خداش: تبدو الآن متصالحا مع المكان، الناس، العائلة، الوطن… في السابق كنت مختلفاً جداً مع كل شيء. ما الذي حدث؟
أبدو فقط. في ثمانينات القرن الماضي كانت الخرائط مفروزة إلى منظمة تحرير، وإلى احتلال، وإلى أجهزة تابعة لكليهما. بعد أوسلو وانهيار الاتحاد السوفيتي والمتغيرات التي حدثت على الساحة العالمية والمحلية والعربية، أعيدت صياغة الأمكنة الذهنية، إضافة إلى نظام الأشياء، هذا كان يعني النظر إلى الخارطة الجديدة بمفاهيم جديدة، تسمح بقراءة أدق وأسلم وأكثر مغامرة من القراءات السابقة. مثلاً، لم تعد كلمة “يسار” تعني ما كانت تعنيه، ولا كلمة “سلطة”، لم تعد العلاقة بين الأشياء والكلمات واضحة، وكان يجب تقديم مفاهيم جديدة للوعي. أحد المفكرين السود، كورنل وست، كتب مقالة تدعى “المثقف النبوي” أو “الناقد النبوي”، لا أذكر العنوان بالضبط، واستفدت منه. يقول بأن أمام المثقف أربعة حلول لمأزقه الوجودي: إما أن يندمج المثقف في التيار السائد، أو أن ينغلق على نفسه في عزلة مطبقة، أو أن يكون خارج التيار السائد ويطمح أن يكون في داخله، أو، وهذا هو خياري، أن يحتفظ باستقلالية رؤياه، وأن يتعامل مع أفضل ما هو موجود في التيار السائد وفي خارج التيار السائد، وأن يكون “ناقدا نبويا”.
خداش: أعتقد أن المقارنة بين بيئة (وست) وثقافته ومرجعياته الحياتية الاجتماعية، وبيئة فلسطينية الثقافة، فيها بعض التعسف أو عدم العدالة. (أعني خصوصيات المرحلتين أو البيئتين).
الخصوصيات دائماً موجودة. أنا أتكلم هنا عن الخيارات الثقافية، وعن الاستفادة من تجارب آخرين ممن وجدوا أنفسهم “أقلية” في ضمن ثقافة سائدة وأقوى منهم. عندما تتأمل قوى المعارضة عندنا لا تستطيع أن تنظر إليها بشكل مطلق على أنها تمثل الجديد والنقي، والبديل الرؤيوي، مقابل الفساد والشر في السلطة الفلسطينية. وفي داخل السلطة أيضا توجد أجنحة متعددة، بعضها أفضل بكثير من المعارضة وبعضها أسوأ بكثير، أي أن خرائط الوعي ليست واضحة، إن استخدمنا التمييز بين سلطة ومعارضة فقط. حتى داخل الأفراد، الأمور تداخلت واشتبكت، وهذا يدعو إلى إعادة صياغة للعلاقة بين الأشياء والكلمات، بحيث أحافظ على رؤياي، وأنتقي الأفضل، بغض النظر عن كونه سلطة أو معارضة، وأحافظ على مسافة نقدية بيني وبين كل شيء. هذا يعني إطلاق سراح الفكر من القوالب الجاهزة، التي كانت سائدة وكافية، نحو فهم فيه مغامرة، ويمكن أن يخطئ ويصيب. لا يجب أن نحيا مرتعبين من الخطأ. وهكذا يتحرر الفكر ويغامر ويتجدد.
خداش: لكن نصوصك لم تتغير. الشك والاغتراب والرفض والرؤية المغامراتية أو الجنون الفني المحموم؟
هذا دليل آخر بأنني “لم أتصالح” مع الواقع. أعتقد أنني أطرح في نصوصي بدائل رؤيوية، ولا أرى أن الواقع يتطابق مع هذه الرؤى، وهذا هو الحفاظ على استقلالية الرؤيا، وهو لا يعني أن ما هو موجود يتفق مع رؤياي، أو أن رؤياي مألوفة وسائدة. الموقف النقدي عندي يحافظ على مسافة نقدية ورؤيوية كافية، وعلى أفق للمستقبل. في نصوصي تغيرات جذرية، ودقيقة، نقلات في الوعي، نضوج أكثر، ولكنها ليست نشيداً لما هو سائد إطلاقاً.
