جبرا إبراهيم جبرا… هل يعرف السندباد معنى الحب؟ 

Red Boats, Argenteuil, 1875, oil on canvas

رزان إبراهيم

ناقدة من الأردن

تبقى هي الأرض، حاضرة بقوة بأشكال مختلفة في ثنايا هذه الرواية عبر شخصياتها المختلفة، ومنهم عصام، الذي حضرت علاقته بلمى بالتوازي مع علاقته بالأرض، فرأيناه مرارا يهرب منها ويسعى إليها في وقت واحد، كمن يهرب من أرضه التي لولاها ما كان شيئا ليعود إليها من جديد.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

17/01/2021

تصوير: اسماء الغول

رزان إبراهيم

ناقدة من الأردن

رزان إبراهيم

ما إن تنتهي من وصفها حتى تجد في نفسك حاجة إلى العودة لتصفها على نحو ثان، وربما تكرر الوصف على نحو ثالث آخر بغية الحصول على قراءة أفضل تليق بها. كتب عنها كثيرون، لكن كل محاولة لا تغني عن محاولات أخرى، بل وربما تكملها أو تخلق حقيقة جديدة فيها. تلك هي رواية «السفينة» لجبرا إبراهيم جبرا التي تعد واحدة من أبرز أعماله التي امتازت بقدرتها على تصوير تعقيدات الحياة بلغة فنية لافتة، وعبر استعارات وإيحاءات متنوعة نجحت في تقديم صورة مصغرة للعالم، بتداعيات ذهنية متدفقة عبرت عنها شخصيات متنوعة بأمزجة وعلاقات داخلية متنامية. 

تقع أحداث الرواية على ظهر سفينة تبدأ رحلتها من بيروت باتجاه أكثر من ميناء أوروبي، إلا أنها تعود بنا للوراء لأحداث وقعت في القدس وفي بغداد على نحو رئيسي. تحرك الأحداث شخصيات مختلفة في أحلامها وآلامها وآمالها، أبرزها المنفي العائد إلى جذوره (وديع عساف) الفلسطيني الذي يعمل في مكتب استيراد وتصدير في الكويت، كذلك المهندس العراقي (عصام السلمان) الذي يلتقي على ظهر السفينة بلمى قريبته التي أحبها وحالت الظروف دون زواجه منها، يلتقيها برفقة زوجها (الدكتور فالح)، إضافة إلى شخصيات أخرى تجتمع في سفينة تمخر فوق بحر ارتبط فترة هدوئه بالخلاص، لكنه شأنه شأن كل شيء في الحياة يخون على نحو مباغت، فيهتاج ويظهر ثعبانا بألف رأس وذيل، بل ويكون قادرا على أخذ المركب الصغير بعداء كما ذبابة يحاول تهشيمها بجسده البذيء، ليخوض كل من على السفينة فترة هياجه تجربة رهيبة، فيتبدى للقارئ أن صورا بعينها للبحر والصخر والماء والنار، تحضر في الصميم من إليغوريا تتخلق داخل عالم تخييلي وفي سياق سردي ذي بعد رمزي بمظهرين: الأول هو مظهر مباشر حرفي، والثاني هو مظهر ضمني تختفي وراءه دلالات نفسية أخلاقية.

كما في جميع نصوص جبرا الروائية، لا تفوتنا ملاحظة هذه القدرة الخاصة على عقد الصلة بين المكان والشخصيات وصراعاتها النفسية المستمرة. مبدئيا كانت “السفينة” بمثابة الوعاء الجامع للمتناقضات الحادة، كما الحب والخيانة ليبدو لك أن ما من شيء إلا وهو مشيد عليهما كما هي حياتنا التي نعيشها بكل تناقضاتها التي تظهرها الرواية. من هذا الباب تظهر الرواية شخصياتها وقد تعاملت مع البحر فترة هيجانه بخصوصية تعكس طبيعتها البشرية، فمنهم من يعتكف في سريره الضيق، ومنهم من يمشي منتصبا غير مكترث بموج أبيض يخبط خبطا عاتيا، بل وتراه متحديا الوحشية التي ما كان يتوقعها من بحر أزرق دمث يحبه. لكنك في الوقت نفسه لن تعدم من يتغلب على بحر لا يختلف عن حياة فيها غصات كثيرة؛ الموت والمرض، الخيبة بالأبناء، والخيبة بالآباء. فيها الشمس التي تحرق القفا، والبرد الذي يشل الأصابع، فيها الموت والقتل وخيانة الصديق في حياة تأكل وتقضم وتضيف وتضخم، وتدق في القلب مسامير المتعة والألم. لكنها هي الحياة التي لا تتعاطف أبدا مع كل من يتخلى عن الأمل، كما أولئك الذين يدخلون بوابة الجحيم كما يروي دانتي تحت مسمى “أولئك الذين عن كل أمل تخلوا”. 

في هذه الرواية يحضر وديع عساف نقيضا للطبيب فالح على النحو التالي:

  • يجسد وديع شهوة الحياة، فيظهر متفائلا وفي ذهنه مهمة يجب أن ينجزها، بينما يجسد فالح شهوة الموت فيظهر ناقما على الحياة، لذلك يأخذ قرارا باقتحام الموت قبل أن يقتحمه الموت، متخطيا غريزة البقاء والحفاظ على النفس، ليظهر متشائما في مدينة الكل فيها يكذب، ولا يسمح له فيها أن يرفع صوته مطالبا بإنسانيته، لدرجة أنه بات يرى الدود في كل شيء، ويرى الناس يتهالكون ويتكالبون.
     

