حديثي عن أعمال جبرا إبراهيم جبرا الشعريّة مبنيٌّ هنا على قراءة شخصيّة، وبناءً على معرفة هي محصّلة لدراسة قصائد نثر كتبها شعراء عديدين عبر مراحل مختلفة خلال مسيرتها في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية هذا القرن. في هذا السياق تبدو لي قصائد جبرا النثريّة ناضجة منذ بدايتها وبداية ظهور هذا الشكل الشعريّ نفسه. فهي غير مرتبكة وخالية من تعثّر البدايات أو التردّد والهشاشة في أسلوبها. فتقوم قصيدة جبرا، الذي كان أحد المُبشرين بولادة هذا الشكل الشعريّ مع كوكبة من شعراء مجلة “شعر”، على مجازات وصور غير مألوفة، ومفردات وتراكيب نحويّة شعريّة تصل حدّ الغرابة في أحيانٍ كثيرة. وينمّ هذا عن رغبة واضحة، وتفكيرٍ مليٍّ، بكتابة قصيدة تعبّر عن صوتٍ شخصيّ مُعاصر، يطرح أسئلة عصره ويثير قضاياه من منفى وغربة وملابسات العلاقة الشائكة والمرتبكة مع المدينة الحديثة. وهو بالمناسبة الشاعر الذي جمعتْ قصائده مزيجا فريدا من ثيمات أثيرة لدى شعراء مجلّة شعر، كالأسطورة والرمز والفناء والبعث وتجليّات المدينة الحديثة، ومن ثيمات شعراء المقاومة، كالحنين إلى البيت والمدينة الأم والأرض المفقودة والزيتون. وهذا مزيج نادر في تلك الفترة داخل مشروع شعري واحد مشغول بالحداثة من جانب، وبمعاني المقاومة من جانب آخر. والحديث هنا يدور عن ديوانه الأول “تمّوز في المدينة” الذي نشره عام 1959، لكنّ الأمر ينطبق أيضا على مجموعاته الشعريّة المُتتالية “المدار المغلق” عام 1964، و”لوعة الشمس” عام 197، ومجموعته الأخيرة “سبع قصائد” 1990.
ويشير أحمد دحبور أنّ جبرا كان الشاعر التمّوزي الأوّل في الشعر العربيّ المعاصر، الذي وظّف أساطير الخصب والفناء قبل السيّاب نفسه كما يؤكّد ذلك نقّاد آخرون، ويضيف دحبور قائلا: “أما على مستوى الرؤيا الشعريّة، فيمكن القول من غير مبالغة إن جبرا هو واضع ركائز القصيدة التمّوزيّة العربيّة. والتموزيّة نسبة إلى تمّوز، إله الخصب القديم في بلاد الشام وما بين النهرين. وقد قتله الخنزير البرّي، أو إله الشر “موت”، لكنه سرعان ما انبعث من جديد في الصيف فكانت شقائق النعمان هي دمه المتجدّد. ومع أنّ اللحظة التمّوزيّة، في مستواها الميثولوجيّ، هي لحظة زراعيّة مرتبطة بالتربة، إلا أنّ تمّوزيّة القصيدة العربيّة ركّزت على المدينة التي تُميت البطل الباحث عن الحياة له وللجموع، فينتصر عليها بعودته ظافراً”.
ويربط دحبور ذلك بنشأة جبرا وبالسياق الفلسطيني قائلا: “ويجب ألا نغفل عمّا تركته الثقافة المسيحيّة بمحمولاتها الرمزيّة الخاصة بالفداء، في هذه المدرسة الشعريّة. وقد وجد جبرا في موضوع الاستشهاد الفلسطيني مادّة لتعميق المعاني التمّوزيّة في شعره”. ويؤكّد ذلك محمد عصفور الذي أصدر كتابا بعنوان “نرجس والمرايا : دراسة لكتابات جبرا ابراهيم جبرا” وخصّص قسما كاملا للحديث عن تجربة جبرا الشعريّة، فيقول: “وشعره كان يسبق بسنوات ما اشتهر به السيّاب من حيث استعمال الأساطير والصور الشعريّة التي تعبّر عن الجدب والخصوبة والموت والحياة وهي الأمور التي أعطت السيّاب مكانته المتميّزة في الشعر العربيّ الحديث”.