الريماوي: كيف يمكن طرح بدائل رؤيوية، وأهم مفهومين (السلطة والمعارضة) هما مفهومان غير واضحين وملتبسان؟
رؤياي لهذه النقطة تقول ما يلي: ما دام هناك جهاز دولة من أي نوع، توجد مشكلة. لا توجد دولة تتفق مع رؤياي، ولا أية دولة، مهما كان شكلها، يمينية أو يسارية أو اشتراكية. هذه هي رؤياي الداخلية. أحلم بمجتمع لا دولة فيه. ولست من المثالية لكي أحلم بأن هذه الرؤيا قد تتحقق خلال قرن، مثلاً. ستكون هناك دول طوال حياتي، وحياة أجيال قادمة. وهذه وقائع مهمة لا يمكن أن نعزل أنفسنا عنها. ويجب أن تجد مخرجاً ما بين وجود واقع أنت تراه خارج رؤياك، ووجود رؤيا نقدية خارج واقعك. في الواقع نتعامل مع التاريخ وليس مع المثل، لأن التعامل مع المثل المجردة يقود إلى عبادة الشخص لنفسه. أنا نيتشوي هنا: أرى أن جميع التاريخ الإنساني خلق فكراً يقول: “لا للحياة”، وخلق حياة تقول: “لا للفكر”، وهذا أساسي لفهم المرض في الثقافة. إذن مسألة الرؤيا لا أقصد بها الوضع في فلسطين، ولا الرؤيا الدينية أو السياسية، بل رؤيا تعيد تقييم القيم في التاريخ كله.
خداش: قال محمود درويش يوماً ما معناه: إن كل شيء قيل، وإن أقصى ما يمكن قوله، تنويعات على لحن متكرر. هل قلت كل شيء؟
بمقدار ما أعلم في الشعر العربي زهير بن أبي سلمى كان أول من قال: لا نقول إلا كلاماً مكروراً، وعنترة بن شداد كرر ذلك في مطلع معلقته “هل غادر الشعراء من متردّم؟”، لكن هذه الأقوال لا تغلق التاريخ. دائماً هناك تشابه، ودائماً يوجد اختلاف، ولن يتوقف الاختلاف، ولن يتوقف اللعب مع التشابه، ولا أرى في وجود التشابه مأساة، ولا في وجود الاختلاف فضيلة. كل شيء، فلسفياً، يختلف عن، ويتشابه مع، غيره.
والآن، رداً على سؤالك، أعتقد أنني لم أقل كل شيء، ولكنني قلت شيئاً ما، ضئيلا، ربما، ولم أقل الكثير مما أرى.
خداش: نصك المدهش، “حجر الورد”، يبدو محتفظاً بطاقة سحرية سرية. حدثنا عن هوية هذا النص. الذي يبدو كأنه بلا مرجع، وعن دوافعه.
هو محاولة رؤية للتاريخ أحرم فيها ما يدعى بـ “الواقع” من كونه المقياس أو المعيار القيمي، الأخلاقي أو الفني أو الجمالي، للنص.
هدفي كان تحويل الواقع ذاته إلى سطح لامع آخر ، مجرد نص آخر، أو خيار فقط، وأن أسلب منه كونه “مرجعية ثابتة” أو “صحيحة” بالضرورة. كنت أطمح إلى تحويل الواقع بواسطة النص إلى نص آخر، لأن الواقع ” العادي” كما رسخ في المدرسة “الواقعية “، مثلاً، رسخ باعتباره المرجعية الأولى للخيال والروح، وهذا مبتذل، لذلك يجب تجريد الواقع من زعمه أنه يستطيع، كما هو، كواقع سائد، أن يكون مقياساً.كنت أحلم بنص يشبه “ألف ليلة وليلة”: في داخله يوجد عالم كامل كلما أبحرت فيه شعرت بأن لا صلة بينه وبين ” الواقع العادي”.
هاجس آخر في “حجر الورد” كان دفع اللغة نحو أقصاها، نحو الموسيقى المحضة. عندما تتحول اللغة إلى موسيقى محضة، تتحول إلى لعبة أصوات، أو تختفي كمفردات، تصبح موسيقى أو محض إيقاعات. وكنت أنوي على دفعها أيضاً نحو الفن التشكيلي، أي لكي تتحول إلى لوحة فنية ملونة، بمقدار ما يمكن، أي إلى “لون” محض. وفي هذه المساحة المتطرفة بين موسيقى لغة تكاد تنهار إلى موسيقى محضة، ولغة تكاد تنهار إلى لوحات محضة، يحدث فعل جذري هو انهيار الخطاب السائد، أي خلق “طريقة أخرى” للقول، لا مألوفة ولا سائدة، ونقدية، طريقة “تحول القارئ” بدل أن ترمم قيمه المألوفة. وفي هذه المساحة من الانهيارات تنفتح ثغرة جديدة لرؤية الرؤيا التي تحدثت عنها. “حجر الورد” هو رؤيا للرؤى، لكيف نرى.