  • كان وديع ذلك المصر على الذهاب إلى العيش في القدس ليكون في أرضه، بينما يسقط فالح في مخالب الألم مع انتكاسة نفسية تحول بينه وبين التوافق مع العالم الخارجي مع عداء انفعالي سادي تجاه الذات انتهى بهزيمة مرة في جو ممتلئ بعواء الذئاب والكلاب.
     

  • يحلم وديع دون انقطاع بأن يتزوج ويجمع بين المرأة والأرض، وينجب الكثير من الأولاد، بينما لم يقنع فالحا الحديث عن الحب، وكان يراه مجرد إفرازات كيماوية وانتفاضات غريزية.
     

والنتيجة أن فالحا كان يرى نفسه كالجذع المقطوع ملقى على أرض آبائه وأجداده، فكان ذلك الغريب المنفصل عن أرضه، بينما كان وديع مصرا على الاتصال بجذوره في القدس، مؤمنا بأن أوجع اللعنات هي لعنة الغربة عن الأرض؛ لم يقبل إخراجه من القدس بالرصاصة والديناميت، ولم يقبل نظرات الشفقة أو التأفف.

نخلص مما سبق أن لوديع منطقه الذي استقاه من روح القدس التي شرب أول بناتها من عين الماء التي تفجرت في الصخر، فكان الصخر والماء سر ميلاد المدينة، وكان شعاره “كن كالصخر، كالأرض التي نشتق من بين صلابتها طراوة الخضرة ونكهة الفاكهة”. أما الهارب من أرضه فيراه شبيها بمغامر يستبد به حس الغربة لكنه لا بد عائد إليها. يقول وديع: “يجب أن تكون لنا تحت أقدامنا أرض صلبة، نحبها ونخاصمها، ونهجرها لشدة ما نحبها ونخاصمها، فنعود إليها”. لذلك رأيناه في حالة ركض مستمرة باتجاه أرض آمن بأنها هي السر، وكان يحدث عصام عن الأرض باعتبارها مفتاح الحياة وسرها، فيقول له: “هي السر في حياتك. مع لمى أو بغير لمى. ستجرك الأرض.. مهما فشلت في الإمساك بها بيديك”.

تبقى هي الأرض، حاضرة بقوة بأشكال مختلفة في ثنايا هذه الرواية عبر شخصياتها المختلفة، ومنهم عصام، الذي حضرت علاقته بلمى بالتوازي مع علاقته بالأرض، فرأيناه مرارا يهرب منها ويسعى إليها في وقت واحد، كمن يهرب من أرضه التي لولاها ما كان شيئا ليعود إليها من جديد. وإن كان وديع قد وجهه لتحويل بوصلته باتجاه بغداد بدلا من السفر نحو الضبابي الوهمي إلى لندن كما حين يقول له: “حريتك هي أن تكون مهندسا في أرضك. مهما ضاقت بك وتفنن في إيذائك”، إلا أن الأرض التي في ذهن عصام هي غير تلك التي في ذهن وديع، فقد كانت وراء ابتعاد والده عنه حين قتل من أجلها، بل وأودت إلى حرمانه من لمى، وكان يعتقد أن وديع تهمه الأرض لأنه نزح عنها مكرها، فكان محروما منها. 

الرواية في عمومها تذهب باتجاه رسالة تقول: إن الناجين هم أولئك الذين يجدون معنى لحياتهم وهدفا لها حتى في أقسى لحظات الألم والمعاناة، فحتى يكون الإنسان جديرا بآلامه لا بد أن يمتلك من القدرة ما يكفي للتحدي والمواجهة. حينئذ فقط يجد المعنى الذي تصنعه قوة يؤمن بها أو إله يعبده أو شخص يحبه. وحين يفقد الإنسان معنى لحياته، تظهر عليه علامات الاكتئاب والمرض النفسي وعصاب القلق، فيطغى عليه الشعور بالفراغ والاكتئاب، لذلك أتت التخمينات تباعا حين رمى الرجل الهولندي نفسه في البحر من على ظهر السفينة، فهل هو الهروب؟ أم اليأس؟ أم هي الشجاعة؟ وهو ما بقي في طي الكتمان لأن الرواية لا تكشف شيئا عن حياته، خلافا لما فعلته مع فالح الذي أظهرته وقد فرغ من قوة يؤمن بها، بينما امتلأ وديع بإيمان قوي بحتمية العودة لأرض منها يستمد سبب وجوده واستمراريته،  لذلك فإنه لم يشأ أن يكون ذلك السندباد الذي ما إن يعود لأرضه حتى يسافر من جديد، ذلك أنه لم يعرف الحب قط، وإلا كان يكف عن الرحيل ويستقر في أرضه؟ 

يبقى أن في وديع عساف شيئا من جبرا الذي عرفناه من خلال ما كتب عن حياته، بما في ذلك ركونه إلى رسومات جعلت راكبا إسبانيا يصفه بأنه غويا العرب، وهي الرسوم التي تظهر فيها وجوه مشطورة نائمة ميتة حمراء وخضراء وصفراء، مع أيد كبيرة مخيفة الأصابع، لكنها لا تعدم أقمارا وشموسا، ليكون الخيال والفن فرصة وديع كما هي فرصة (الروائي/ جبرا) كي ينسحب من واقع مزر إلى عالم خبيء مليء بكل ما نخاف، وربما مليء بكل ما نشتهي، ففي الحالتين تتحقق عملية إفراغ الكوابيس في الصور كما تفرغ الغيمة شحنتها. 

الكاتب: رزان إبراهيم

هوامش

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع