“الأدب هو ارتكاب العنف المنظّم ضد اللغة الاعتيادية”
اللغوي رومان ياكوبسون
كان القرن العشرين محطة ثورة أدبية تتمثل في ظهور نظريات ومدارس جديدة بتسارع، وتزامنت هذه الثورة مع تطور أسلوب الحياة هبَّت على الثقافات في كل أطراف العالم لدى انفتاح بعضها على الآخر في سياق العولمة غير المسبوقة، فأصبح الأدب ساحة تتعارك فيها النظريات والأفكار والآراء، توثّق فيها كل حقبة من تاريخ كل ثقافة، ويصارع أهل اللغاتِ لغاتَهم في محاولة إعطاء المعنى للجديد، أو للتعبير عن فقدان كل المعنى.
في كتاب «نظرية الأدب» للمنظّر الأدبي تيري إيجلتون، قام الأخير بتصنيف الشكلانيين بأنهم كانوا البداية للتحوّل الذي طرأ على النظرية الأدبية في القرن الماضي. كانت المدرسة الشكلانية (أو الشكلية) الروسية حركة نقدية ظهرت بالتزامن مع الثورة البلشفية عام ١٩١٧، وكانت مثيرة للجدل إلى درجة معارضتها على نطاق واسع من قِبل النقاد التقليديين والبلشفيين والسوفييت معاً، إلى حد إخمادها تماماً في عهد ستالين ليعود الحديث عنها ويظهر أثرها على مجرى الأدب ونقده منذ ذلك الحين فصاعداً.
يمكن القول بأن الناقد الأكثر راديكالية كان فيكتور شكلوفسكي، الذي افتعل الحركة الشكلية بمقاله “الفنّ كأداة”، وقد كان الهدف الرئيسي من الحركة هو تجريد الفن من سياقه الاجتماعي والسياسي، حيث أن النقد الأدبي كان يقوم آنذاك على هاتين الأخيرتين بوصفهما المصدر للمنتوج الأدبيّ نفسه -حيث يُعتبر الأدب جزءاً لا يتجزأ من المجتمع والسياسة في الحقبة التاريخية التي يزامنها- أو كان يقيَّم على أساس أيضاً نفسيّ انطباعيّ حيث كان يعتبَر تعبيراً للكاتب عن كيف يرى هو العالم. لم يكن الأدب في كلتا الحالتين يقيّم على أسسٍ لغوية بحتة، ولذلك أصر الشكلانيون على الإقصاء الكامل للمجتمع والسياسة من سياق العمل نفسه وتقييمه كـ”مجموع الأدوات الأدبية والفنيّة التي يستخدمها الفنان في صنع عمله”، وتحوّل بذلك الفنّ إلى حرفة مجرّدة في نظرة الشكلانيين:
“«دون كيشوت» ليست ’عن‘ الشخصية المسمّاة: إن الشخصية هي فقط أداة وصل بين أنواع مختلفة من التقنية السردية. «مزرعة الحيوان» لم تكن لتكون، في نظرة الشكلانيين، استعارة عن الستالينية؛ بل العكس، فإن الستالينية هي مجرّد فرصة لبناء استعارة. بهذا الإصرار المنحرف حصل الشكلانيون على لقبهم الازدرائي (الرسميّون، أو Formalists) من خصومهم، ورغم عدم إنكارهم بأن للفن علاقة بالواقع الاجتماعي -بل إن بعضهم كان ذا صلة قريبة من البلشفيين- إلا أنهم ادّعوا باستفزاز بأن هذه العلاقة لا دخل للناقد فيها.”
