بعد روايته “فرس العائلة” التي يروي فيها سيرة عشيرة بدويّة في فلسطين، يواصل محمود شقير نبشه “للذاكرة الجماعيّة والتسلّل إلى الأروقة الخلفيّة لتاريخ النكبة” من خلال روايته “مديح لنساء العائلة” الصادرة عام 2015 عن دار نوفل – هاشيت أنطوان في بيروت. ورغم أنّ هذه الرواية عمل تخيليّ، حيث أنّ “لا علاقة لهذه الرّواية بأشخاص أو بوقائع خارجها، والتشابه في الأسماء والوقائع ليس مقصودا” كما جاء في مقدّمة الكتاب، إلا أنها تتقاطع مع الحياة الشخصيّة للروائيّ محمود شقير الذي ينحدر من عشيرة بدويّة استقرّت في ضواحي القدس، وعاش وعمل فيها كما هو حال الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية “محمد الأصغر”. ولا بدّ من الإقرار أنّ التاريخ الأدبيّ سيسجّل أنّ شقير هو راوي الحياة البدوّية في فلسطين، بجوانبها الإنسانيّة المختلفة، وتحوّلاتها الاجتماعيّة الجذريّة، ومراحلها التاريخيّة المتعاقبة على امتداد القرن العشرين، من خلال سلسلة طويلة من الأعمال القصصيّة والروائيّة وكتب السيرة، حيث يصف شقير في هذا العمل من خلال سرد بسيط، مُطعّم باللهجة البدويّة، اصطدام العشائر البدويّة التي استقرّت في القرى وضواحي المدن بواقع اجتماعيّ جديد من جهة، وواقع سياسيّ متغيّر بعد رحيل الأتراك، ووقوع الانتداب الانكليزي، ثم الاحتلال الإسرائيلي لمدن فلسطين وقراها وباديتها.
قد استلهم كتّاب فلسطينيون آخرون نماذج انسانيّة من واقع البادية في أعمالهم، كعدنيّة شبلي التي تروي في روايتها الأخيرة “تفصيل جانبي” قصّة فتاة بدويّة فلسطينيّة في النقب عام 49. وتناولت شيخة حليوي الحياة البدويّة في أكثر من عمل أدبيّ من أعمالها. وهي تقول عن ذلك: “حين كتبتُ عن بيئتي البدويّة في مجموعتي الأولى “سيّدات العتمة”، وأيضا في نصوص “خارج الفصول”، كنتُ أشعر بمسؤوليّة كبيرة اتجاه لهجتي البدويّة التي غُيبّت عن الأدب الفلسطينيّ كما الناطقون بها، وكنتُ وأنا أدوّن حوارات الشخصيّات أو أفكارها أزيل عنهم احساس الغبن والظلم الذي طال البدو في فلسطين”، كما جاء في حوار منشور في صحيفة الأندبندنت العربيّة. وعلى المستوى العربي تبقى الأعمال الأدبيّة التي تناولت هذا الموضوع قليلة بعكس روايات المدينة والريف.
تتحرّك الشخصيّات داخل رواية “مديح لنساء العائلة” في ثلاث فضاءات اجتماعيّة وجغرافيّة مختلفة إلى حدّ التنافر في بعض الأحيان: فضاء البادية وذاكرتها المحتشدة بالقيم والعادات وأساليب الحياة، وفضاء القرية وما يستدعيه ذلك من استقرار وبناء علاقات دائمة مع المحيط، ثم فضاء المدينة المنفتح على المنتجات العصريّة وأساليب الحياة المدنيّة من لباس وعادات وقيم. ويبدو السرد في هذا العمل الأدبيّ أفقيّاً، يمرّ على الأحداث ولا يكاد يتوقّف عند أمر ويتعمّق فيه حتى ينهض ويواصل سيره. كأنه سرد ذو هاجسٍ تأريخيٍّ لأحداث شخصيّة، وإن كانت مُتخيّلة، ووصف لأحداث عامة ذات تأثير فردي. فيبدو النصّ مأخوذاً بنظرة شموليّة تسعى الرواية للإفصاح عنها. ويذهب السرد بلا عقدة، ولا سؤال غامض يقوده، حيث يختار الراوي بناءً فنيّا بسيطا، يتكونّ في مجمله من السرد المتدفق الذي يتقاسمه الرواة تباعا، ويروون قصصهم ويعبّرون عن مشاعرهم في تتابع مستمرّ، غالبا بدون أقسام خاصة تُفرد لكل صوت، كأنه سرد روائيّ واحد مبنيٌّ على تناوب الرواة وتشعّب وتقاطع حكاياتهم ورؤاهم.
