غير أنني بدأت أدرك الإجابة بعد أن بدأت في قراءة الرواية والتي هي في الواقع القطعة الأخيرة ضمن ثلاثية “فرس العائلة” و “مديح لنساء العائلة” و “وظلال العائلة”، وتحكي الثلاثية سيرة فرع من فروع قبيلة “العبداللات” البدوية، وهجرتها من قلب الصحراء إلى تخوم القدس وبالتالي تحوّلها من قبيلة رعوية إلى العمل في الزراعة ومن ثم التجارة..
أدركت بتعاقب الصفحات أن محمود شقير إنما أراد بهذا الجزء الثالث، أن يكتب رواية تضع المجتمع المقدسي تحت مبضع التشريح، ليجعل من “ظلال العائلة” بمثابة وثيقة سوسيو-أدبية، تحكي الراهن الفلسطيني والوضع في القدس، بمعزل عن القوى السياسية الفلسطينية، فتبدو القدس في الرواية كطائر وحيد بلا سرب، فلا ذكر أو حضور حقيقي للسلطة الفلسطينية أو حركة حماس في عزة.
وُلِد محمود شقير في القدس قبل 80 عاما، أي في 1941، وتحديدًا في منطقة جبل المكبّر، وعاش جل سنوات عمره فيها، ولذلك لم يكن غريبًا أن ينتج الكثير من الكتب والأعمال الأدبية عن المدينة، منها: “قالت لنا القدس”، وهو كتاب سيرة، و”القدس وحدها هناك”، وهو كتاب يوميات، وغيرها من الكتب.
وربما يمكن النظر لهذه الرواية من هذه الزاوية التي أقرها شقير نفسه في أحد حواراته الصحفية: “كل رواية مهما أوغلت في وصف الواقع المعيش، تصبح مع الزمن رواية تاريخية، من حيث هي وثيقة تدلل على زمن ما… والرواية من هذه الزاوية وثيقة لقراءة التاريخ، فهي أكثر صدقًا من التاريخ الرسمي المدوّن من وجهة نظر القوى الطبقية المسيطرة”.
تعكس ظلال العائلة وتضع خطوطًا تحت كل الظواهر الاجتماعية التي أراد شقير التنويه بها، عبر قصة الحب الملتهبة بين سائق سيارة الأجرة المثقف “قيس” حفيد آل العبداللات، والمدرسة “ليلى” بنت الأكابر سليلة عائلة “القانع” البرجوازية التي تعمل في التجارة وتحظى بمستوى معيشي مرتفع. وعبر 4 فصول هي: “ظل، ظل آخر، كأنه ظل، كأنه ظل آخر” يرصد شقير قصة الحب منذ شرارة اللقاء الأول، مرورا بالصعوبات التي واجهها الحبيبان، ورفض عائلة ليلى لقيس ومن ثم إضراب ليلى عن الطعام حتى موافقة عائلته، ومن بعد ذلك الزواج، وانتهاء بالاعتداء الذي تعرضت له ليلى على يد متطرف ديني شوّه وجهها وفقأ عينها.
وتحكي الرواية من ضمن ما تحكيه قصص شخصيات أخرى مثل رهوان، السائق الطائش النزق الذي يتلصص على بيوت المدينة ويعرف أسرارها ويحاول دومًا جر قيس إلى الهاوية، ولمياء شقيقة قيس المتمردة الهادئة التي يقتلها جنود الاحتلال على مرأى ومسمع من أخيها، لمياء التي لخصت الحقيقة التي يؤمن بها كل الفلسطينيين حين تقول: “الاحتلال سبب تخلفنا”. كما تمر الرواية على قصة سميرة التي هاجرت من قريتها لتعمل في الخدمة في بيوت القدس، وتمثل الجانب السري من حياة الليل في المدينة، عبر لقاءات المتعة التي كانت تقيمها في منزل “فريال”.
