيّ بعده، حيث أن النجوم تمتد أمام المرء وليس فوقه في أفق الليل فوق البحر المسطّح. شساعة لم أعرفها من قبل؛ هل قد عشت في قريتي في الضفة طويلا إلى حد أنني انصهرت معها ولا أقدر على فراقها أبدا؟ هل رأيت المنطقة نفسها طوال عمري إلى حد أن كل شيء جديد يبعث فيّ عدم الارتياح؟ فحتى في الأردن كنت أشعر بالعدم والغثيان بعد أيام قليلة من الإقامة فيها، كأن كل ما أفهمه ليس له أي وظيفة هنا، وكل الحقائق التي أعرفها لا تنطبق على هذه البقعة. لكني أعرف جيدا أنني أتكيف في البيئات الجديدة سريعا، وقد كنت لم أفكر بالعودة إلى قريتي بعد ما يقارب السنة من الرحيل إلى عالم آخر هو أوروبا الحديثة. لماذا إذن تبعث بي هذه الجزيرة رهبة كبيرة؟ فقذ ذهبت إلى مدن عديدة لا أعرف فيها شيئا مع جمعة من الأصدقاء وشعرت بنشوة الترحال في كل لحظة، وتعرضت حياتي للخطر ولم يكن لدي أي شك بأن مكروها من الممكن أن يصيبني. لكن الشاطئ هذا، هنا، يشبه ما قد أحلم به في قريتي، وليس ما يمكن أن أراه بعينيّ يوما ما. تلتقي السماء مع الأرض في السواد، والشهاب تتزاحم في السماء، لم أرَ هذا حتى في الداخل المحتلّ، أو ربما لم أتواجد هناك أياما كافية لأرى الشاطئ على هيئة تشبه هذه. ثم إن الكيان الفيزيائي لهذه الجزيرة العتيقة غير متصل بأرض أخرى، فهي قطعة وسط البحر الذي لا تبين نهايته، فكيف يشعر المرء باستقرار في مكان كهذا؟ ماذا يفعل قرويّ مثلي عاش في أراضٍ ثابتة على أرضٍ كهذه، لا صلة بينها وبين العالم؟
التقينا بصديقات شاركننا الرحلة إبحارا من أثينا، وقد جلسنا سويا على الرمل، هم يضحكون وأنا أدفع بالضحك إلى خارج صدري، خائفا من النظر إلى النجوم، قلقا من عودتي في طائرة أخرى لأرض مجهولة أخرى وأندب حظي على “علقة” الكورونا. أنظر بين الحين والآخر إلى فخذَي إحدى صديقاتي، فتاة مولدوفية عاشت حياتها في أثينا على حد علمي، ولا أشعر بأيّ شيء في داخلي، لا رغبة في شيء لم يعد موجودا، وما هو هذا الشيء، فإني لا أعلم، كان موجودا أيام المراهقة واختفى أو تضائل إلى حد أنني لم أعد ألحظه.
“لا أحتاج لأن أحتاج
أحتاج لأن أُحَبّ”
وفي هذه البلاد الحرة المتحررة، ممَّ؟ لا أعلم أيضا، لم أجد الحب، لا رغبة متّقدة كتلك خاصة مراهقي جيل الجدار أثناء خروجهم للصيد في رام الله. هذه الفتاة الفاتنة أمامي ذات الجسد الأنثوي والشخصية الحبّابة وبرج العذراء، الذي غالبا ما تُغرمنَ نسائه بي، هذه الفتاة هي سبب سفري… هذا وتوقي للتجربة الذي لبّيته دون تقصير في أول سنة لي في أوروبا، والتي قد تكون الأخيرة. هذه الفتاة أمامي ذات الملامح الشاميّة هي من قادتني إلى شساعة العالم التي لم أكترث لها يوما. طوال عمري اكترثت بما هو لي، جبلي، عائلتي، بلدي التي اقتصرت الآن تسميتها على الضفة، وليس حتى على كل الضفة، لكنها لي! لا يتوجب أن أقبّل يد أحد لأكون فيها، تحتوي على كل ما أريده شخصيا لو استطعت يوما 'جعلكتها' لما أريد. هذه الفتاة قادتني إلى الشاطئ الأسود، حيث استلقينا تحت النجوم وأخذنا نغني أغنية Poso Lypamae، أغنية يونانية يعرف لحنها العرب من أغنية “يا مسافر وحدك” لعبد الوهاب. واستمرّ قلبي بالنبض سريعا، وأنا أتساءل إن كنت سأنتصر على هذه الرحلة، أم أن هذه نهايتي.
