كنت أعمل على تحرير مادة إخبارية تتعلق برفض الممثلة الأمريكية كيرا نايتلي أداء مشاهد جنسية في أفلام من إخراج رجال فقفزت إلى ذهني تداعيات تتعلق بموضوع شبيه في لب نظرية النقد الأدبي.
كيرا نايتلي ترى أن مخرجة (أنثى) أقدر على فهم السيكولوجية الجنسية للمرأة، وأن المخرج (الذكر) ربما يسقط على المشهد تصوراته الخاصة.
نحن هنا أمام إشكالية معقدة يقف أمامها الروائيون أيضاً من الجنسين، والنقاد الذين يتعاملون مع أعمالهم الروائية.
السؤال أثاره الأكاديمي والناقد الفلسطيني د. عادل الأسطة على مستوى آخر. هو يعتقد أنه ليس من حق روائي الكتابة عن مدينة لم يكن مقيما فيها، وكتب أكثر من مقال حول هذا الموضوع وأدرج عدة أمثلة لروايات تدور أحداثها في مدن لم يقض المؤلف جزءاً من حياته فيها.
يقول الأسطة مبررا رؤيته النقدية ” :
“ما كنت لأذهب إلى ما أذهب إليه لولا قراءتي عددًا من الروايات التي تجري أحداثها في بيئة غير بيئة الكاتب، وزمان لم يكن شاهدًا عليه، وملاحظتي ورود أخطاء فيها تشير إلى أنّ الكاتب يكتب عن زمنه هو، لا عن الزمن الروائيّ المسترجع والمتخيّل أوّلًا. كما يبدو الكاتب في مثل هذه الروايات غير محيط إحاطة تامّة بالمكان الذي يكتب عنه، ما يوقعه في أخطاء عديدة في الكتابة عن المكان”.
بغض النظر عن هوية الأعمال الروائية التي يتحدث عنها الأكاديمي الفلسطيني وما إذا كان اعتراضه النقدي الذي أورده هنا له ما يبرره في الروايات المشار إليها، كل هذا غير ذي صلة هنا. السبب أنه لا يمكن تأسيس مبدأ نقدي على ظاهرة محددة مرتبطة بأعمال محددة، هذا لو كانت استنتاجات الناقد وملاحظاته المتعلقة بتلك الأعمال صحيحة.
يوجد مبدآن من أساسيات الكتابة الروائية: المعرفة والتقمص
لنعد قليلا إلى إشكالية الممثلة الهوليوودية . هي تعتقد أن الأمر مرتبط بالهوية الجنسية للمخرج، عملياً تؤسس رؤيتها على مبدأ شبيه بالذي يرتكز إليه الأكاديمي الفلسطيني الأسطة.
هي ترى أن المخرجة أنثى أقدر على فهم وبالتالي تجسيد الانفعالات الجنسية لامرأة على الشاشة من مخرج “ذكر”.
و عادل الأسطة يرى أن من ولد ونشأ وترعرع في مدينة القدس أقدر على تصوير مشاهد الحياة في أزقتها.
كلاهما يلغي مبدأ أساسيا في الكتابة الروائية والتمثيل بشكل عام: المعرفة كأساس لتقمص المشهد، وبالتالي تقديمه روائيا أو سينمائيا.
الموضوع ليس مقصورا على المشهد الجغرافي الذي يقدمه الكاتب في روايته إذن، وهل فعلاً عليك أن تكون من سكان القدس أو يافا أو أي مدينة أو قرية أخرى حتى تستطيع الكتابة عنها. بلعبة بسيطة نستطيع أن نرى عبثية الموضوع، كل ما علينا فعله هو “مط” المبدأ قليلا فيصبح المبدأ النقدي المزعوم كالتالي: المخرج السينمائي الذي يخرج فيلما عن المثليين يجب أن يكون مثليا، وإذا كان بطل الفيلم من العالم السفلي فيجب أن يكون المخرج مجرما أباً عن جد، وفي حال كان موضوع الفيلم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يجب أن يكون إما إسرائيليا أو فلسطينيا. ونفس المبدأ في حالة الكتابة الروائية. لا أظن أن “لعبتي” هنا فيها إجحاف بحق أصحاب الأطروحة المشار إليها، سواء من عالم الأدب أو التمثيل السينمائي، فالمبدأ هو ذاته في جميع الحالات.
الصنعة: craftsmanship
هناك متطلبان أساسيان للكتابة (والتمثيل والإخراج السينمائي أيضا) وهما “الصنعة” أي امتلاك المبدع، سواء كان مخرجا سينمائيا أو روائياً، المهارات التي تؤهله لإنتاج العمل الإبداعي، والمعرفة أي حيازة ما يكفي من الفهم المؤسس على المعلومات عن الموضوع.
في حال الرواية، مرتكزات الكتابة كثيرة وصعب أن أحصرها هنا، لكن ليس بينها أن تنتمي موضوعيا لما تكتب عنه. يمكنك أن تكتب عن أكثر القضايا خصوصية لامرأة أو طفل أو رجل مسن، بينما أنت كاتب أربعيني ذكر.