إنها المدينة، كما يراها القريب لا البعيد، المدينة بوقتها البطيء وبيوتها المطوية على أسرارها، يقول قيس في معرض حديثه عن زميله وقريبه رهوان: “ضرب لي مثلًا امرأة من عائلة مرموقة أنجبت ولدًا وثلاث بنات (..) مازالت في الأربعين من عمرها، اختلى بها أول مرة في حانوت لبيع الأثاث يملكه أحد الأصدقاء، فيه سدة علوية يتم الصعود إليها على درج خشبي (..) وكان في كل مرة يقدم إليها هدية، خاتما من ذهب أو بلوزة من قماش ثمين أو ساعة لا يؤثر في حركتها الدؤوب سقوط على الأرض أو غرق في الماء (..) قال إنه يعرف طبيبًا يجري في السر عمليات رتق البكارات، فلا ينتبه إلى ذلك العرسان في ليالي الزفاف، ولا تكثر جراء ذلك جرائم قتل النساء دفاعًا عما يسمونه شرف العائلة. قال إنه يعرف خيانات زوجية هنا وهناك إلا أنه لا يحب التمادي في كشف المستور (..) قال إنه يعرف سماسرة أراض وعقارات في المدينة، وهم ليسوا كثرًا، يوقعون ضعاف النفوس في حبائلهم ويغرونهم بالأموال الوفيرة التي تدفعها جهات صهيونية متخفية بأسماء شركات أجنبية وهمية، كي يبيعوا بيوتهم وأراضيهم إليها، ويحصلون منها في المقابل على تعهدات خطية بعد الإعلان عن الصفقات وبعدم وضع اليد على العقارات إلا بعد انقضاء سنوات، وإن رغبوا بالتزود بجوازات سفر للهجرة إلى كندا أو إلى أستراليا فإن ذلك متاح ومباح ومرحّب به في كل حال. قال إنه يعرف أشخاصًا من شرق القدس حصلوا على الجنسية الإسرائيلية ظنًا منهم أن في هذا الإجراء حماية لهم ولأملاكهم، غير عابئين بالشرف الوطني وبضرورة عدم تطبيع العلاقات مع المحتلين.” (ص. 67ـ 68).
أراد شقير أن يلفت النظر إلى حالة التشرذم الراهنة، فغذّاها عبر سيرة قبيلة العبداللات التي تفرّقت في البلاد ولم تعد كتلة واحدة كما كان ماضيها أثناء عيشها في البادية، ومن ثم عمد إلى توزيع السرد على ألسنة الشخصيات: “قيس – ليلى – محمد الأصغر – رهوان”.. إلا أنه لم يقدم هذه التقنية البوليفونية بصورة أولية، كأن يجعل لكل واحد من الشخصيات فصلًا مستقلًا على لسانه، بل وزّع السرد على ألسنة الشخصيات داخل الفصل الواحد، بطريقة متداخلة تجعل القارئ مرغما على التنبه والتركيز في التقاط طرف الخيط مع كل نقلة سردية، وطعّم ذلك بخلق تداخلات، فيحدث أن يكون السرد على لسان قيس، ثم ينقطع هذا الصوت، ونفاجأ بصوت ليلى يعقّب على الحدث الساري الجاري حكيه، ويمكن تمييز الصوتين من اختلاف نوعية الخط (الفونط) الذي كُتِب به هذا الصوت السردي أو ذاك.
وسعيًا منه لتدعيم تقنيات الرواية بحيث تتناغم مع المعنى المراد تمريره، وفي حالتنا هنا يكون الكلام عن الواقع الصعب والثقيل للمجتمع المقدسي، الجاثم تحت الاحتلال من جهة، والجاثم أيضًا تحت مبادئ اجتماعية جديدة ناتجة عن التفسخ المجتمعي وما ينبني عليه من ظواهر مثل الطبقية والعنصرية بين أهل المدينة الأصليين، ثم ظاهرة التطرف الديني التي تنبت في مجتمعاتنا فتسمم البيئة وتلوث الهواء، فقد اختار شقير تكثيف وجود العالم الكابوسي عبر الأحلام وأحلام اليقظة والكوابيس التي تساهم في دفع عجلة السرد إلى الأمام من جهة، كما تساهم في بث تلك الروح المنقبضة والأجواء القاتمة التي تتضافر مع أحداث الرواية لتخلق الوقع الكابي على القارئ.