كان تعريف الأدب، إذن، هو “الانحراف عن الكلام العاديّ”، أو “تغريب اللغة”، أي جعلها غريبة، “وبسبب هذه الغرابة، فإن العالم اليوميّ، فجأة، يصبح غير مألوف أيضا”:
“في ظل النمط الروتينيّ لكلامنا اليوميّ، تصبح نظرتنا وردود أفعالنا للواقع بالية، بليدة، أو “تُجعَل أوتوماتيكية” كما يقول الشكلانيون. إن الأدب، بإجبارنا نحو إدراك دراماتيكي للَغة، ينعش ردود الفعل المعتادة هذه ويجعل من الأشياء أكثر ’مرئية‘. من خلال الانجبار على مصارعة لغة أشقّ وبانتباه ذاتيّ أكبر من العادة، فإن العالم الذي تحتويه تلك اللغة يتجدَّد بوضوح.”
“في معظم الأحيان نتنفس الهواء دون إدراك، فإنه، مثله مثل اللغة، الوسط الذي نتحرك في داخله. لكن لو حصل أن أصبح هذا الهواء أخمل مما هو عليه، أو فاسدا، فسيجبرنا على الانتباه لتنفسّنا بيقظة أكبر، وأثر هذا قد يكون تجربة أزخم للحياة الجسدية.”
كان من معارضي الحركة الشكلانية السياسي الثوري ليون تروتسكي، الذي قال بأن أساليبهم التحليلية الشكلية -أو الرسمية- هي “ضرورية ولكنها غير كافية”، وأن الفن الذي هو بالطبيعة حرّ ومستقلّ لا يمكن فصله عن الفنان الذي يخلقه أو/والمتلقّي الذي يقدّر هذا الفن، وهذان الأخيران ليسا ماكينات فارغة، بل بشر على قيد الحياة يمتازان بسيكولوجية معينة وإلى حد ما متّحدة، وهذه السيكولوجية هي نتاج الظروف الاجتماعية. ثم إن النظر إلى الأدب كما ينظر إليه الشكلانيون هو “اعتبار كل الأدب شعرا”، وبسبب نظرياتهم الراديكالية -فمن غير المنطقي فصل الأدب عن سياقه الواقعيّ- انقرضت الحركة في خلال سنوات قليلة، ولكن أثرها امتد في المستقبل حتى أنها كانت من المؤثرات الأساسية على الحركة الـ”بنيوية” اللاحقة التي انتشرت أكبر الانتشار.
من يظنّ أن اسم حسين البرغوثي كان غائباً في هذا المقال إلى حد الآن فليمعن النظر. لننتقل من الاتحاد السوفييتي إلى الخارج جغرافياً نحو فلسطين، وبعد تقريباً بنصف قرن من الزمن حين صدر أوّل ديوان شعريّ لحسين بعنوان “الرؤيا” (١٩٨٩) في سنّ الخامسة والثلاثين، وبقراءة واحدة للديوان يمكننا تفهم المدّة الطويلة التي لزمت الشاعر لإطلاق أول ديوان له، خصوصاً إذا ما قارناه بسائر الشعراء بشكل عام، فإن هذا الديوان كأول أعمال شاعرٍ هي صدمة ثقافية، وبالتخصيص في مرحلة محاولة انتقال الشعر العربي آنذاك من القوميّ إلى السياسيّ العالميّ، ومن التاريخيّ إلى الذاتيّ، ليجمعها حسين في ديوان واحد.
كنتُ الأميرَ الذي غادر الاحتفالَ بيومِ النصرِ بين خيامِ العساكرِ ليلاً، وخلَّى النارَ والخمرةَ والجُنْدَ، وقالَ: “نحو جهاتِ البراري أروحُ”، ويتركُ ضُمَّةً من شَعرهِ لأبيهِ العجوزِ، يبحثَ فيها عن إمارةٍ مندرسةْ.
كنُتُ فرعونَ الذي يرمي عروسَ النيل للنيلِ عند الغروبِ، وكنتُ العبيدَ بروما
عندما قُذِفوا للأسودِ المفترسةْ.
كنتُ اتهامَ الدماء لسهمٍ زجاجيٍّ يختفي داخلَ قلبِ الغزالِ الأخيرْ.