ويلامس السرد أجواءً من “الواقعيّة السحريّة” من خلال وصف مثير لبعض المعتقدات والأفكار، كرؤية وضحا للمنتجات العصريّة، فترى التلفاز مسكونا بالأشباح، والراديو مأهولا بالأصوات المثيرة للريبة والخوف. وهذا يُثري من النص، ويجعل منه ذي مستويات متعدّدة، بحيث يتنقّل الراوي بين وصف عادي لتفاصيل واقع محيط إلى آخر غرائبيّ تحرّكه الأساطير والمعتقدات. يقول الراوي:
“تجرّأتْ على الاقتراب من المذياع، وأدارتْ مفتاح التشغيل، صدرتْ همهمة غامضة فارتعبتْ، وقدّرتْ أنّها أيقظتْ الساكنين فيه. لامتْ نفسها وحاولتْ اسكات الهمهمة، إلا أنها لم تكد تلمس مفتاح التشغيل حتى اندلعتْ الأصوات من الداخل. غادرتْ المضافة، وبقيت الأصوات تهدر متشابكة حينا، منفردة حينا آخر” (ص. 30).
ورغم إضاءة الكاتب لجوانب إنسانيّة مختلفة للشخصيّات، من خلال أصواتهم الخاصة، ومن خلال آرائهم عن بعضهم البعض، فإنّ النص يتجنّب السرد العموديّ العميق، والسبر المتأني للشخصيّات، فلم يتوقف عند تفصيلة تصبح مركز العمل وبؤرته، بل أنه سرد أدبيّ عام ذو هاجس تأريخي. وهذا الخيار الفنّي الذي اعتمده روائي قدير كمحمود شقير، يملك طاقات سرديّة كبيرة، وقادر على توليد المواقف، ودفعها في حركيّة عالية، لا يخلو من المجازفة. فأحيانا تكاد تتساوى أهميّة الأحداث في السرد، فيبدو أنّ حادث اطلاق نار على شخص مثل الذهاب إلى يافا في رحلة. ونستدلّ على ذلك بما جرى مع فليحان الذي تعرّض لشلل ساقيه ولفقدان قدراته الجنسيّة كما نستطيع أن نفهم من هذه الجملة: “فأطلق عليّ النار، لكنّه لم يقتلني، تعطّلت ساقاي بعد الرصاصة التي استقرّت في حوضي، وتعطّل لديّ ما هو أهمّ من الساقين” (ص. 19). لكن لم تأتِ الرواية على مشاهد تعمّق من إحساسنا بهذا الحدث من خلال الكشف عن معاناة الزوجين الجنسيّة أمام هذه المعضلة الحميمة، كأن الروائيّ ترك للقارئ تخيّل ذلك. لكنّ لقارئ فضوليٍّ متطلّبّ أنّ يشعر بأنّ هناك شيء تجنّبت الرواية الحديث عنه أو الخوض في غماره، مما يحدّ من إحساس القارئ بمعاناة فليحان. فحين يصف لنا الراوي حدثا ماضيا، ويُغيّب التفاصيل الحميمة التي رافقت الحدث، أو تكون محدودة، أو لا يتم الاستغراق فيها بما يكفي، يفقد السرد حرارة التجربة، وتصبح الأحداث ذات تأثير محدود على القارئ. كونها حدثت في لحظة تفصلنا عنها مسافة زمنيّة، وكوننا لم نستطع استعادة تفاصيل الحدث العميقة، وتداعياتها النفسيّة، فظلّ كأنه حدث عابر، غير مكتمل الصورة، فضلا عن أنّه فاقد لآنيّته وطزاجته.