وارتباط جبرا بالشعر رافقه طوال حياته، فرغم تعدّد مواهبه وثراء مشروعه الأدبيّ والفنّي الذي توّزع على الرواية، والترجمة، والنقد، والرسم، والقصّة، فإنّه ظلّ مخلصا للشعر، مُستمرّا في كتابته، وإنْ صدرت مجموعاته بين فترات زمنيّة متباعدة. واشتغل بالتنظير له منذ البداية، من خلال معرفته العميقة والواسعة بالاتجاهات الأدبيّة والشعريّة العالميّة التي برزت بعد الحرب العالميّة الثانية. اعتمادا على كلّ ما تقدّم، نستطيع تبيّن المساهمة التي قدّمها جبرا في تحديث القصيدة العربيّة، شعراً ونقداً وتنظيراً، فقد صاحب مشروعه الشعريّ مشروع نقديٌّ حداثيّ، وأفاد بذلك شعراء عرب آخرين، فاتحا بذلك نوافذ جديدة على القصيدة العربيّة. لذا فإنّ قيمة مجموعات جبرا الشعريّة تأتي من كونها “إحدى المغامرات المتقدّمة في الشعر الحديث ذات الطابع المغاير والتغييري معاً، فضلاً عما يمكن أن يُتفق عليه على أنّها نقطة بداية مع جملة بدايات أخرى، لما آلت إليه قصيدة النثر العربيّة على يدّ روّادها الآخرين، ولهذا فإن أيّة دراسة لتاريخ قصيدة النثر العربيّة تحتّم أن تضع شعر جبرا في موضعه الصحيح، كما يشير خالد علي مصطفى في مقاله “جبرا ابراهيم جبرا شاعراً” المنشور في مجلة آداب، عام 1995.
لكنّ جبرا وإن نضج مبكّرا كشاعر فإنّه لاحقاً لم يتطوّر كثيرا باعتقادي، فحين ننظر للمجموعات الأربع التي صدرت في أعمالٍ كاملة عام 1990، لا يبدو لي أنّ هناك قفزات من ديوان لآخر، أو تطوّرا في أسلوبه، أو تنوّعا في بناء قصائده، أو على مستوى الجملة الشعريّة والتراكيب النحويّة التي تتشابه بين مجموعاته. فبقي الشكل ذاته، وبقي غالبا يراوح بين مواضيعه. ربما لهذا السبب خفت حضور قصيدته لاحقا، ولم يعد مقروءا كشاعر كما كان عليه الحال في نهاية الخمسينات والستينات.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ غرابة لغته الشعريّة من جانب، وقصائده السرديّة الموغلة بنثريتها من جانب آخر، جعلا له جمهور محدود من القرّاء، وقد أشار لذلك في قصيدتين له، متحدّثّا عن عدم فهم القرّاء له، ويقول في قصيدة بعنوان “إلى شيطانة بيضاء” من مجموعته “لوعة الشمس”:
“ماذا أقول، وأنت لا تفهمين
شيئا مما أقول؟
لا تفهمين، كمن أغلق الأقفال على
أبواب ذهنه كلها،
شيطانة بيضاء كبرياؤها
جهل سامق، ذات مُضخّمة
لا ترى إلا ذاتها
في مرآة مظلمة
ماذا أقول لتفهمي ؟
ليست لغتي لغة لك
وفي شرايينك ثلجٌ
لا يذوب.
نطقك أوليّات كله
دون ما يتلو الأوليّات….”
والقصيدة طويلة تنتهي بهذه الفقرة:
“ما الذي بوسعي أن أقول
وأنت لا تفهمي شيئا
مما أقول”
ويقول في إحدى قصائده المعنونة برقم “4”، من مجموعته الشعريّة الأخيرة “سبع قصائد”:
“أحسبُ أنْ قد آن لي
أن أسأل سؤالا
طرحه يوما شاعر بلغة أخرى:
“أغريبةٌ قصائدي؟”
وكما أجاب أجيب:
تمنيتُ لو أنها أكثر غرابة،
مع أنّ ما يبدو جدّ مألوفٍ لعيني
محيّرا يبدو للآخرين،
بل فيه مسٌّ من جنون.”