ذهبنا في اليوم التالي إلى شاطئ آخر مع عشرة يونانيين، شاطئ “إيلافونيسي” المشهور، يشبه ترويجات المشربات الغازية على التلفاز. في الطريق رأيت جبالا لم أر بحجمها في حياتي، تشبه جبال أريحا وقممها في الغيوم، وأشجار زيتون لا حصر لها، تملأ الجبال كما في فلسطين. لم يزُل قلقي على هذا الشاطئ، حتى قالت لي أمي عبر الهاتف
“تبنيش عالماضي، تعملش مقارنات”،
ولم يسترح قلبي المتسارع حتى قررت استعماله للسباحة، فأصبحت له غاية من التسارع، وكنت الآن في داخل هذا البحر الشاسع الذي يرهبني وأنا على جزيرة في منتصفه، أما وأنا في داخله فإنه حلم يصبح حقيقة، ولست معتادا أنا على الأحلام أن تتحقق، تنحدر من خيال غنيّ مقدّس إلى واقع فارغ، لا يمكن “جعلكته” إلى أي شيء، لا يشعر المرء تجاهه بالنفَس المحمّل بالشهية، النفَس الذي اعتدناه. لم يكن هنالك أي منطق من تواجد هذا الكم من الخفّة والثقل في حياة إنسان واحد.
بعد نهار من السباحة، والمحاولات القليلة والبسيطة لجسّ نبض الفتاة المولدوفية حول أية رغبات قد تكنّها، فقدت الاهتمام كعادتي، فهذا المخلوق الأنثوي لن أعتاد طباعه في أي وقت قريب في حياتي. صعدنا الباص كلنا، مع جماعة أخرى كنا التقينا بهم صدفة فزاد عددنا، وعدنا إلى المدينة حيث كان من المنتظر أن نلتقي بأحد الشخصيات التي ستغيّر مجرى قصتنا.
أتساءل الآن ما مغزى هذه الرحلة. لا مكان لهذا الرغد في روحي، فأنا أعرف نفسي وليس البحر نفسه ما أتوق إليه، بل السياق الذي يأتي فيه البحر، والآن وهو معرّىً من سياقه يضمحل أمامي إلى مجرد مياه ومياه، ومياه. هل كانت كتب كازانتزاكيس التي أحضرتني هنا، كما كانت قد أذهبتني كتب كونديرا إلى جنازة اسمها جمهورية التشيك، هل كانت كلها خيالات في داخل عقله. هل كانت تجتاحني فكرة أن فلسطين تاريخيا قد أنشأها مهاجرون من هذه الجزيرة التي تشبه شبها مهيبا بلادي؟ هل كانت شهوتي بالمتوسّط هي التي قادتني إليه بعد عشرين عام من النظر نحوه من أعلى جبال قريتي، وكيف كانت قد تكون الحياة لولا الجدار؟ تبدو لي مخيفة الآن، فالجدار مبنيّ في قلبي، هو يعطي المعنى لكل شيء.
على أي حال، إنني هنا وعقلي مشغول منذ جئت، وتعمل نفسيتي فقط على إمضاء كل يوم بيومه. لم أعد أسمع أو أرى أحدا وسط هذه الغرابة، غرابة تشبه الأردن لكن وسط المياه، جبال لا نراها بوضوح بسبب الشمس القاتلة وغبار المسافات، جبال ملئى بزيتون أكثر مما رأيت في حياتي كلها، كأنها طريق جسر الأردن من عمّان على ساحلٍ لا نهاية له. لا بدّ وأن هنالك مغزىً من كل هذه الرحلة سيتّضح في النهاية الغامضة.
بعد انتظارنا له ما يقارب الساعة في محطة الباصات، هاتفني وهو يقول بأنه منذ نصف ساعة ينتظر بي في شقتنا. تركتُ الفتيات وصعدت تاكسي عائدا للمنزل. نحن هنا منذ يوم ونصف، ونسميه منزل؛ ما الفرق بين السفر والهجرة؟ وبين الهجرة والموت؟ هذه أشياء يجهلها عقلي اليافع. أفكار مسممة تبعث فيّ عدم الارتياح.
وصلتُ المنزل ورأيته ينتظر على الدرج، شاب إيطاليّ كان قد عاش معي لنصف سنة، لي معه ذكريات وضحكات لا نهاية لها. دفعتُ للتاكسي وصعدت عبر البلكونة الطويلة المشتركة بين كل المقيمين في الطابق الأول، وبعد المزاح عن مغامرات سابقة، جلسنا نستمع لجورج وسوف ونلعب الضاما، فقد كان من هواة الشطرنج وما يماثله. تعرّفت على صديقه الذي أتى معه، مغربيّ يعيش في جبال بولونيا منذ العمر الحادي عشر، أبوه كان مهاجرا عبر البحر وبعد سنين من العيش في إيطاليا تمكن من إحضار ابنه، وهذا الأخير منذ أربع سنين لم يغادر مدينته لأنه يستفيق على الساعة الخامسة فجرا ليلحق قطار الساعة الثامنة للعمل في مصنع حديد، ويعود ليلا مجددا. قال لي بأن في أشهره الأولى في إيطاليا كان يعمل لعشرة ساعات ويتلقى أجرة خمسة.
