ماذا ستعني الحريّة إن لم تعد فلسطين هي فلسطين؟
لقد قفزت العولمة قفزة غير مسبوقة في آخر قرن ويزداد تسارعها يومياً، ونواة هذا العالم الجديد الذي تأخذ كل أنحائه بالتشابه هي أمريكا، لكننا لسنا بصدد شرح كيف فرضت الولايات المتحدة نفسها كالسوق المعتمَد الوحيد من أجل بقاء البشرية. ما نريد مخاطبته هنا هو أكثر بساطة ووضوحاً، وهو متمركز حول النفس البشرية التي تشكّل أصغر عنصر في كل الأنظمة، وكيف تساهم هذه النفس التي هي الفرد في سَيَران النظام الذي يقوم بتحويل كل شبر أرض إلى مشروع تجاري. المجتمع الذي سنناقشه بالتخصيص هو الفلسطينيّ، ولكنه ينطبق بدرجات أقلّ على كل المجتمعات التي كانت في الماضي عاجزة بسبب استعمار ما وتمّ استغلالها كمشروع استثماريّ للاقتصاد العالميّ – وبذلك نعني الغربيّ.
إن عنصر النظام الأصغر هو الإنسان العامل، فبينما العنصر المجرّد يعتمد في عيشه على النظام، يعتمد النظام في بقائه على العناصر كلّها. يمكن تصنيف نوعين من العناصر في سياق النظام، وهما المعتمد والمستقلّ، وما يحدد هذا أو ذاك هو إمكانية العنصر على البقاء دون المشاركة كعضو في النظام، وما يلزم العنصر للبقاء هو الطعام والماء فقط. فإن عنصرا يمتلك أرضا بإمكانها تأمين المحصول الأدنى للبقاء وبئرا بإمكانه تخزين الماء الكافي ما بين آخر هطول للأمطار في الشتاء وأوّل هطوله في الشتاء الآخر، يعيش فعليّا خارج النظام، وبإمكانه المقايضة مع النظام دون دخوله واعتماده عليه (لنأخذ على سبيل المثال البدو الذين يتاجرون بالمواشي أو منتجات الألبان أو أي شخص يمتلك أرضا زراعية يفيض محصولها عن حاجته). فعندما قررت الحكومة الأمريكية استعمار الغرب الأوسط من الولايات المتحدة بعد شراء قطعة “لويزيانا” من نابليون، أصدرت قانونا يعد كل من يريد العمل في الأراضي “الجديدة” بقطعة أرض من ١٦٠ “acre”، أي ما يقارب الـ٦٥٠ دونما، بعد خمس سنوات من عمله فيها لتشجيع التوسّع – ففي هذا دلالة على اعتماد متبادل، حيث كان النظام لا يزال يعتمد على عناصره في وقتها لضمان تطوّره، ومقابل عملهم فإنه سيكافئهم بقدرة استقلالية تتمثّل في الأرض (وفي قانون سابق صدر وتم إلغاؤه بعد فترة قصيرة، لكلّ عائلة محررة من العبودية ٤٠“acre” وبغل).
رغم أن الأرض المقدّسة “عليها العين” منذ خُلقت، وقد امتدّ استعمارها الحاضر في التاريخ منذ استعمارها الأول على يد الإسكندر حتى يومنا هذا، إن ما اختلف في يومنا هذا أن الأرض نفسها لم تكن أبدا سلعة، وبغض النظر عن أيّ استعمار كان فإنه لم يسلّع الأرض نفسها على سكانها أو ما بينهم -فمرّة قايض جدّي دونما مقابل دجاجة- كما يحصل الآن تحت الحكومة الفلسطينية الستلايتيّة*، وكانت ما تزال الأرض مشاع – وذلك لفيض محصولها عن حاجة الناس كلها حتى وإن كان الفائض يذهب إلى الخارج (كما كان الحال تحت حكم الأتراك، الذين كانوا يصادرون فائض المحصول ويتركون للمزارعين ما يكفي للعيش فقط، أو تحت الحكم البريطاني حينما اعتمد الاقتصاد الفلسطيني على تصدير الحمضيات والفواكه إلى المملكة المتحدة ودول الخليج وغيرها). ما السبب، وما النتيجة؟
هنالك سببان مباشران وواضحان، أوّلهما التضييق الصهيوني على الضفّة الغربية بإنشاء البقع العسكرية التي نسميها مستوطنات من أجل السيطرة الأمنية وعزل القرى عن بعضها، وبينما يظن المستوطنون بأن حكومتهم (النظام) تنشئ لهم موطنا في هذه البقع، إنها تضعهم في الخط الأمامي للمواجهة لأن إنشاء هذه المعسكرات يتطلّب أمام العامة أن تكون على هيئة مواطن يسكنها البشر (العناصر). أدّى هذا التضييق إلى انقضاض نحو سوق الأراضي يشبه رمزيا تدفّق التجّار الكبار نحو مناجم الذهب في القرن التاسع عشر. ارتفاع الأسعار كان قد أصبح يعني إمكانية الحصول على المال أو رأس المال السهل، واختصار مشاقّ الحياة (لفترة معيّنة)، والأهم من ذلك وما سنصل إليه لاحقا، تحصيل ما يكفي من المال لبناء بيت. تزامن هذا التحوّل مع ازدياد سرعة النموّ السكاني بفضل تقدّم الطب التكنولوجي ووصول النظام الرأسمالي بدرجة أولى إلى المجتمعات النامية، فقد كان قبل ذلك يستغلّ مصادر هذه المجتمعات ويستخدمها كسوق لتصدير سلعه، أما بعدها أصبح يزرع بذرته الرأسمالية في المجتمع نفسه ليقوم بواجب الاستغلال تجاه نفسه، وهذه الزراعة استراتيجيتها ضخ الأموال الطائلة إلى داخل المجتمعات لفئات أو أفراد، أي الأقليّة. على سبيل المثال، تساهم في تفاقم الاختلافات الماديّة الأموال التي تدخل المجتمع من خلال المؤسسات التي تعمل على خلفية التنمية أو المساعدة، وسنختصرها في مصطلح مؤسسات “الرأفة” التي تقوم بالمشاريع الخيرية وتهرّب أموالا طائلة إلى جيوب الأفراد. تقليص حجم الـ”دولة” بالمعسكرات والمصادرة، تسليع أي شيء عن طريق الملكية الخاصة، وتهريب الأموال إلى الداخل، أحضرت إلى عامة الفلسطينيين واقعا جديدا لا يمكن وصفه إلا بالأمريكيّ، وكانت الأراضي هي الهدف المرصود. نتيجة لذلك انطلق سوق الأراضي انطلاقة مخيفة، وصلت قمتها مع وصول الـ”طابو” والذي هو بمثابة الضربة القاضية.
أما السبب الثاني والأبسط، والذي نتج عن الأوّل وكل ما تلاه، هو فقدان الناس (العناصر) لأرضهم، وبهذا اضطرارهم لدخول سوق العمل واعتمادهم كليّا عليه، أي على (النظام). الجزء الأكبر لهذا الفقدان كان إجباريا، ولكن جزءا لا يقلّ عنه أهميّة كان اختياريا، يتمثّل ببيع الناس لأراضيهم أو هجران أسلوب الحياة الزراعيّ أو البدائيّ بسبب دوافع اجتماعية، وبذكر هذا المصطلح نكون قد اقتربنا من هدفنا الرئيسيّ من هذه المساءلة الاجتماعيّة.
أما نتائج تسليع الأرض فهي لا تغيب عن العين المجرّدة:
-
خلق النزاعات الاجتماعية بين الأقارب والجيران على الأراضي.
-
إدخال أطراف ثالثة رسمية في عمليات المقايضة، والتي أتمّت تحولها إلى الطرف الوحيد الذي يصادق على “رسمية” المقايضة.
-
الزحف العمراني دون سيطرة وتنظيم، واختفاء الملامح الطبيعية التي عرّفت بلاد المتوسّط منذ الأزَل وتحوّلها إلى كتل معمارية.
-
النمو السكاني الفائق عن القدرة والحاجة، حيث ينتج جيل جديد دون أي قدرة أو حاجة حقيقية ليعيش في واقع مهزوم لا يمكنه فيه إلا أن يعيد الخطى السابقة للجيل السابق وإنجاب جيل أكبر في وضع أتعس، فيستمر هذا حتى الانهيار المؤلم للنظام – فإن نسبة الازدياد السكاني السنوي في فلسطين عام ٢٠١٩ كانت ٢.٥٪، بينما في جمهورية الصّين أقل من ٠.٥٪ وفي فرنسا ما يقارب الـ ٠.٢٪، ونسبة الإنجاب للمرأة الواحدة كانت ٣.٨٦ عام ٢٠١٨.