إن كان في القصيدة الأولى يشير إلى سذاجة القارئة البيضاء فإنه في القصيدة الثانية يتحدّث عن “الغرابة” وليس الغموض. وهذا صحيح فقصيدته ليست غامضة لكنها أحيانا تبدو غريبة الصور والمفردات التي تتابع دون خيط خفيّ يربط بينها. وأحيانا بقصائد موغلة في نثريّتها كما في المقطع الأخير، مما يجعل تواصل القارئ مع القصيدة أمرا صعبا، وأحيانا خالٍ من المتعة.
هناك ما يجعل من ارتباط كلمتين أو تجاورهما مزيجا موحيا بمعاني جديدة ومثيرة، كما يحدث في تفاعل عناصر كيميائيّة غير مألوفة، وهذا ما يفسح المجال لظلال المعاني بالتسرّب إلى نفس القارئ. أمّا لدى جبرا فتملك القصائد لديه فضيلة التفاعلات الجديدة، لكنها صادرة أحيانا عن آليّة ذهنيّة في نسج المفردات وتفاعلها. بحيث ينمّ منطق تجاور الكلمات في عباراته الشعريّة عن فعل ذهنيّ، وليس بناء ًعلى انتقاء وجداني للمفردة، مثل عبارة ” نُطقكِ أوليّات كلّه، دون ما يتلو الأوّليّات”. والنعت هنا يبدو مُتكلّفا في عبارة “جهل سامق”. وهو يُناقض أيضا في هذه القصيدة تنظيرا نقديّا صرّح به في مقدّمة إحدى مجموعاته الشعريّة، بأنّه يتخلّى في شعره عن الصفات واستخدام المصادر، لكنه يستخدم هنا الصفة “سامق” والمصدر “نُطقك”، ويتكرّر هذا في قصائد أخرى. وهذا التناقض شائع بين عالم التنظير الأدبيّ والإبداع عند الكاتب. وحقيقةً لا ضير أصلا في استخدام النعوت والمصادر، لكنّ العلاقة الوجدانيّة بين المفردات هي التي تجعل من بعض التجاورات ساحرة وبعضها الآخر خالٍ من الإيحاء أو محدود التأثير.
لهذه الأسباب مجتمعة فإنّ قصيدة جبرا تقدّم أمرا مهمّا لكتّاب قصيدة النثر اليوم، تقدّم روح بدايات الشكل الشعريّ المولود، ولكنّها بالمقابل تقدّم متعة أقلّ للقارئ العادي اليوم. فرغم أنّ الجدّة والغرابة في اللغة الشعريّة تنمّ عن جرأة ورغبة بالاقتحام وفتح قنوات ومسالك في خيال القارئ، لكنها تبدو أحيانا صورا جافة، تصنع المفاجئة لكنها لا تُحدث الرعشة، وتثير الانتباه والفضول لكنها تترك صدى محدوداً في النفس. وهذا ليس حكم مطلق على شعره، فهناك قصائد كتبها تبدو لي أكثر إقناعا وانسيابيّة، وأكثر قربا وتشابكاً مع النفس، مثل قصيدة “العودة” التي نستشهد هنا بمقطع منها:
“لجئتُكِ من المدينة الكبرى
ولو متأخرّا،
لجئتُكِ من الشوارع الضاجّة
والسلالم الدبقة المعتمة
والغرف المقفلات على الأسرّة
أستنجد فيكِ غربةً أخرى،
أصيح أريد هذا الجسد،
أريده متوتّرا بصوتك، بلفظك،
ففيه غربتي، مدينتي.