تجادلنا حول ما سنفعل في هذه الليلة، فقد وصلوا هم إلى هنا في الساعة العاشرة، ولا يملك أحدنا أي نقود لسيارة أجرة، ولا توجد باصات في الليل على هذه الجزيرة التي لا يعرف حتى “جوجل” أي شيء عن مواصلاتها. قررنا المبيت هذه الليلة لنوفّر الطاقة لنبدأ رحلتنا غدا، لكن هذا القرار سقط بعد ثلاث ساعات، حين تحمّس الإيطاليّ في ربع ثانية وهو لا يرتدي سوى الـ”بوكسر” وأمر صديقه بالوقوف ليذهبا إلى الساحل. لم أستطع تركه يخوض مغامرة لوحده، فخرجنا كلنا على الواحدة بعد منتصف الليل نحو الشاطئ الذي يبعد ساعة سيرا. وجدنا في الطريق سيارة أجرة بالمصادفة واستقليناها نحو صراف آلي لندفع له، ثم إلى الشاطئ. كانت هذه هي اللحظة التي بدى فيها كل شيء عاديّا، أخيرا، بعد قلق لم ينقطع لفترة بدت لانهائية.
كانت الفتيات الثلاثة، وعدد من الأشخاص الجديدين، يجلسون على المقاعد البلاستيكية بجانب البحر، ولم يأخذنا الكثير من الوقت لننزل للسباحة. ذات الشاطئ الأسود الكاحل مرة أخرى والنجوم التي لا تشوّش رؤيتها أي غيوم، سماء تبدو ممتطّة مقارنة بسمائي القروية، وأمامي المولدوفية وصديقتها، والإيطاليّ والمغربيّ، ولا شيء آخر غير المياه السوداء التي تتشابك مع السماء المتلألئة بالنجوم في نقطة غير واضحة. “صفنت” في هذه اللحظة التي تشبه خيالي، وسبحنا لساعات سباحة لا يشبع منها المرء أبدا. ما زالت هذه الليلة معلّة في ذاكرتي، لم تنتهي حتى الآن.
تحت حرّ ظهيرة اليوم التالي، مشينا شارعا كان من الممكن أن يكون في أي قرية في ريف الضفّة. ذهبنا بالباص إلى وسط المدينة ومارسنا الروتين المقدّس لدى الإيطاليّ، شربنا كوبا من الإسبرسو في مقهى بينما كنا نبحث عن مكان يمكنه إيجارنا سيارة لثلاث أيام. نجح المشروع وحصلنا على سيارة “مايكرا”، والتي ينسابها اسمها، فهي مايكروسكوبية، وتركناها مركونة دون قيادة لنلتقي بالفتيات في مطعم ما للغداء. أكلنا صحنين من “ورق الدوالي” على طاولة مجاورة لطاولتهنّ، ثم قدّم لنا النادل هدية مجانية من قطعة حلوى لكل شخص وزجاجة من مشروب الراكي الشعبيّ لكل طاولة. اتفقنا بعد أن انتهينا أن نذهب إلى شاطئ مشهور يبعد ساعة عن المدينة لأن السيارة كانت بحوزتنا، وفي اليوم التالي كان علينا الذهاب إلى مسار مشهور عبر جبال كريت من الصباح حتى المساء ولن تتسنى لنا قيادة السيارة. انطلقنا قبل الفتيات في المايكرا، وكنت أقلّب بالأغاني بين العربيّة واليونانية، اللاتان لا فرق بينهما لأذن غريبة، وخلال ذلك أنظر من الشباك وأصوّر حقول الزيتون والحشائش والبلّوط التي لا نهاية مرئية لها، مثبّتا قبّعتي القشّ على رأسي لأن لا تأخذها الرياح.