كنتُ المسافةَ بين خُطى دودةِ القزِّ تحتَ شعاعٍ من قمرِ التوت، وبينَ اكتمالِ الحريرْ.
علينا أن نفترض أن حسين، كخرّيج دكتوراه في الأدب، قد مرّت عليه المدرسة الشكلانية في دراساته وكان يعرف بنظرياتها. فهو أيضا يقول: “علينا أن لا نهمل (الشكل الفني)، لأنه بالضبط ما يميّز الشعر عن الأفكار المنثورة (. . .) إن اللغة مادة الأدب، مثلما يعتبر الخشب مادة النجار”. وأشار هنا أيضاً إلى أن النظرة الشكلانية لا يمكن أن تنطبق على الأدب بشكل عام كما تنطبق على الشعر. يقول:
ويفيضُ بئرُ الليلِ في صدري،
وتصعدُ منه سنبلةٌ لا قمحَ فيها
فيأخذنا إلى داخل الأماكن التي في روحه. يقول:
كيفَ أطفو كباخرةٍ من رصاصٍ على بحرِ الحليبْ!
هذي التجاربُ مرَّت،
وطهَّرتُ نفسي من بقايا الترابِ، ومن شهوةٍ للحبيبْ.
سوف أُطفئ نفسي: نيَّةً، نيَّةً،
ثمَّ أمشي فوق ماء العالمِ السفليِّ: فوقي النواحُ وتحتي النحيبْ.
بامتياز في “تغريب اللغة”، على حد قول الشكلانيين، منذ أول قصيدة في الديوان. يقول:
يا روحي جميلٌ ما أحنُّ إليهِ،
أقصدُ أنهراً من غيرِ مجرى…
لستُ أدري كيف؟ أو من أينَ؟.. لكن… ربُّ هذا البرِّ
أدرى.
إنَّ ماءً، غيرَ هذا الماءِ،
يُحيي من يحنُّ إليه، يدعوني لآخذَ نطفةً أُخرى.
وينتصر بعد دهور وتجارب في إبقاء الروحانية والقافية في الآن نفسه بتوازن موسيقيّ ينتشي منه القارئ. يقول:
هذه هي اللغة العجوزُ، وهذه شفتي!
وصياغةَ أُخرى عنيتُ، فعدتُ للسأمِ المتوارثِ في قافيتي!
واللحظاتُ فراشاتٌ حول سراجي، ما عدتُ أحسُّ
بعشقكِ يا غاليتي!
ويتعارك مع سأم القافية التقليدية أمام القارئ. يقول:
يا قيسُ قد أحببتُ، قبلكَ، ليلى الأُخرى
ومنحتُها لشواطئ النسيان والذكرى:
يا قيسُ عاليةٌ ناطحاتُ السماءِ ومن زجاجٍ أسودَ مثلَ
بحيراتٍ ساكنةٍ في الشمسِ
مُسوَّرةٍ بحمامٍ وقصبْ
يا قيسُ عاليةٌ ناطحات السماءِ هناكَ، ومنها
ترى ليلى و”إلزا” تحاولان منا الهربْ.
ويمزج العوالم الفنية معاً، موازيا بين التجريد والاستعارة في لغة صلبة ومرنة في الوقت نفسه، مُرضياً بذلك الشكلانيين ومعارضيهم والتقليديين والبلشفيين أجمعين. يقول:
يا أيُّها القمرُ الهندسيُّ الأحمرُ جئتُ من أرضٍ محتلَّةٍ
من مدنٍ ألفِ مغلقةٍ، والكتاباتُ فوقَ الرصيفِ لجيلٍ من الوردِ،
يخرج سرَّاً،
ويكتبُ بالدمِ ما يشعرُ.
(. . .)
وقلبي سجنٌ داخلِ سجنٍ داخلِ سجنٍ داخلَ سجنٍ،
سربُ سجونٍ مغلقةٍ بالشفتينِ،
فلا تلفظُ في المنطقةِ المحتلَّةِ غيرَ اللفظاتِ المحتلةْ.