تبلورت فكرة “حجر الورد” في حوارات طويلة مع الفنان التشكيلي إبراهيم المزين. وكان عليه أن يرسم رؤياه هو، في مجموعة لوحات تعبر عن رؤياه، وليست “تعليقا” على النص الذي كان علي أن أكتبه تعبيراً عن رؤياي الخاصة. ثم ننشر اللوحات والنص معا، بحيث لا تكون اللوحات مجرد تعليق أو ترجمة، أو ملحقة بالنص ولا يكون النص ملحقاً باللوحات ، فيكون هناك “تخالف” بين النصين يفتح الباب واسعاً للمتناقضات، والرؤى.
اعتقد أن النصوص الأدبية عموماً، ربما بسبب بنية المجتمع العربي، تجنح إلى التشابه مع بعضها، وتطمح إلى التصالح، أما أنا فأطمح إلى بنى تقود إلى تناقض متوتر محفور في داخل القصيدة، مثلاً. أطمح لقصيدة تستوعب “الأسعار في الحسبة”، على رأي محمود درويش، وتدخل إلى داخلها الحياة بكل جزئياتها وتفاصيلها الصغيرة والمتنوعة، ولا تنعزل إلى مجرد غنائية بسيطة. هذا أيضاً له صلة بالمتناقضات: أن التناقض بين الأدب والحياة جعل الأدب منعزلاً عن نبض الحياة الدائم، وهذا أحد الجذور التي قادت إلى قصيدة النثر، فقصيدة النثر كانت تريد صلة اكبر بإيقاعات الحياة.
خداش: هذا يقودنا إلى سؤال ضروري. هل لديك مشروع شعري، تطمح إليه وتفكر فيه كهاجس.
نعم ، لكنه ليس مشروعي الوحيد، بمعنى أن الرؤيا التي أتكلم عنها تتجلى في أشكال وأنواع أدبية مختلفة: بالسينما أو بالنص أو بالكتابة النثرية أو النقد الثقافي أو بطرق متعددة أخرى.
الريماوي: كيف تستطيع أن توفق بين قصيدة تحاول أن ترسم ضجيج الأشياء وتحول الواقع إلى نص وقصيدة تسعى إلى أن تكون “كوناً موسيقياً”؟
في الموسيقى، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يدعى كل ضجيج موسيقى، ولا تستطيع أن تلتقط أي صوت لتقول هذا موسيقى رغم أنه يمكنك أن تخلق موسيقى من أي ضجيج أو مادة خام. في القصيدة، ككون موسيقيّ، هناك حدود فنية، يعني أنه يمكن أن تتدهور موسيقى النص إلى ثرثرة عادية لا تثير أحداً، أو إلى ” نشاز”، الحياة اليومية خيال أدبي فقير جداً. والشرط الفني للشعر ليس هو الانسجام مع فقر الخيال في الشارع ، باسم “الواقعية”. إذا كان هناك فقر، تستطيع أن تضعه داخل النص كتعبير عن فقر الخيال، وليس عليك خلق نص هو نفسه فقير الخيال، كواقعه اليومي. في الفن قد تدخل الأسطوري في اليومي، أو اليومي في الأسطوري، أو كما قال محمود درويش: “الواقعيّ هو الخياليّ الأكيد”، الشرط الفني هو ” الخيالي الأكيد”. إنني أجرب هذا، وآمل أن تكون هذه التجارب ناجحة إلى حد معقول. التجارب تقترح اقتراحات معينة. أنا لا أعمل للوصول إلى الكمال، ولا تهمني فكرة الكمال، ليس هذا هو هدف التجربة.
الريماوي: ما قصدته هو كيف تكون اللغة أداة حمل الرؤيا وموضوعها في آن، أي كيف تتمكن من حمل رؤاك، بعد أن تكون قد صدعتها وزلزلتها؟
اللغة ليست “أداة”، بالعكس، اللغة نفسها رؤيا، إن كانت محافظة في خطابها فهذا يعني نقصاً في الرؤيا نفسها. والمحافظة، عندي، نوع من الجبن. الرؤيا ليست خارج اللغة كي “تترجمها”، بعد ذلك، إلى لغة. بالعكس، إنها تولد في اللغة وباللغة، وولادتها تعني “تحويلاً” في علاقة المفردات ببعضها، وفي إيقاعها، في “معناها”. أريد خلق نص “يحوّل” بدل أن “يعكس”، ويتأمل بدل أن يستريح بكسل.
الشيخ: أشعر أحيانا أن أفكارك توجد خارج اللغة، مع أنك دائماً تقول أن لا شيء خارج اللغة.