بدأت الجبال التي نقود عليها بالعلوّ، وأصبحنا لا نرى سيارات أخرى على الشارع. بعد نصف ساعة من بانوراما المساحات، وصلنا إلى نهاية رأس جبل وفيه مركن للسيارات لا توجد فيه غير سيارة مزارع. أكملت المايكرا طريقها بضع أمتار، فانكشف أمامنا علوّ شاهق – ولم أعرف معنى هذه الكلمة حتى رأيت جبال كريت – وظهر تحت الجبل الذي كنا عليه جبل آخر يمتدّ تحته البحر في كلّ الجهات بلا حدود. كان البحر أكبر وأشسع من أي شيء رأيته في حياتي، وكنتُ كمن شهد لتوّه جريمة قتل وتمنى لو أنه لم يكن قد نظر إليها أبدا. كلنا أخذنا نصوّر، بينما كانت تهبط المايكرا منعطفا تلو الآخر، وأنا متمسّك بمقبض الباب بشدّة ولا أطيق النظر بعيدا عن الأرض تحتي. وصلنا نهاية الشارع المنحدر وركنّا السيارة، خرجتُ بقبعتي وأبصرت أمامي الشاطئ الذي يدعى “سيتان”، بين جبلين منفلقين تتسلقهما المعز وبينهما تراب أبيض وبضع أشجار تشبه شيئا من الزيتون والكينا بورق يشبه ورق الغار، وكان النظر من أعلى الجرف الذي نقف عليه إلى أسفل الحافة مثل النظر في عيون الـ”شيطان” فعلا. أثارت المنطقة بارتفاعاتها قلقي في البداية، ثم سبحنا في موج هائج يسحب المرء إلى الداخل كالميغناطيس، فلم يذهب أحد ممن كانوا هناك إلى أبعد من بضع أمتار، باستثناء الإيطاليّ، فقد كان في منتصف طريق الفلقة بين الجبلين إلى البحر، ولم أدر كيف تمكن من العودة حيّا دون أي مجهود. كان هذا الشاب قد تربّى في قرية جبلية في منطقة قريبة من بولونيا، عدد أفرادها 100، ويبدو أن بعد طفولة كهذه يرى المرء العالم كأنه ملعب كرة قدم. أما من منظور آخر، فقد كان هذا إنسانا حرّا سافر كل أنحاء أوروبا دون الاضطرار لإصدار جواز سفر، مثله مثل الفتيات اليونانيات اللاتي تبحرن إلى جزيرة مختلفة كل أسبوعين. لم أدر مَن كان الضحية هنا، أنا أم هم.
قبل غروب الشمس بما يقارب الساعة، بعد اختفائها تماما من شاطئ سيتان، ظهرن الفتيات من أعلى الجبل ينحدرن عن صخور الجبل ببطئ، واقترح الإيطالي مازحا أن نهرب من الجهة الأخرى أو نسبح لجزيرة أخرة لأننا مللنا الشاطئ ولم نرد البقاء لساعات أخرى. كل تفاصيل ما تبقى من النهار كانت غير مهمة، باستثناء أنني اغتنمت كل فرصة للمزاح مع المولدوفية؛ أرشقها بالماء حين تنشف، وأشدها من يدها حين تدخل المياه مجددا لنقع سويّا في هدوء الموج المتخابط.
في طريقنا عودة إلى المنزل، توقفنا بالقرب من أول مطعم وجدناه ونزلنا أربعتنا حيث أن الفتيات ذهبن طريقهن عائدات إلى المدينة. كان المطعم على زاوية شارع هادئ مليء بالبيوت، بشبه مطعم “جاسمن” في الطيرة، تحيطه أشجار الزيتون وتديره شابة بدت في أواخر العشرينات، تمزح مع الجميع وتضحك دائما مثل بقية الشعب اليوناني. بعد عشاء من أسياخ الكباب وما إلى ذلك، ركبنا المايكرا مرة أخرى، وفي اللحظات التي كانت الرياح تهبّ علينا من الشبابيك تحت أضواء الليل، زال القلق من قلبي كأنه لم يكن موجودا. كان كل ما أردته أساسا هو قضاء وقت خفيف مع هذا الشاب الذي افتقدته في الشهور الماضية الفارغة، وفي لحظات كتلك كنت أصحو من اجتياحات التفكير المهيمن وتبدو وكأنها لم تكن أصلا. ركنّا السيارة على رصيف بجانب مزرعة للدجاج والخراف، لكن وقتها كانت الليلة مظلمة ولم نكن قد رأينا أية حيوانات. خلدنا إلى النوم استعدادا لأن نستفيق في الصباح التالي في الساعة الخامسة لنذهب إلى مسار مشهور في جبال كريت.
رنّ المنبه الأول، ثم الثاني ولا أدري كم بعده ولم يستيقظ أحد إلا حين بقي لدينا عشر دقائق للوصول إلى وسط البلد لنلتحق بالباص، فهرعنا باللباس بينما كان الغثيان يصيبنا كلنا من قلة النوم، وكان المغربيّ ينطلق بسرعة في السيارة ثم يتوقف فجأة عند إشارة “قف”، ثم ينتظر الإشارة الحمراء وما إن تصبح خضراء يحاول الانطلاق لكن تنطفئ المايكرا في منتصف تقاطع الطرق الفارغة. وصلنا قبل الباص بدقائق والتقينا بالبقية، ثم ركبناه لثلاث ساعات من النعاس والشمس الصباحية والجبال التي تتعالى وبين الحين والآخر يلقي أحد نكتة من مسلسل “فريندز” الذي كنا قد حفظناه كلنا. وصلنا موقف باصات بجانبه مطعم اشترينا منه بعض المأكولات للطريق وقهوة الصباح التي شرب منها الإيطالي رشفة وألقى بها في القمامة، مع أنها كانت على حسابي، لأنها “أميريكانو” وهو لا يشرب غير الإسبرسو الإيطالي. دخلنا المسار من أعلى جبل كان الأول في سلسلة جبال مضيق “ساماريا” المشهور، كان قد انشقّ المضيق بفعل نهر جارٍ بين مجموعة من الجبال، يمتدّ حتى قرية ساحلية. كان ما رأيته أمامي مخيفا ويثير الدوار، جبلٌ رفعت رأسي ولم أرَ آخره، ونظرت إلى الوادي أسفله فكانت تفاصيل الوادي غير مرئية. أبقيت نظري على المسار والتقطت صورة بين الحين والآخر. عندما سألنا عن مسافة المسار، ندبنا حظنا على الجواب، فقد كان 15 كيلومترا من الطريق المجندلة أخذتنا في النهاية 5 ساعات لإنهائها.