-
اعتماد المجتمع على الوظائف والاقتصاد بشكل أساسي للبقاء حيث أن أساليب البقاء السابقة تنقرض، ويعني هذا أن انهيارا اقتصاديا في الولايات المتحدة سوف يعني أن الأطفال في المخيمات الفلسطينية سيموتون من الجوع. ويبنى على هذه النقطة اعتماد الفلسطينيون بأكملهم على العدوّ من أجل المياه، مثلا.
-
تحوّل الثقافة بأكملها إلى صورة عن مستعمِرها، أي تفكك القيم الاجتماعية القديمة، الجيدة منها والسيئة، وخلق مجتمع يتأرجح بين وهم عن ذاته القديمة ودنوّ ذاته الجديدة عن صورتها المثالية، صورة الغرب. حتى أن في الولايات المتحدة، بؤرة النظام الرأسمالي، يختلف المشهد الريفي عن المدني، وتوجد الإمكانية لأسلوب الحياة الريفيّ بسبب وفرة الأراضي، أما في فلسطين التي تتآكل بسرطان العمران فإن المجتمع يفرض على نفسه الذهاب باتجاه التمدّن دون خطّ عودة. وهذه النقطة بناء على النقاط السابقة.
ما الذي يحرّك نظاما كهذا بهذه السرعة؟
إذا سألنا ما الغاية من تجارة الأراضي في الضفة الغربية، فإن الجواب هو إما الاستثمار بالبيع أو ببناء مبنى عقاري أو تجاري، وهذا يعتمد على موقع القطعة ، أو غالبا لبناء بيت سكني، وهذا ينطبق على بيع الأرض مقابل مال يُستخدم لاحقا لبناء بيت في أرض أخرى، أو شراء الأرض للبناء عليها. وفي حالات نادرة، يكون الجواب هو لاستغلال الأرض نفسها للزراعة أو لمنشآت حيوانية.
فالمحرّك الأساسي للشباب في العمل والتوظّف هو جني المال الكافي لبناء بيت، الدافع الأساسي لبناء البيت هو الزواج وإنشاء العائلة، وفي مجتمع لا يسمح لأبنائه من الجنسين المختلفين بالالتقاء، منذ أولى صفوف المدرسة حتى آخرها، ناهيك عن إقامة أي نوع من العلاقة أو الصداقة، لا يمكن إنكار أن الدافع عند الشباب للزواج هو ليس جنسيّا بحت في معظم الحالات. فبينما نسبة الخصوبة في فلسطين هي ٣.٨٦ للمرأة في فلسطين كما ذكرنا سابقا، فهي ١.٥٥ في الاتحاد الأوروبي، وهذا يشمل كل الجنسيات في القارّة. ويتدحرج هذا النظام في بلادنا مثل كرة ثلجية تزداد مع كل جيل، حيث أن المنزل الواحد سيحتاج إلى معدّل ٣ منازلا أخرى لإسكان أبناءه، ما جعل المدن الكبرى اقتصاديا تلتهم البلدات المجاورة لها، لننضم إلى بقية العالم أخيرا ولكن في كارثة الزحف العمراني نحو ما نظن أنها ستبقى فلسطين.
منذ متى وطبيعة مجتمعنا كما هي الآن؟
يظنّ جيل الجدار، الذي يعتبر مدينة تل أبيب موجودة في عالم موازي أو خيالي، ويعتبر السفر من سابع المستحيلات، بأن فلسطين والعالم بأجمعه قد كان مقيّدا بالحدود الجغرافية والاجتماعية منذ دهور طويلة. بينما لا يتشابه الحسّ بالمساحة بين الجيل هذا بالذات وكل الأجيال السابقة. فلا يمكن لهذا الجيل استيعاب فكرة أن الجيل السابق كان بإمكانه الذهاب ببساطة إلى ميناء تل أبيب والإبحار على متن سفينة إلى أثينا، مثلا، دون حدود.