(. . .)
لستُ أغني صوتاً منفرداً في أجنحتي،
سأغني كلَّ جناحي، كلَّ جناحي، كلَّ جناحي، لستُ أحرِّرُ نصف فضائيَ
ربعَ فضائيَ، ثلثَ فضائي، سوف أحرِّره كلَّهْ.
هل تفهمني؟ كلَّه!
وأعيدُ إليكَ لتفهم: كلَّ جناحي، كلَّ فضائي، كلَّه.
نحنُ أمام الروحِ المحتلَّة وهي تحلِّق كالرخِّ،
لها اللفظة في أوَّلِ الموج.
فبعد أن يذهب إلى أقاصي التجريد والتغريب، مثل “دهشةَ غابةٍ طارت إلى نجمٍ على ليلٍ يطيرُ”، يعود لمفاجأتنا بإحضار الواقع الفلسطينيّ الذي كان سبباً أساسياً في معاناة الناس أجمعين في حِرَفهم -وهذا يشمل الكتاب والشعراء- والذي كان، بعيداً عن الاستعارة، مقصىً لغوياً حتى نهاية قصيدة “التحولات”.
فبعد أن يقدّم مساهمته الشخصية في تحرير اللغة والشعر من التقاليد والبحور والقومية ويعيد إلى القارئ إدراكه بالطبيعة التي تحيطه بعيداً عن السياقات التي تحيط بها، يراها القارئ بعيونٍ جديدة، مثل “غابةٍ مغسولةٍ بالصَّحْوِ بعدَ المطرْ”، فأين كان حسين كل هذا الحين، بينما كانت ولا زالت ثقافتنا تصارع اللفظ الذي يقيّدها إلى حدّ يتجاوز إدراكها؟
… قلبي منذ قرنينِ يرعى الخيلَ منفرداً في شمالِ المراعي،
ومنعزلاً،
منذُ قرنين،
ملابسُهُ مغسولةٌ باخضرارِ الحقولِ، وقلبي يأتي.
فإن الفنّ “لطالما كان حُرّا من الحياة، ولم يعكس لونه أبداً لون العلم الذي يرفرف فوق قلاع المدينة”، كما قال اللغوي الشكلانيّ شكلوفسكي. وهنا إننا نأخذ الجوانب الفلسفية من النظريات الشكلانية، لنقول فقط أن حُسين كان متقناً للغة كحرفةٍ وقدّم قاموساً جديداً من المفردات نتيجة لبحثه الطويل، إلى جانب إبقاء اللغة المتقنَة تطفح بالروحانية والقضايا الإنسانية. لا لنقول أن الشكلانية بكاملها أو حتى بشكل عام كانت كفوءة كمعيار لقراءة الأدب، بل مجرد نظرية مثيرة للاهتمام.
في كل قصائده يمكننا أن نرى حسين نفسه بهيئات متجددة، أي أن كل قصائده تتشابه ولا تتشابه في آن واحد، فهي تتشابه بأنها “خيانة للمتوقَّع”، وكلماته “مبعثرةٌ كالنجومْ، مُتَصلِّبَةٌ كالحَلَماتِ، وناعمةٌ كالأفعى، ومرتَّبةٌ مثل أوراق القمارْ”، ولهذا لم يكن مفاجئا أن حاربه من جيله من الشعراء المعروفين وغير المعروفين؛ نجح حسين في الخروج عن البحور وفي مقاطع عديدة من قصائده عن القافية أيضا -وأحياناً الخروج التام عن الشعر إلى شبه النثر كما في قصيدة “التنبؤات”- لكن الموسيقى لم تغب عن الكلام المهندَس حيث تنساب القصيدة رغم انقطاع القافية دون انقطاع للموسيقى والتدفّق الشعريّ، فإذا تخيلنا الشعر بأنه نبعة ماء، يكون حسين قد حرص على تدفّق المياه باستمرارية ثابتة لتنساب بين الحجارة بأنماط مختلفة، وذلك دون أن يتقطّع ضخ النبع ويحدث التقطّع اصطخاباً في مجرى المياه. لنأخذ مثالاً قصيراً نسبياً لمرونة القافية في قصيدة من ديوان “ليلى وتوبة” (١٩٩٢):
“كأنَّ الفراشاتِ تفهمُ معنى الكلامْ
فتأتي رفوفاً من البابِ أو ظُلْمةِ الآخرةْ.
