بهدوء يستعيد ميلان كونديرا في كتابه «فن الرواية» الذي صدر عن المركز الثقافي العربي بترجمة خالد بلقاسم، صوت الرواية عبر الزمن استعادة تضعنا أمام احتمالات الرواية، وتفتح أبواباً جديدة في عالم مغلق اليوم يتحسس فيه الإنسان نفسه بيديه ليكتشف حدود وجوده وشكل هذا الوجود. من إرث سرفانتس إلى مرايا الحاضر يطرح الكاتب أسئلة الرواية، ما هي الرواية؟ ما الذي تحمله للإنسان؟ وأين يكمن الضروري فيها؟ ويدنو على علو منخفض من شكل الرواية وعلاقتها بالزمن، كأنه يغلق أبواباً أخرى غير تلك التي فتحها في العلاقة بين الرواية وزمنها، وعلاقة الإنسان بالسرد الروائي، واضعاً الإنسان والرواية في قالب الوقت كأداة تعريف يمكن من خلالها أن يكتشف الإنسان وجوده ويفهم هذا الوجود على نحو أفضل، ففي هذه الاستعادة يصور الرواية كفن يكتشف الوجود المنسي للإنسان ليرفع الرواية بطريقتها ومنطقها الخاص إلى مظهر من مظاهر الوجود المختلفة التي تسبر حياةً الإنسان الملموسة وتحميها من النسيان.
رسم كونديرا مسار الرواية كتاريخ موازٍ للأزمنة الحديثة يعيد من خلاله رسم دوائر مغلقة حول علاقة الإنسان بالرواية. مفارقات عديدة جعلت من المغامرة في الرواية محاكاة ساخرة لنفسها، ومن الحرب في رواية «الجندي الشجاع شفيك» مادة هزلية، في حين كانت الحرب واضحة عند هوميروس وتولستوي وتملك أسباباً يمكن أن تؤطر الحرب بإطار منطقي، مثل هيلين الجميلة والدفاع عن روسيا، بينما كان شفيك ورفاقه يتوجهون إلى الحرب دون أن يعرفوا دافعاً لهذا التوجه. إذ إن اكتشاف الروائيين لما يمكن للرواية وحدها اكتشافه وضعهم أمام مفارقات قصوى في علاقة الإنسان مع الزمن وعلاقته مع نفسه، وأمام فهم أدق لتغيّر معاني كل المقولات الوجودية عبر مراحل التاريخ.
يعيد ميلان كونديرا الحديث عن احتمالات نهاية الرواية في رؤية يمكن من خلالها فهم هذه النهاية ويضيف إلى احتمالاتها قدرة الزمن على استيعابها كفن يمكن من خلاله أن يكتشف الإنسان شكل وجوده، واختزال نهاية الرواية بسبب مستقبل جديد يمتلك فنه الخاص الذي سيكون مختلفاً عن ما تقدمه الرواية لا يعني فقط تبديلاً بالأشكال الأدبية بل نهاية للأزمنة الحديثة، بالمنطق ذاته الذي تعامل به ميلان كونديرا مع مفارقات الرواية، فهو يعطي النهاية شكلاً يشبه الموت على دفعات، أو الموت الذي يليه موتٌ أكبر، مثل الأنظمة الشمولية التي حاصرت الرواية بالرقابة الشديدة والقمع والضغط الإيديولوجي الذي عايش الكاتب ميلان كونديرا جزءاً منه ورأى فيه شكلاً من أشكال موت الرواية وفنائها بهدوء، بسبب الفارق الكبير بين العالم الشمولي القائم على حقيقة واحدة وعالم الرواية القائم على النسبية والشك والسؤال والالتباس، فعالم الاختزال الذي يختزل فيه الإنسان وتاريخه وحاضره ويسقط فيه الوجود بكل ما فيه في النسيان المتكرر لا يعتبر عالماً للرواية.
يكتب: “إذا كان على الرواية حقاً أن تختفي، فليس لأنها استنفذت قواها، بل لأنها توجد في عالم لم يعد عالمها”. تنطوي نهاية الرواية بالنسبة لميلان كونديرا على جدوى العالم وقدرته على الانسجام مع روح الرواية، يعتبرها روح التعقيد التي تقول للقارئ «الأشياء أشدّ تعقيداً مما نتصور» وأن هذه الروح مرتبطة دائماً بالاستمرارية، فكل عمل روائي مرتبط بعمل روائي سابق ويتضمن تجارب روائية سابقة، لكن روح عصرنا تختزل هذه الاستمرارية باللحظة الراهنة وحدها. يكتب: “لم تعد الرواية باندراجها في هذا النسق عملاً أدبياً (لم تعد شيئاً منذوراً للديمومة ولِوَصْول الماضي بالمستقبل)، بل غدت حدثاً من أحداث الراهن مثل أحداث أخرى غدت حركة بلا غد.”
ينتقل ميلان كونديرا من العام إلى الشخصي في حوار يتضمنه الكتاب مع الباحث والكاتب كريستيان سالمون ليخرج نفسه من دائرة كتاب الروايات السيكولوجية، ويعيد تحليل نصه انطلاقاً من قدرته على إدراك الأنا الشخصي، وقدرته على فهم الحياة الباطنية للإنسان. رصد ردات الفعل وإعادة بنائها على أساس روائي، وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الآخر، والبحث عن جوهر هذا الوجود وما يحدده هو الانشغال الثابت للكاتب ميلان كونديرا، ويطرحه في إطارات محددة لشخوص يلتبس عليها الأنا وتلتبس عليها الهوية في دهشة ضياع أسئلة الإنسان أمام نفسه، وأمام قدرته على تعريف أو تحديد نفسه في هذا العالم. من هذا البعد الغامض والعميق يقرأ الشرح الذي يحاول ميلان كونديرا من خلاله أن يعطي أدبه تعريفاً بعيداً عن التحليل النفسي، بل بأسئلة وبحث أبعد من علاقة الإنسان مع العالم، وبعلاقته مع ما يسميه العالم “الوجود” وعلاقة الإنسان مع هذا الوجود وقدرته على فهمه والاقتراب شيئاً فشيئاً من عمق سلوكه.
سبعة فصول يشرف من خلالها ميلان كونديرا على نفسه من بعيد، ويعيد تأويل ما كتبه ويعيد قراءة الكتاب الذين شكلوا أسس رؤيته الشخصية، ويعطي الرواية أبعادها وأجوبتها ودورها كأداة اكتشاف نستطيع من خلالها فهم العالم الذي نعيش فيه، محدداً ما يهدد الرواية كفن يعبر عن وجود الإنسان كنداء متكرر عبر الزمن.