أقصد باللغة، في حديثي السابق، “الخطاب”، أي نسقاً معيناً من “القول”، طريقة معينة في الكلام. في داخلي توجد لغتان أو شكلان للخطاب: لغة أتكلم بها، بالمعنى العادي، ولغة أخرى أكتبها .عندي فصام لغوي ، فلم أصل إلى حد أن “أتكلم” كعراف، ولكن لا أكتب كما أتكلم. هذا فصام بين ما أكتبه وما أتكلمه في الحياة اليومية. اللغة التي أتكلمها منطقية، عقلية، تفتقر إلى الأبعاد التصويرية والمجازات، مثلاً.
خداش: هل تكتب إذن عكس الذي تتكلمه؟
ليس “عكسه”، فالمسألة أعقد من مجرد “قلب بسيط للمعادلة”، لكن أختلف جذرياً في الكلام عني في الكتابة. مثلاً، تدربت جيداً على الفلسفة والمنطق والإحصائيات والأبحاث، على “العلوم الدقيقة”، ولكن في الفن والأدب “الدقة ليست هي الحقيقة”، كما قال سيزان على ما أذكر، والبحث ليس قصيدة. عقلي يشتغل بالطريقتين، ومن الصعب التوفيق بينهما.
الشيخ: أرى أن لديك مشروعاً فلسفياً كبيراً. قد تحتمل الفلسفة أشياء لا تحتملها اللغة، ولكن أنت تقدم جزءاً من هذا الفكر الفلسفي الموجود في ذهنك وتحوله إلى نصوص، ولكن الموجود أكبر وأشمل.
لدي مشروع فلسفي أيضاً. تربيت لفترات طويلة، وحتى بالمعنى الأكاديمي، على اللغة الفلسفية الجافة، والتي تقوم على مجادلات منطقية، مثل المنطق الرياضي. لكني اكتشفت لاحقاً أن هذه اللغة ذاتها تقوم بقمع الذات ويجب نقدها وتجاوزها. لهذا لم تتحول الفلسفة عندي إلى الهدف، هي أداة أيضاً يتم تجاوزها: استخدامها بتجاوزها -أو تجاوزها باستخدامها- ولكنها ليست هي الحل بالضرورة. لذلك، مثلاً، في رسالة الدكتوراه، جادلت بأن هناك اختلافاً جذرياً بين منطـق القلب ومنطق العقل، وأرى أنه يمكن استخدام المنطقية في الفن، علماً بأن الأدب والفن يلائمهما منطق القلب. لهذا أستخدم العقل وانتقده، والقلب كذلك، لأن قلباً بلا عقل قلب مجنون.
خداش: تحدثت عن ضجيج الشارع اليومي، وهذا الضجيح يومي وعادي، فكيف ستنقل لغة هذا الضجيج اليومي إلى اللغة الثانية التي تكتب بها؟
أعتقد أن القلب يقوم بعملية فلترة أو تصفية لما يأتي من الخارج وينقيه من الشوائب. صعب أن تصيغ عملية “الفلترة” هذه منطقياً، لكن لو كنت ماراً في الشارع وسمعت كلاماً كثيراً جداً، من كل هذا الكلام سألتقط أية قيمة فنية في جملة معينة. مثلاً، مرة سمعت في سوق الخضار بائعاً يقول: “هذه البطاطا من صنع الخياطة”، وأعجبني التعبير، واستخدمته في قصيدة ما في ديوان “الرؤيا”: سماء منسوجة بيد الخياط. هذا هو الفرق بين اللغة التي أحكيها واللغة “المفلترة”. أنت تقيم حواراً دائماً بين ذاكرتك الفنية وبين واقعك اليومي، حواراً يحوّل موقفك الجمالي. ت.س.إليوت قال: “إن الموهبة تقترض أما العبقرية فتنهب” وأرى أن طموحي هو أن أستطيع نهب كل ما يقوله الشارع لتحويله إلى نصوص، لكن يبدو حتى الآن أنني لا أستطيع إلا أن اقترض، رغم طموحي النهبي، وهذا يعني تحويلاً جذرياً في الأشكال الفنية بحيث تكون قادرة على استيعاب ما تنهبه. لجأت، مثلاً، للكولاج في النص. في “جاز شرقي” دمجت بين الأغنية العامية، والشعر الكلاسيكي، والنثر، والاقتباس، ودمجت التفعيلات، واستخدمت البحور القديمة، والتفعيلة، وهكذا. بالتالي، فإن الإيقاعات تتغول، وتتلاطم، وهذه طريقة في قول ما أريد، وفتح الطريق للمتناقض مع نفسه وغيره، وليس للمنسجم والمتناسق الذي يعيد “المألوف” فيناً إلينا.