والعجوز تتمتمُ شيئاً وتمشي،
وعتمُ الكونِ بحرٌ بلا ساحلٍ،
يمتدُّ في صوتها مثلَ تمتمةٍ عابرةْ.
ورأيتُ العجوزَ طويلةْ
ظِلُّها فوقَ الجدارِ يتمتمُ:
يا أُمَّنا الأرضَ،
لا تتركينا يتامى في الطريقِ الجميلةْ.
وقلتُ إلى ليلى أروحُ وأحملُ سِرَّ المقامْ.
يتم اعتماد وزن مبدئيّ (كلامْ)، ثم يبدآن نمطان ثانويان وينتهيان في هذا المثال دون تداخل (آخرةْ، عابرةْ) (طويلةْ، جميلةْ)، ثم يعود الوزن الأساسيّ لختام المقطع (“مقامْ” لإنهاء النمط المبتدئ عند “الكلامْ”). كثيراً ما نرى هذه الطريقة بالتقفية في قصائده لكن بتعقيد أكثر، حيث تتداخل الأنماط الثانوية والفوق-ثانوية ويظهر الوزن المبدئيّ (الأوّل) بينها في أواخر غير متوقعة للأبيات، وكثيرا ما يتم إنهاء القصيدة أو المقطع الطويل منها بوزنٍ يظهر للمرة الأولى، فيتحوّل كل سريان القصيدة إلى الصبّ في كلمة واحدة.
يهدف حسين في بحثه عن المفردات، أو توظيف المفردات الاعتيادية في استخدامات غير مسبوقة، إلى الخروج عن السجلّات اللغوية، وهي مجموعات أو تشكيلات من المفردات “الكُتَل اللغوية” التي يتم استخدامها حسب السياق الاجتماعي أو الظرف الذي يتم فيه التواصل اللغوي؛ مثلا، الحديث العام الذي يدور في الشارع يستخدم سجلّا يختلف عن ذاك الذي يستخدمه السياسيّ في خطاباته أو الابن في مخاطبة والده أو الشاعر في نظمه لقصيدته. فهذه السجلّات عادة ما تحكمُ الفنون التي تستخدم اللغة، فإذا نجح الفنان بإنتاج سجلّ ملائم لفنّه ازدهر الأخير وتمكن اللاحقون من الفنانين من الإبداع في هذا الفن، ولنأخذ على ذلك مثال أغاني الـ”بلوز” الأمريكية التي نجحت في إيجاد مفرداتها وعاشت أكثر من نصف قرن حتى الآن. أو في سبيل التقريب، مثال الغناء الثّوري الفلسطيني الذي انتشر لسنوات دعماً للحالة النضالية، ولم يتصعّب في إيجاد المفردات الثوريّة. أما المعضلة تكمن في الحاجة إلى مخاطبة شيء لم يُخلق له سجلٌّ بعد، وهذه الأزمة نراها اليوم قد وصلت في ذروتها عند العرب، حيث أن كلَّ قضية تتم مخاطبتها بسجلّ عرضيّ وعاجز، فلغة الأدب تختلف عن اللغة المحكية، ولغة الدراما التلفزيونية أقرب إلى الرسمية، ولغة الأغاني تتماشى مع السجلّ الدارج أو تحاول تحدّيه بغير نجاح، إلخ…
“يا روحي عدمتكِ، هذه لغتي وقد عجزتْ…”
علينا أن نشير أيضا إلى إحدى العناصر المستخدمة بكثرة في شِعر حسين وهو عنصر الصورة المجازية الغير معقولة فيزيائيا، مثل قوله: “أنا النسرُ فوقَ القناطرِ: كالرغبةِ الواقفةْ”، أو “كقردٍ أبيض اللحيةِ والانحناءِ”، فيعطي صفة اللون للانحناء الذي هو مفهوم ميتافيزيقي، كذلك حال الوقوف للرغبة. يقول “تلتفُّ حولي المسالكُ شائكةَ الاخضرارِ”، فيفعل العكس هذه المرة بإضفاء صفة ميتافيزيقية (“شائكة”) على اللون. يقوم باستخدام الأداة الأدبية المسماة (enjambment) وهي قطع السطر لاستكماله في السطر التالي، لكن يزيد على هذا أن القطعَ يُنتج أيضا صورة ميتافيزيقية:
كيفَ تبردُ في هذي البلادِ الصبايا!