لجئتُكِ أشتقّ منكِ شوارعي
جرائدي، كتبي، مراقصي،
أبحث فيكِ عن جوعي وتسكّعي،
أفجّرُ الحسّ من كلّ شِقٍّ
من كلّ زقاق وشرفةٍ فيكِ
أشرب السواد المحيط بشعركِ كما
تشرب الشمس ليلكِ الساجيَ كلّه……”
يرى جبرا في الشعر “وسيلة من وسائل إنعاش المخيّلة القوميّة على مستوى العصر” وقوّة أخرى من قوى التغيير في المجتمع كما جاء في مقدمة ديوانه. ويرى في هذا الشكل الجديد من الشعر الذي يصرّ على تسميته بـ “الشعر الحرّ” توسيعا لطاقات اللغة وأشكال القول، ومؤشرّا لطاقات ما زالت كامنة في كليهما. لكنّ جبرا يبدو اليوم وكأنه الشاعر المنسيّ، وقضية نسيانه كشاعر مسألة حاول أن يجيب عليها العديد من الباحثين والنقّاد الذين يتّفقون على أنّ جبرا لم يأخذ حقّه بالذات كشاعر. أعاد البعض السبب لعدم شعبيّة هذا الشكل الشعري الجديد. وربما أنّ ما ذكره النقّاد كان سببا في تناسيه كشاعر، لكني أعتقد أنّ السبب الحقيقي وراء ذلك هو افتقاد قصيدة جبرا لما يجعلها متوهّجة إلى يومنا هذا. فاستحداث، أو المساهمة في استحداث شكل شعريّ جديد لا يكفي لتحقيق حضورٍ مستمرٍ في الحياة الشعريّة، يجب أن يصاحب ذلك جماليّة خاصة للقصيدة، وجاذبيّة لا تتقادم مع الزمن حتى لو تجاوزنا الشكل لاحقا. فالسيّاب خلّدت قصائده صوره الشعريّة وأساليب القول التي استحدثها وجددّ من خلالها القصيدة العربيّة، أما الشكل الذي استحدثه فقد ألفناه وأصبح خلف الكثير منّا الآن، لكنّ قصائده ما زالت متوهّجة، تُحدث فينا المتعة حتى اليوم.
يقول أحمد دحبور، وهو محقّ في وصفه: “بين إبداعات جبرا، كان الشعر موضع إشكال”. ثم يضيف قائلا “نرى من جهة ثانية شعراء كباراً جادين يبدون حيرتهم من شعر جبرا الذي ظلّ محكوماً بالمعاني والموضوعات، مع أنّه المُبشّر بالثّورة والتجديد وإطلاق حريّة اللغة إلى أبعد مدى… ولكن مهما كان الرأي في شعر جبرا فلا أحسب أنّ هناك من ينكر دوره في دفع الشعر العربيّ الحديث خطوات نوعيّة إلى منطقة الحداثة”.
أخيراً، ولأنّ أيّ حديث عن جبرا الشاعر يقودني إلى تذكّر الشاعر توفيق صايغ، صديق عمره، الشاعر المنسيّ أيضا، الذي كان أحد المساهمين بولادة قصيدة النثر، فإنّي أختمُ هذا المقال بمقطع لجبرا في قصيدة بعنوان “رسالة إلى توفيق صايغ” وهي من ديوان “المدار المغلق”:
“ما عدتُ أريد أن أكتب، ولمن؟
لمن بربك نكتب؟ هل سألت نفسك
هذا السؤال حين امتطيتَ مهرتك البيضاء الفتيّة؟
أندخل عراة بين جمع تسربلوا بالرقع،
أم ندخل مرتدين الوشي والجوخ
بين جمع من عراةٍ يريّلون؟
أبين الكسحاء ننطلق على الجياد الأصيلة؟
مالنا ولهم؟ عشرين سنة ورّمتُ قلبي،
نقّبتُ عيني، جرّحتُ حنجرتي،
أجمع الأفكار والصور وأبثّها مع هبّات الريح
تحمل العشق مني والقلق –
ورفاقي يخزّنون الدنانير لا يقلقهم
عشق لشيء أو أحد
بعشقٍ أبتُلينا كزكامٍ أبدي.”