ويبدو أنّ الروائيّ، لتجاوز هذه الإشكاليّة، اعتمد توظيف الفعل المضارع في أجزاء مختلفة من هذا العمل الأدبيّ في وصفه لبعض الأحداث الماضية، وهذا لتحقيق التجدّد والاستمرار، ولتكريس آنيّة الفعل الروائيّ. كما نرى ذلك في هذا المقطع الذي يتحدّث فيه عن وضحا: “تعيد على مسامعنا سرد حكايات الجدّة من باب الوفاء لذكراها، مع ملاحظة أنّها لم تكن تتقيد بنصوص الحكايات، تتصرّف فيها، وتحذف منها وتضيف إليها، على النحو الذي يناسب مزاجها” (ص.33).
في الرواية نقدٌ لمكانة النساء المُهمّشة، ومحاولة لمنح المرأة البدويّة صوتا من خلال وضحا زوجة منّان. لكنّ هنا صوتَ لامرأةٍ واحدةٍ فقط، بينما بقيت النساء الأخريات مُغيّبات الصوت، تنقل لنا الشخصيّات المُتحدّثة أقوالهن وتصف لنا صورهن وردّات أفعالهن، في تطابق شبه كامل مع الواقع. وتطرّق الراوي لظاهرة تعدّد الزوجات الذي كرّر فعله الأبناء كما الآباء، حتى عطوان الذي سافر للبرازيل تزّوج من امرأة هناك مع أنّ له امرأة وطفل في قريّة رأس النبع. فالرواية التي جاءت مديحا للنساء، كما يُشير عنوانها، تقدّم شخصيّات نسويّة مختلفة، المشترك بينها هو التهميش والتقليل من قدرها. وجاءت الرواية رغم ذلك على العادات السيّئة لنساء القريّة، كالنميمة والانشغال بكشف عيوب الناس، واستجابتهن البطيئة للتغيّر، ففليحان ألحّ كثيرا على زوجته لاستبدال السروال القديم بسروال آخر قصير وعصريّ. ولكنّ هذا يشير في عمقه إلى الظلم الذي لحق بالنساء تاريخيّا، وما ترك من مخلّفات وعوائق نفسيّة.
وهناك أيضا نقد لظواهر جديدة بدأت تظهر مع انتشار المقاومة والحركات السياسيّة والأحزاب، حيث يأخذ بعض الأشخاص ثاراتهم من آخرين، كما فعل سرحان، الذي أطلق الرصاص على فليحان:
“أنا الآن على كرسيّ متحرّك، وسرحان في السجن الإسرائيليّ، وهو مازال فيه ولن يغادره. سرحان أُعُتقل ليس لأنّه أطلق النار عليّ، وإنما لأنّه قبض عليه بعد قيامه بعمليّة مسلّحة ضد دوريّة اسرائيليّة.” (ص. 117).
أسماء الشخصيّات في الرواية تعمّق الإحساس بالبداوة، فهي وضحا وفليحان ومثيلة ومنّان إلخ. وفي المجمل العام يبقى السرد كلاسيكيّا، ذو بناء روائيّ تقليديّ. ويقترب أسلوب القصّ لديه من أسلوب تغريبة بني هلال حيث ذلك المزج ما بين التاريخ والأدب. ويبدو أنّ هذا في الأعماق يعبّر عن خيار فنيّ واعي لدى الروائيّ، الذي يعود بالحكاية إلى طابعها الشعبيّ الموروث. وإنّ كان هذا العمل الروائيّ لا يخلو من التكرار، والبوح المجاني الذي تبدو فيه بعض التفاصيل استطرادا، ومن الرسائل التي تبدو مقحمة في النص دون تمهيد أو مقدّمات رغم إثرائها للسرد، لكنّه عملٌ أدبيٌ جذّاب، يغطّي موضوعا نادراً في الأدب الفلسطينيّ والعربيّ، ويكشف مناطق عن معتمة في عالمٍ مُهمّش.