والريحُ حولَ يديهِ ضحايا
تصلّي: يا أنانا افتحي!
فبقطع الجملة يبدو للقارئ في الوهلة الأولى أن “الريحَ” هو “الضحايا”، ثم على السطر التالي تُضاف الكلمة التي تقلب المعنى السابق (“تُصلّي”) فتعود الجملة إلى طبيعتها وتختفي الصورة المجازية: “كيفَ تبردُ في هذي البلادُ الصبايا والريحُ حولَ يديه؟” ومن ثم “ضحايا تصلّي: يا أنانا افتحي”.
سنتجه الآن بعيداً عن الشعر نفسه والأمثلة عليه نحو المذهب الفكري خلف الأسلوب الجديد الذي قدّمه حسين، وهذا متمثل في أوّل عمل له: “أزمة الشعر المحلّي” (١٩٧٩). يطغى الحديث عن الأعمال اللاحقة، بالتحديد عن الأعمال النثرية على حساب الأعمال الشعرية، وعن الأعمال الأدبية نفسها على حساب الأعمال النظرية التي ارتكزت عليها كل الأعمال اللاحقة. في هذا الكتاب النقديّ على هيئة مقالة تحليلية مطوّلة حول الشعر الفلسطينيّ “الجديد” الواقع في أزمة آنذاك، ويقول الجديد “لاستثناء سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد وفدوى طوقان من الدراسة”. قبل الخوض في الكتاب، يجب أن ننوّه إلى أن هذا العمل هو ما أقصى حسين من الساحة الأدبية الفلسطينية بسبب نقده السليط لشعراء تلك الحقبة، كبارهم وصغارهم، رغم مدحه الرائع للجوانب المتميّزة و”الوجه المشرق” لأعمالهم في نهاية البحث. لهذا لا نسمع باسم هذا الكتاب اليوم، الذي ما زال مقطوعا من النشر منذ مدة، والذي كان من المفترض أن تنقرض أهميته مع مرور الوقت ولكن نتفاجأ عند قراءته بأنه يحمل مفاتيح بسيطة وفعالة لأزمة الثقافة العربية التي تزداد حجما دون أي وجهة أو أدوات، تتعارك حتى اليوم مع الأخطاء التي كانت تحكم الشعر الفلسطيني وقتَها.
