يستدعي إسم إدوارد سعيد الحديث وجوبا على ماهية الإستشراق و عمق تأثيره على المخيلة الجماعية التي تشبعت أحكاما مسبقة. مخضرم الهوية، صاحب الحضور الكاريزماتي في أروقة ستانفورد و مؤسس الفكر ما بعد كولونيالي. تمثل محور إهتمام إدوارد سعيد على وجه الخصوص في إعادة التفكير فيما خطه المستشرقون، في فتح أبواب حوار قد يبدو كأن الأكاديميين حسموا فيه. ألّف إدوارد سعيد كتابه الإستشراق مؤسسا بذلك لتيار فكري بأكمله منتقدا لحركة فكرية كانت بداياتها شبيهة بالفنتازم ( fantasm) لتغدو فيما بعد آلية تشويه. قلب إدوارد سعيد الموازين رأسا على عقب، ليبرز الجوهر الحقيقي للاستشراق، لينزع جلباب 'العقلانية الأكاديمية” التي يتحجج بها المستشرقون و يعري الفلسفة التي تقوم عليها هذه الحركة الفكرية.
يعتبر المفكر الفلسطيني الإستشراق أداة هيمنة اعتمدها الغرب في “محاولة” لفهم الشرق: في البداية كانت ملامح الشرق أقرب الى الفيتيش (fetish)؛ جنسنة جسد المرأة العربية وإضفاء طابع الايروتيزم (erotism) على الرقص الشرقي. كان الشرق في مخيلة الأكاديمي الغربي حرملك، صحراء و بدو. لكن سرعان ما تحول هذا المشهد الشبه فانتازيا الى تقزيم للشرق و حصره في مربع الجهل. بيد أن الاهتمام الذي أبداه الغرب بالشرق لم ينبع من فضول معرفي أو حب تطلع على ثقافة هذا الاخر المختلف، يعتبر إدوارد سعيد أن الاستشراق أداة هيمنة اعتمدها الغرب من أجل شرعنة الامبريالية عن طريق رسم صورة مشوهة عن الشرق: شرق إقترن به الجهل المعرفي، شرق يجهل فنون الحياة، شرق متقاعس جينيا، شرق متدين لحد التطرف، شرق وجب تحريره.
“الفرع المنظم تنظيماً عالمياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبّر الشرق -بل حتى أن تنتجه- سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً، وعلمياً، وتخيلياً، في مرحلة ما بعد (عصر) التنوير”
يرى بذلك المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، أن الاستشراق ليس إلا مؤسسة استعمارية لا تهدف الى دراسة او تحليل الشرق بمختلف ثقافاته التي ترسم ملامحه بل طمست هذا التنوع الفسيفسائي لتجعله متجانسا (homogeneous) مما جرد الشرق من خصوصيته ليصبح كتلة جامدة و هو ما أسس لفكرة الركود (static) و استحالة تحقيق الازدهار. قوبلت أطروحة إدوارد سعيد بالرفض من قبل عدد كبير من الانتلجنسيا، فٱسيء فهم كتابه الاستشراق ليراه البعض متحجرا رافضا للانفتاح على مختلف الآراء، يميني متطرف متصلب أمام فكرة دراسة الغرب للشرق. بيد ان بغية ادوارد سعيد لم تكن صد او اعاقة الطريق نحو دراسة الغرب للشرق، بل خلق مساحة تبادل فكري للقطع مع المغالطات التي أساءت من سمعة الشرق. دعا ادوارد سعيد الأكاديمي الشرقي الى التسلح بالموضوعية و تنويع مصادر بحثه عوض الانحصار في منظور ضيق نابع بالأساس من الكولونيالية الفكرية، وعلى غرار ذلك انتقد دوغمائية الأكاديميين الشرقيين المنساقين خلف المستشرقين دون إعمال للحس النقدي.
“والنتيجة المتوقعة لهذا كله هى أن الطلاب الشرقيين (والأساتذة الشرقيين) لا يزالون يريدون أن يأتوا ليتعلموا من المستشرقين الأمريكيين، حتى يعودوا ليكرروا على مستمعيهم المحليين نفس القوالب الفكرية واللفظية التي وصفتها بأنها عقائد استشراقية جامدة. ومثل هذا النظام من التكاثر أو الاستنساخ يدفع الباحث الشرقي حتماً إلى إستخدام تعليمه الأمريكي في الإحساس بالتفوق على أبناء وطنه بسبب قدرته على “الإحاطة” بالنظام الاستشراقي وتطبيقه، ولكنه يظل مصدر معلومات وطني في علاقاته برؤسائه من المستشرقين الأوروبيين أو الأمريكيين.”
تجاوز ادوارد سعيد الأطروحة القائلة بقيام شرق وغرب مستقليْن بذاتهما، ليتساءل عن ماهية تقسيم الشعوب والثقافات لشرق و غرب بالأساس وما هي مقومات مثل تفرقة، هل الشرق مجرد انتماء جغرافي ام يحمل بين طياته أبعاداً أخرى تتمثل بالأساس في ايديولوجيا عمادها نظرة دونية؟ فلسطيني الجذور وكونيّ الهوية، تعود لإسهامات ادوارد سعيد الفضل في خلق تيار فكري برمته أعاد بناء السردية الامبريالية بمقاربة ما بعد كولونيالية، و يمكن القول بأن كتاب الاستشراق قد أعاد تاسيس نظرية السيد و العبد لهيجل، ليتحول الشرق من موضوع هيمنة الى كيان مستقل بذاته مؤسس لسرديته.