سرنا وسرنا، نمزج ونضحك طوال الطريق، ننتظر هذا ونلحق ذاك، أقول نكتة فتضحك المولدوفية، ثم نخطط للرحلة القادمة إلى إيطاليا أو فلسطين، ونسأل كل مئة مترٍ عن المسافة الباقية للطريق. حين نظرت في تلك الطبيعة التي ظننت، في إجازتي الصغيرة من دولة وسط أوروبا – دولة مسطّحة وذات أجواءٍ غريبة عليّ، بأنها ستكون طبيعة تشبه دياري وتشعرني بالانتماء والأمان، وبالارتياح من هذا القلق كله – ظننت بأن فلسطينيا يزور هكذا جبال لن يكون ليفكّر بالرحيل أبدا، فعندما كنت أشاهد فيلم الـ”Godfather” وأرى المشاهد المصوّرة في جزيرة صقلية التي كانت قديما تحت سيطرة العرب، كنت أقول بأن الحياة المثالية هي أن يتوافد المرء بين مكان ولادته في فلسطين وبين مكان كهذا، يشبهه لكن يفوقه شساعة وحرية. لكني في جبال ساماريا، التي لم تفاجئ ارتفاعاتها صديقي الإيطالي لأنه من قرية جبلية أعلى من هذه بكثير كما وصف، لم أشعر برفق الطبيعة نحو الإنسان، فهذه الجبال من المستحيل تسلقها أو مصاحبتها، وطبعا إنني أجنبيّ هنا وسائح لا يبدو من الخارج بأنه يختلف عن أيّ أوروبي أو أمريكي أتى لهذه المنطقة ليقضي أسبوعا على الشاطئ ليكتسب لونا برونزيا وبضع الصور من أجل حساباته على مواقع التواصل. وربما لا أختلف عنهم فعلا، فقد أشعرتني هذه الجبال بأنني نملة، وكيف يشعر المرء بأي أهميّة شخصية بعد أن رأى عظَمة جبال ساماريا وارتفاعات إيلافونيسي؟ هل فتى القرية الذي في داخلي عاجزٌ عن الاتّساع ورؤية شيء غير المألوف عليه؟ هل كان وهما أنني في النصف الأول من السنة وأنا أسافر من بودابيست هاربا من عصابة هنغارية إلى أثينا مستقلا باصا ثم قطارا ثم طائرة مع رفيقيّ الإيطاليّ والفرنسيّ بكلّ اعتياد وضجر، كأنني شخصية “بول كيمب” من رواية أو فيلم The Rum Diary؟ كنت معجبا إعجابا شديدا بأن أكون رحّالا يجوب العالم كأنه قريته، وكنت فعلا قد أصبحت ذلك، لكن ماذا حصل؟ هل أوقفت الكورونا العالم كلّه كي تذكّرني أنا شخصيا من أنا، ومن أيّ شوارعٍ اسمنتية أتيت وفهمت من خلالها العالم كلّه، وهل أصبح ذلك الفهم الآن معدوم؟ هل كلّ الكتب التي قرأتها وأنا اتأمل فلسطيني الصغيرة كانت تعني شيئا آخَر؟ هل أنا، جوهريّا، إنسان ذو عقل طبيعيّ قادر على استيعاب العالم خارج الجدار؟ لقد تسرّب شاطئ “نيا خورا” إلى داخل قلبي وأعدم كلّ ما فيّ من ثقة في النفس، ثقةٌ وطريقة في فهم الدنيا لا أعلم إن كنت قادرا على استرجاعها مرة أخرى. كنت قد سعيت من خلال سفري إلى رؤية تلك الغرائب الغير مألوفة التي يتحدث عنها المسافرون والشعراء، لكي أتّسع كإنسان، لكني وقد خرجت من فقاعة راحتي وابتعدت عن المألوف، أشعر بشيء من الاغتصاب، كأنني متّ والآن أنظر إلى الحياة التي كانت بحوزتي من بعدٍ آخر، إلى أقربائي وكلّ من عرفتهم يعيشون في ذلك العالَم الذي كنت فيه قبل أقل من سنة، والآن أصبحتُ مجرّد ذكرى فيه، وأصبح هو بعيد…
“مَن أراك هذا الطريقَ البعيد
مَن أراك هذا الطريقَ البعيد
إلى ’ساو تومي‘
حنينٌ، حنينٌ، حنينٌ،
إلى أرضي تلك
’ساو نيكلاو‘ “
مررنا بلانهائية من الصخور والبلوط والسرو والصنوبر والمياه الجوفية والطرق المنحدرة ثم الصاعدة ثم المستقيمة ومن فوق جسور صغيرة، مررنا بأشخاص مجهولين من مجموعات أخرى وحمارا بين الحين والآخر، وحجرا كل ألف متر يشير لنا بأننا انتهينا من مرحلة وابتدأنا بأخرى، وأحادث المغربي بلهجة جزائرية مؤلّفة لنتمكن من التواصل، والإيطاليّ عن ذكريات السنة السابقة، واليونانيات عن معلومات عن اليونان والعرب والأدب لم يأبه لها أحد ولا حتى هنّ. بعد الثلث الأول من الطريق الذي كنا نمزح فيه ونرمي نكتة بين الفينة والأخرى، والثلث الثاني الذي التقطنا فيه الصّور وبدأنا بعدّ الخطوات حتى الحجر القادم، وصلنا الثلث الأخير الذي يبدو حتى اليوم بأنه لم ينتهي. بدأت أقلق من أن تضربني الشمس لسبب غير منطقي، أو أن يكون انهيار نفسيتي قد يأتي قبل أن تأتي نهاية الطريق ونرى ذلك الشاطئ الموعود، أو أن يحدث شيء ما لأحد ولا نجدة لنا حيث لم تكن تعمل الهواتف في تلك البقعة الواسعة من الجزيرة، فقد كنا ثلاثتنا قد سبقنا الآخرين مرورا بالينابيع والجسور والسيّاح والصخور التي يصعب المشي عليها، وكان المشوّق قد تحوّل إلى مملّ، وحتى مزعج. كانت آخر 5 كيلومترات جحيم، واتّفقنا على سوء القرار بأن نفعل هذا في إجازة مخصصة للراحة مع أننا لم نندم على المجيء ورؤية هكذا طبيعة، وبعد السير مثل العساكر دون حديث أو وقوف لما يقارب الساعة، وصلنا إلى بار صغير مكتوب بجانبه على لوحة خشبية: “تهانينا! لقد اجتزتم مسار شقّ سماريا!” وجلسنا بأقدامنا المتورّمة على طاولة في الخارج نشرب العصير والماء، غير قادرين على الحركة. قررنا أن نكمل طريقنا وننتظر الجميع على الشاطئ لأننا سبقناهم بوقت طويل، فأكملنا حتى وجدنا مكانا فيه بضع طاولات ينتظر فيها الركاب باصا يذهب إلى قرية “سماريا” الساحلية، وصعدنا الباص حين أتى وكان مثل الباصات العمومية في الأردن. لا أذكر اللحظة التي رأينا فيها البحر، فقد أصبح ذلك المنظر عاديا، لكن تفاجأنا بأن لا رمال على الشاطئ، بَل كان كله من الحصى الأسود الذي يحترق تحت حرّ ظهيرة شهر آب، ولم أرد حتى السباحة بل صعدت إلى مطعم مطلّ لأشرب الليموناضة التي أيضا خيّبت الأمل بأنها ليمون وماء فقط. هل في نهاية كل هذه المصاعب سيخيب أملي في كلّ مرة؟ أصنع الموسيقى التي لا يسمعها أحد، أكتب المقالات التي لا يعلّق عليها أحد وعليها بضع مئات المشاهدات والعشرات منها مشاهداتي، أرى روايات تبدأ وتنتهي أمامي ولا يدري بها غيري…
حين أتى البقية سبحنا قليلا ثم انطهينا على حصى الشاطئ جالسين على مؤخراتنا المحترقة، ننتظر السفينة التي ستأخذنا إلى ما ظننت أنها مدينة “خانيا” لكنها كانت قرية أخرى استقلّينا منها باصا آخر وصعد بنا إلى ارتفاعات أخرى أخافتني من النظر إلى خارج الشبّاك مرة أخرى. سار بنا الباص من الجهة الليبية للجزيرة إلى الشمالية، عودة إلى مدينتنا وإلى شقتنا الواقعة في حيّ لا حركة فيه، وبعد كل هذا انطلقنا إلى الشاطئ مرة أخرى في أواخر الليل وكانت عقولنا قد انطفأت من التعب. باشر الجميع بالشرب، وانضم إليهم بضع شباب تافهين قد التقوا بهم صدفة ويلعبون نفس ألعاب الشرب التي تلعبها باقي القارة، “جرأة أم حقيقة” وما شابه، وذهبت أنا أتمشى جيئة وذهابا على شاطئ “نيا خورا”، أحادث صديقاً من البلاد عبر الهاتف وأجلس على حافة خشبية، ثم تأتي لي المولدوفية لتسألني إن كنت بخير وتظهر لي القلق الأموميّ وتسأل لمَ لا أجلس معهم، ليس من فيض حبها بل من فيض سكرها، فتتحوّل رغبتي بها إلى اشمئزاز لهذا الوجه الذي يخرج من الناس بفعل السكر. الوجه الصادق الذي لو بقي ظاهرا طوال الوقت لكان العالم أبسط، لكن الجميع يحتاجون إلى بعض الكحول ليتحدّثون بصدق على ما يبدو. كان عيد ميلاد الشاب الإيرانيّ، فبقي مع البقية من السذّج ليحتفل، وذهبنا ثلاثتنا – العرب والإيطالي – إلى الشقة، وكنت أتسائل في عقلي من سينام الليلة في السرير مع المولدوفية، ولماذا هو وليس أنا، وكم مرة، وإلى متى؟