كان حسين مدركاً لأهمية الحركة البنيوية التي صعدت إلى البروز على نطاق واسع في الستينات وما بعد، واندمجت في مجالات علمية كثيرة منها علم الاجتماع والإنسان (الأنثروبولوجيا) والآثار واللغويات والتاريخ وغيرها… وقد أشار إليها حسين بقوله أن التعبير عن جوهر الفكرة أو القضية يكون بتناول “ظاهرة واحدة وكشف أبعادها، أي تعميق إدراكنا لجوهرها، يجعلها تعكس بقية الظواهر جزئياً (نقول جزئياً لأن كل شيء مرتبط بكل شيء، والكل فقط هو الحقيقة وإدراك الكل مستحيل لأنه ديالكتيكي ومتحرك باستمرار، ولانهائي كمّاً ونوعاً)”. يقول هذا بمناسبة أن الشعر آنذاك، كبقية الفنون العربية المعاصرة حالياً، كان يقوم بذكر ظواهر لا حصر لها للقضية الإنسانية -الفلسطينية تحديداً- عن طريق التعداد (“لجوء وفقدان أملاك وبيوت وموت وبطولات . . إلخ. تحتاج هذه الظواهر لتعدادها عدداً من المجلدات. ولتعداد الضحايا لمثل ذلك العدد”)، بينما من المفترض الخوض في قضية واحدة من منطلق الإنسان نفسه من أجل التعبير عن كل القضايا المترابطة -والترابطات بين الأشياء لا حصر لها- عوضاً عن الخوض فيها بالتركيز على القضية نفسها وليس على الإنسان؛ يقول حسين:
“يمكننا أن نورد قول ماركس: “إن الفنان الحقيقي هو الذي يمسك بالأشياء من جذورها. وجذر كل شيء، بالنسبة للإنسان، هو الإنسان” لنلخص ما قلنا بشكل أدقّ. إن الشعراء الجدد يخوضون في السياسة كسياسة فقط. ولكن عدم النجاح في التوحيد بين الذاتي والموضوعي فنيّاً هو السبب الرئيسي في أن القارئ يحس بأن الشاعر يتكلم عن شيء خارجي بالنسبة له، عن شيء موضوعي بشكل رئيسي، وهذا ما يجعل مركزية الإنسان مغطاة بستار كثيف. لعل سميح القاسم أصاب الحقيقة عندما قال: “لا تغادر هذه الدائرة. أنت محورها اللولبي” ولكن القارئ لا يحس بأنه المحور اللولبي في شعرنا المحلي.”
يمكننا القول دون أدنى شك بأن هذه المعضلة تواجهها كل المحاولات الثقافية العربية في سبيل النهوض من سكرة الاستعمار في وجه الاستعمار الحديث (“neocolonialism”، أو “الاستعمار الجديد”)، وأن الأخطاء التي وقع بها الشعر المحلي آنذاك هي نفسها التي تقع فيها الفنون المحكية في العالم كله وبالتخصيص في مجتمعنا اليوم، مثل الموسيقى والدراما السينمائية والأدب وما إلى ذلك، ويمكننا أن ننسب هذا القنوط الثقافي إلى الحقيقة البنيوية التي تقول بأن كل شيء مرتبط بكل شيء، وبكلمات أخرى، أن الفنّانين مرتبطين بالمرحلة السياسية والزمنية التي ولدوا فيها، ولا يجدون المفاتيح للسجلّات اللغوية العربية رغم تواجد الوعي الثقافي الكبير عند الكثير من الفنانين. ما ينتج عن كل هذا هو المشكلة الأولى التي يخاطبها حسين في الصفحة الأولى للبحث: السطحية.
لم يتحدث حسين بشكل مبهم أو عام في البحث، بل عرض لنا أدواته التحليلية وذائقته الفنية المتمرسة بكل ثقافات العالم (الثقافة أو الأدب “المعولَم”)، فقد صعد على أكتاف مَن هم قبله في الأدب العالميّ ليستمر بالتطوّر ويتجنب التكرار والـ”إضافة العددية” لما هو موجود من قَبل، فرفض ذلك لنفسه ولغيره. يتضمّن العمل هذا على النظريات الأدبية والأدبية-السياسية الممتدة من اليونان العتيقة مروراً بماركس وشكسبير ودوستويفسكي وغوته وإليوت وأراغون والشعراء الفلسطينيين في بداية القرن الماضي ثم منتصفه والحروب والثورات إلخ… حتى وصول الشعراء المحليين الذين لم يقبلوا نقده المبنيّ على آلاف السنين من التطور الأدبي.