إن التضييق الجغرافي كان تضييقا فكريّا أكثر من جغرافيّ، وقد عملت المخابرات الغربية منذ دهور على دعم التطرّف الديني في كل البلاد المستعمرة لتتمكّن من إظهارنا إلى العالم بالشكل الذي تريده. لقد موّلت المخابرات الحركات السياسية المتطرفة دينيا ومنذ مئات السنين تضع رجال الدين العملاء في مناصب الحكم المحلّي بالنيابة. لم يتغير هذا التقليد من العثمانيين الذين حكموا باسم الإسلام مرورا بالبريطانيين الذين اختلقوا المناصب الدينية الجديدة في القيادة السياسية الفلسطينية (مثل اختلاق الحكومة العسكرية البريطانية في فلسطين، بقيادة رونالد ستورز، منصب مفتي القدس) وإلى أمريكا وإسرائيل اللاتي قدن التوجّه الاجتماعي نحو التحفظ والتحريم لكل ما كان تاريخيا منتجا لهذه البلاد وأصبح لاحقا “ميزة أوروبية”، ومن ثم استخدمن الظواهر الاجتماعية الناتجة من النشاطات المخابراتية في تسويق صورة جديدة للشرق والعرب والمسلمين. ثمّ بعد مرور وقت كاف، لم يعد الضحايا يدركون ما حدث، وانقرض الوعي بأصل المجتمع وقيمه.
يظهر بعد كل هذا جيل جديد من الشباب المتمسك بدين وهميّ يظن بأن الجيل السابق وكل الأجيال السابقة كانت عليه، ويحرّم رفاهيات الحياة كلها ويبقى أمامه أن يعزل نفسه عن مجتمعه في بيت مع زوج من الجنس الآخر في زواج غالبا ما يفشل، وينتج أبناء يعيدون العملية كلها ويستمرّ النظام بالحركة باستمرار إنجاب الأيادي العاملة وازدياد الطلب على السلع التي من الممكن للغرب أن يسوّقها لهم، وعلى رأسها نفط السيارات، السلعة التي انقلب العالم كله من أجلها في آخر قرن، وكانت من أكبر ضحايا هذا السوق الأمريكي البلاد العربيّة. بينما تستقطب القوى الغربية، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الشباب المتعلّم، المثقف، ذو القدرة على توفير الجهد المتخصص لبناء قارّاتهم، ويفعل هذا عن طريق تسويق الجنس في كل أنحاء العالم، والحرية الاجتماعية، الوجه الذي يغطي أبشع وجوه الرأسمالية، وهو المجتمع الذي يعيش كل فرد لنفسه ويكافح للبقاء وحده. فنجد التسويق للأجساد المثالية على كل الشاشات وفي وسائل التواصل الاجتماعية، وفي الأفلام الإباحية المهندسة لاستعراض أسلوب جماع يوتوبيّ، كلها تستقطب الجيل الجديد من أجل السفر والاستهلاك والاستغناء عن كل ما يتعلق بأسلوب الحياة السابق، أو الـ”طبيعي”.
ما هي نهاية جيل الجّدار؟
إن جيلنا المحلي لا يعرف شيئا اسمه أمل أو حراك، ولا يتخيل أن بإمكانه تغيير ما لا يبدو صائبا، وهذا لأن الجيل نفسه محكوم من جيل سابق ومخابرات وتقاليد مفبركة ومعتقدات مدسوسة وفوق ذلك استعمار، وهذا يعني أن الجيل نفسه ليس موجودا لأن خوف أعضائه من بعضهم يعني أن يسود النفاق على كل العلاقات ما بينهم. لا يبقى أمامه إلا أن يعمل مقابل أي مبلغ يقرره صاحب رأس المال لسنوات شبابه كلها ساعيا في النهاية إلى شيء واحد وهو منزل حجريّ وزوج من الجنس الآخر، وهو مستعدّ لبيع جهده وأرضه وممتلكاته وشبابه وثقافته مقابل الحصول على ذلك.
ماذا سوف تعني الحرية، إذن، إن لم تعد فلسطين هي فلسطين؟ إننا لا نحارب من أجل وطن، بل من أجل دولة. والدولة هي علَم أعطانا إياه المستعمرون، وحدودا رسموها لنا.
*دولة مستقلة رسميًا، لكنها تخضع لنفوذ أو سيطرة سياسية واقتصادية وعسكرية شديدة من دولة أخرى