استفقت في الصباح بجانب زوجتي، الإيطاليّ. كان قد جاء اليوم الأخير له. سنختصر هذا اليوم بشاطئ جديد عاديّ وسباحة ومايكرا وأغاني وطرق سريعة، ركبنا فيه أريكة بحرية يجرها قارب بسرعة فائقة، وكانت تجربة مضحكة ومؤلمة، لم يتحقق فيها حلم الإيطاليّ بأن تطير إحدى الفتيات من الأريكة إلى البحر، ثم جاء الليل. اتفقنا كلنا على الذهاب للمطعم ذاته الذي اكتشفناه في عودتنا من “سيتان”، ذهبنا نحن بالمايكرا ثم أتت الفتيات ترتدي كل منهن أرقى ما عندها. يصرخ الإيطالي على الهاتف كالعادة، فقد قررت إيطاليا اليوم بأن كل من يعود من الخارج عليها دخول الحجر لأسبوعين، ثم أشعل سيجارة حقيقية بدل الإلكترونية وقال “أنا أدخن هذه السجائر فقط إن كنت مسرورا جدا جدا أو غاضبا جدا جدا… لكن خلَص، لن أفكر في ذلك الآن، فلنأكل العشاء”، وملأت المأكولات الطاولةَ والأنابيذُ والبيرة والراكي كلَّ الكؤوس واللحومُ بأنواعها كلَّ الصحون، وضحكنا على اكتشاف الإيطاليّ بأن جيراننا الغجر سرقوا منه مئة يورو، وكنت أقف لأتمشى إلى الخارج أو إلى الحمام لألتقط أنفاسي بعدما كانت تجتاحني نوبات فزع عند النظر إلى الليل الأسود الذي لا يفتح فاه بأي تفسير، على هذه الأرض التي تطفو وسط البحر وتبتعد عن أي جزء من العالم، كأنها في الفضاء وحدها وكل حياتي على الأرض مجرد حلم وانتهى.
لا أذكر كيف ومتى رحلا رفيقاي، لكن الإيطالي لم يرحل دون الانتقام من الغجر فسرق منهم “شبشب”. وأتى اليوم الأخير الذي كنت أخافه طوال الأسبوع، حيث رحل في الصباح اثنين وسيرحل في الليل البقية، وكان يوما فائق الجمال. ابتدأنا برحلة إلى سوق البلدة القديم حيث تباع أصناف الزيتون والليف الإسفنجية والصور الإباحية والتذكارات السياحية والأسماك المحنطة. انطلقنا بعدها خلال أزقة حجرية وردية لاستكشاف مركز المدينة، وأدركت بأن الرفيقين أتيا وذهبا ولم يريا مركز المدينة، وجلسنا في مطعم نستمع إلى عزف ثنائي بزق وجيتار، وطلبت الكباب مع الحمص وخبز الـ”قماج” الذي افتقدت إليه منذ سنة، بينما طلبت المولدوفية طبق من الحلزون وتجرّأت الجميع بالأكل منه، فلم أقبل التحدي طبعا. مضى اليوم وأتى الغروب، وذهبنا إلى المرفأ حيث تضج المطاعم بالموسيقى والشوارع تفيض بالسياح وفنّاني الشوارع من رسامين وعازفين ومغنيين. وفي زاوية بعيدة من الميناء، كانت تجلس لاجئة عربية تدق الطبلة الشرقية مقابل بضع العملات وتردّ الشكر باليونانية لمن يضع شيئا في سلتها، وأبعد بقليل منها كان يونانيا يعزف على البزق ألحانا تحمل من الشجن ما لا يمكن وضعه بالكلمات، كأن إله البحر “بوسايدون” كان يطوف فوقه ويملي عليه ما في قلبه. تجولنا هناك حتى الغسق، والتقطنا الصور الأخيرة لنا مع بعضنا، غالبا الأخيرة إلى الأبد. سرنا إلى موقف الباصات وودعناهن، وذهبن، في باص يقود إلى سفينة عائدة إلى أثينا، وبقيت أنا وشاب لا أعرفه جيدا، بل ليس هنالك ما يعرف عنه، وصديقته التي تساويه بالدهاء، وباقي الليلة غير مهم، ولا بداية اليوم التالي.
لم يكن هنالك إلا “نيا خورا” لتمضية باقي اليوم، فطائرتنا في المساء ورحيلنا الأخير من الشقة كان في الصباح. التقطت بضع صور لذلك الحي الذي يطابق قريتي بالمظهر، ورحلت متأملا تفاصيله؛ حبائل الحشائش والزيتون والبلوط والصبّار والصراصير المزعّقة في حرّ الظهيرة. وصلنا الشاطئ وأمضينا اليوم في السباحة والتقاط الصور والاستماع إلى الأغاني على سماعة صغيرة. دخلت الشاطئ ونظرت، ولاحظت فقلت لرفيقي بأننا أخيرا رأينا نيا خورا في النهار! وكان يبدو عاديا جدا، والسماء قريبة، والمدينة مجردة من سحرها الليلي. و…”في هذه اللحظة كانوا قد رحلوا كلهم. في غضون يومين، لم يبق أحد على الجزيرة لأضحك معه، وأضحكه بنكاتي الحذقة. كل ما كان يقلقني ذهب، واختفى القلق كله وساد مكانه الحزن، على تجربة أخرى تمرّ على قلبي الغير متعاون، على فتاة أخرى أقترب من روحها إلى المرحلة ما قبل الأخيرة، “والحدود التي أوقفتني أوقفتني”، على وداع آخر وقد كرهت طوال عمري الوداعات والبدايات بل وغمرتُ روحي في وسط التجربة وعشقتها عشقا لا حدود له ولم أشأ أبدا انتهاء أي مرحلة بل غادرت رغما عني، والآن أسبح وحدي على شاطئ نيا خورا وأريد أن أفيض على البحر بالبكاء. إنني أفتقدهم، بكل حقّ، ولأول مرة منذ زمن أشعر بهكذا صدق في الإحساس، فعدنما أذكر ليلة كنا أربعتنا في البحر الأسود، وأذكرها تبتسم بطريقتها الساحرة التي تبتسم بها، وأذكر ذلك الإيطالي المجنون الذي يعيش في الدنيا كأنها دار أبيه،” … وهنا انقطع النصّ من مذكراتي لأن دموعي فاضت ولم أشأ أن يلاحظا رفيقاي، فتركت المقعد ونزلت إلى الماء مديرا ظهري لهم، وأجهشت بالبكاء بينما غمرتني المياه إلى رقبتي، وجهي الساخن كوجه الطفل يلتقي بفتور البحر، وأظن أن في لحظة ما نظر إليّ الشاب بطريقة غريبة ولاحظ فيها أن احمرار عيوني لا يشبه احمرارا قد تسببه السباحة، لكنه لم يقل شيئا.
تقول آخر فقرة في مذكراتي:
“أريدُ فقط الرحيل، فهذه الجزيرة أصبحت جرحا عليه أن يندمل. سأعود إلى الشرق حيث الأرض ثابتة، بعيدا عن هذا البحر القاسي. تعود إليّ ذكريات صباحات مبكرة، وقت بزوغ السحَر على قريتي بعد رحيل الجيش وأجسادنا متعبة من ليالي المواجهات والركض في الجبال، حياتنا الساحرة التي لا يراها أحد، وتجارب دفعتنا للرحيل لنخبر العالم روايتنا، واكتشاف أن لا أحد يعرف حتى بإمكانية وجود سحر كهذا في الدنيا. إنني أمقت الحريّة، والخفة، والسعادة السطحية، واكتشفت بأنني لا أريد من العالم الخارجي شيئا إن لم يكن يأتي في سياق حياتنا كأبناء جيل الجدار، لا تعنيني تجربة إن لم أستطع إحضارها إلى الديار، فجذوري أقوى من أن تُقتلع وتُنقل إلى أرض أقل خصوبة”.
أذكر منظر الجبال الكريتية ونحن في الباص إلى المطار، وكانت رؤوسها فوق الغيوم تغمرها الثلوج في منتصف شهر آب. انتهت الرحلة واتّضحت كل مخاوفي بأنها أوهام، حتى الطائرة الرخصية التي تلبّست عقلي طوال الوقت انطلقت بهدوء دون أي التواء، ولا زلت لا أدري إن كانت هذه الـ كريت التي رأيتها حقيقية أم هي في عقلي، وهل السفر، أصلاً، فعل طبيعي وعاديّ، أم لا يجب القيام به أبداً.