لذلك لن نظلم الكتاب أو وقتنا بمحاولة تلخيصه، فقراءته وحدها تنصفه، بالمساهمة التي قدّمها حسين في محاولة “بناء حركة نقدية حقيقية”، وتنصفنا حقّنا بالفهم المتكامل واللقطات الكوميدية اللاذعة. لكن سنقول بأن حسين كان مدركاً بأن بلاده “من أكثر مناطق العالم تعقيداً وتشابكاً وتتطلب أدباً بهذا المستوى أيضاً”.
لم نذكر حتى الآن أن الكتاب ينتصف إلى جزأين، وكل ما قلناه حتى الآن كان من النصف الأول الذي لم يتطرق بعد إلى الشكل الفنّي وانتقاده، حيث أنه خاطب الأزمة الفنيّة من ناحية المضمون وأثره على الشكل. فيما يبدأ الجزء الثاني بعنوان “مدخل لدراسة الشكل الفنّي عند محمود درويش”، يبدأ بتبسيط لنظريات معقدة في مجال اللغويات الذي درسه حسين لسنوات، ثم التحليل العلمي المفصل للغاية لمقتطفات وقصائد درويشية، وهذا النصف الثاني من الكتاب، رغم علاقته المباشرة في قضيتنا اللغوية من الناحية العملية، لا يحتمل التلخيص. لذلك سننهي تعليقنا المطوّل على هذا الكتاب بتحريف خفيف لاقتباس منه:
“…(في) مجتمع يعاني من ’الاستلاب‘، إن مهمة الأدب في نظرنا أن يعيد للإنسان في العمل الفني مركزيته وقيمته وكرامته.”
كان ما أحضره حسين إلى ثقافتنا يشكّل خطراً على الشعراء، الصغار منهم والمشاهير، ولذلك نلاحظ أن أعماله لم تبدأ بالانتشار المنصف حتى بضع سنوات مضت؛ فبإمكاننا القول أن حسين كان شابّاً قروياً من الريف الفلسطيني قام بإحضار ثورة ثقافية مرتكزة على اللغة كمفتاح، وتمّ إخماد هذه الثورة سياسياً مثلما تمّ إخماد كل الثورات التي ولدتها الأرض المقدسة. وكان من الغريب معاداة حتى أحد كبار شعراء العرب له، محمود درويش، رغم أن حسين لم يكنّ له إلا التقدير -الواضح في هذا العمل- فقد قال حسين في مقطع فيديو: “أنا بعتقد إنه محمود درويش لعب دور في تحويلي من طفل أرضي إلى طفل السماء”، وبنى على ما أسّس درويش ووقف على كتفيه مثلما ذكر في “أزمة الشعر المحلي” أن بيرنارد شو وقف على كتفيّ شكسبير، وأن الكتّاب اللاحقين سيتجاوزونه هو بشرط أن يقفوا على كتفيه، وحسين وقف على كتفي درويش وتجاوزه. لكن على عكس بيرنارد شو، درويش لم يسعَ إلى أن يتجاوزه أحد، وهو كبير شعراء عصره، فلم يعترف بأي إنجاز شعريّ لحسين عندما قدّم له رواية «الضوء الأزرق» حيث ابتدأ بالقول: “…تحقّقت شاعريّة حسين البرغوثي الحقيقيّة في «الضوء الأزرق» كما لم تتحقق في محاولاته الشعريّة.”
لكن ما نراه في الواقع هو عكس ذلك، فالمستوى اللغوي في القصائد كان أكبر من الاستيعاب، والأعمال النثرية كانت ثانوية على المستوى الحِرَفيّ، فمن الخاطئ الادّعاء بأنها كانت محور تركيز جهوده. كيف ساهم حسين، إذن، في معركتنا نحو التحرّر اللغوي؟
قدِمنا لنكسرَ بعضَ الأغاني، كحبَّةِ لوزٍ،
ونبحثُ فيها عن حَمامْ
وجدنا جنوداً صغاراً من حجرْ
يسكنون الكلامْ.