هناك كاتبات عربيات مرموقات، لكن أعمالهن الروائية/القصصية التي كانت “الروح الأنثوية” فيها قوية لم تكن أفضل أعمالهن: سحر خليفة، نوال السعداوي، رضوى عاشور. أحسست فيها الصوت الأيديولوجي قويا وواضحا. بينما كتب رجال أعمالا تقترب من إنسانية المرأة بشكل احتراف ومبرر معرفيا.
كما يمكنك الكتابة عن أي حقبة تاريخية تشاء، وأي بيئة جغرافية تختار، ما يتطلبه ذلك هو أن تكون قادرا على “تقمص” عالم الشخصية، مشاعرها ، انفعالاتها، لغتها، وهو متطلب شديد التعقيد. كثيرا ما يحس القارئ بالاغتراب عن العمل الروائي الذي يقرأه أو الفيلم الذي يشاهده، لأن الشخصية غير مقنعة في سلوكها، خطواتها، لغتها، انفعالاتها. هذا يعني أن المبدع غير متمكن من أدواته، ولا علاقة لذلك لا بجنسه ولا بسنه أو مكان سكناه.
شكسبير وسيكولوجية الحب
في إحدى مسرحيات شكسبير التي تحمل عنوان “حلم ليلة صيف” يظهر تمكن الكاتب الإنجليزي من السيكولوجية الأنثوية في قضية دقيقة جدا: المشاعر الخاصة! كيف تفكر وتتصرف المرأة العاشقة وكيف تكون انفعالاتها؟
موهبة شكسبير معروفة لنا في مسرحياته الأخرى وكيفية إدارة المشاهد فيها وتوجيه خطوات شخصياتها، لكن المسرحية المشار إليها هنا تمس قضية في غاية الحساسية: أدق مشاعر المرأة العاشقة.
نستطيع أن نقول ذات الشيء عن الروائي الكبير نجيب محفوظ، فقد تنوعت شخصياته ومشاهده الروائية إلى درجة كبيرة، هو يكتب عن مجرمين، نشطاء سياسيين، مومسات، عشاق، أطفال. من حق القارئ أن يتساءل: هل عرف الكاتب كل هذه النماذج البشرية؟ هل عاش في كل تلك الأحياء الشعبية والقصور والڤلل؟ بالتأكيد لا، نجيب محفوظ كان ينتمي إلىى الطبقة الوسطى لكنه كتب عن عالم كل الطبقات والفئات العمرية والأجناس.
طبعا لا ضرورة لأن يكون الكاتب أو المخرج السينمائي بعظمة شكسبير أو موهبة نجيب محفوظ حتى يستطيع اللعب وفقاً لقوانين اللعبة.
معرفة ملابسات وأجواء ما تكتب عنه متطلب أساسي للكتابة الروائية، ومن هنا تتنوع مستويات الكتابة والكتاب. حين أتحدث عن “المستويات” هنا أقصد الجانب التقني تحديدا، فالجوانب الأخرى للأعمال الإبداعية نسبية ولا يمكن تصنيفها نوعيا بسهولة. يمكن للقارئ أو الناقد أن يختلف مع رواية، أن لا يحبها، أن لا يعتبرها “عملا عظيما” بينما يرى آخرون العكس، هذا مشروع، لكنه مشروط أيضا. يجب أن يجتاز المتطلبات الفنية الأساسية، ومنها أن يتحلى المبدع بالمتطلبات المعرفية، التقنية والخبرة اللازمة لإنتاج العمل.
مستويات إشكالية
طبعا تتباين مستويات التحدي الذي يواجه المبدع، حسب الشخصية التي يرغب بتقديمها، ومدى بعدها الموضوعي عنه.
قد يتمكن روائي (ذكر) في الستين من الكتابة عن التجربة العاطفية الأولى لشاب في العشرين، بالاتكاء على الذاكرة والقيام ببعض الأبحاث. تجربة الفتاة المراهقة مع دورتها الشهرية الأولى، الرعب، الضياع، الحيرة وكل الانفعالات المصاحبة شيء لا يمكن أن يعرفه ذاك الروائي لكن هذا لا يعني أنه يحظر عليه الكتابة عنه. هناك أكثر من وسيلة لحيازة المعرفة، منها القراءة، البحث النظري والميداني. يمكنه الدخول إلى الإنترنت وقراءة عدد غير محدود من الأبحاث، كما يستطيع إجراء مقابلات مع فتيات شابات ما تزال التجربة حية في ذاكرتهن.
وفي المقابل، بإمكان كاتبة، أنثى، أن تكتب بمستوى معقول من الأمان عن السيكولوجية الجنسية للرجل، وحيازة المعرفة عبر نفس القنوات المذكورة.
التغيرات التقنية وتطور المعارف ساهمت بتخفيف الأعباء عن المبدعين، بأن جعلت الوصول إلى اي معلومات يحتاجونها سهلا.
هناك تحديات كبيرة تفرضها كتابة رواية جيدة، لكن ليس من بينها معرفة تفاصيل شوارع القدس أو يافا عبر الإقامة في المدينتين لفترات زمنية طويلة .