الريماوي: ذكرت أن القلب وحده دون عقل مجنون، أليست هذه محاكمة للقلب من خلال مقاييس العقل ومركزيته؟
ما أسميه بالقلب، أو ما سماه التاريخ بذلك، سيفهم بشكل خاطئ، إذا ما تم تصوره مستقلاً عن المنطق، سواء أكان منطقاً أسطورياً أو رياضياً عقلياً. القلب لا ينمو وحده. هناك جدل قائم بين العقل والقلب. القلب أيضاً ينضج ويتطور مثله مثل العقل، لذلك يمكن أن أقول شخصياً إنني انتقد القلب بالعقل. في نص “الضوء الأزرق” هناك جملة بهذا المعنى: كما يوجد تخلف عقلي يوجد تخلف قلب، أعني هناك متخلفون عاطفياً أيضاً. وهذا يعني العمل الدائم على تطوير القلب. مثل آخر هو مصطفى سعيد في “موسم الهجرة إلى الشمال”: عقله ضخم، لكن فيه تخلف قلب، فهو يقول بأن الآخرين قتلوا فيه القدرة على الحب، مثلاً، هذا تخلف قلبي. وهناك قلوب متوحشة، ونازية، وجرائمية. ولا أقبل بها. اللعبة بين العقل والقلب ضرورية في أية رؤيا. وأنا ضد أن يوضع العقل في قفص الاتهام باعتباره لا يعني شيئاً، وضد أن يرفع القلب دون أية شروط إلى مستوى الألوهة أو النبوة. هناك جدل عميق بين العقل والقلب، كالجدل بين رحم الأم والجنين. نيتشة قال في “هكذا تكلم زرادشت” بأن العقل يجب أن يكون بمثابة أحشاء للقلب.
خداش: مبكراً جداً كتبت هواجس الروح الخفية وأسرارها وقواها، في مرحلة كان فيها البوح بهذه القضايا يشبه اتهاماً بالخيانة. الآن الكل يتحدث بلا توقف عن الحداثة أو أدب ما بعد أوسلو. هل أدب ما قبل أوسلو عار أو سبة في جبين الثقافة الفلسطينية؟ وما هي الحداثة؟
في السياق الأوروبي، للحداثة معان مختلفة، تمتد لقرون ويوجد جدل حولها. أما عندنا فالحداثة صيغة أفضل التفكير بدونها. أما أن أدب ما قبل أوسلو شتيمة، وأدب ما بعد أوسلو نبوة، فحكم فيه منطق مبتذل. دعني أفصل قليلاً في فهمي الخاص للحداثة، إن كان لا بد من هذا. الحداثة، عربياً، عملية تفاعل بين مناطق كانت تابعة للعثمانيين، ومناطق أوروبا التي كانت تدخل في الرأسمالية. هذا أنتج جدلاً خاصاً بين الرأسمالية الأوروبية والبنى السائدة، ما قبل الرأسمالية، عند العرب. مثلاً، مسألة “التحديث” في الجيش، والعلوم، والفكر، إلخ، كانت مطروحة نتيجة للشعور بـ ” التخلف” أمام أوروبا. هذه مسألة واجهت روسيا، أيضاً، فقام بطرس الأكبر بمحاولة تحديث، تشبه محاولة محمد علي باشا في مصر، لاحقاً. هذه الحداثة العربية يجب أن توضع في سياق استعماري. عملية التحديث عندنا حدثت ضمن سياق تبعية، مثل غزو نابليون لمصر، واحتلال القوى الأوروبية للعالم العربي وتحويله إلى “مستعمرات”. لذلك فالحداثة عندنا أخذت، ولم تزل، أشكالاً مختلفة عنها في أوروبا، والفكر الحداثي عندنا له أشكال مختلفة عن حداثة أوروبا.
الريماوي: ما يجري في الحياة الثقافية الفلسطينية هل هو انتصار لرؤية أم هو خضوع لمنطق الهزيمة السائدة، بمعنى هل هو تقدم إلى الأمام، أم هروب إلى الخلف من مواجهة اخطبوط العولمة وامتداداته المحلية؟
هذا يرتبط بالسؤال السابق. تستطيع المجادلة بأن الثقافة العربية بعد “عصرها الذهبي” في القرون الوسطى، دخلت مرحلة هزيمة تاريخية لم تخرج منها حتى الآن. إن النهضة الأوروبية، التي بدأت تحت تأثير الثقافة العربية، في القرن الثاني عشر، كما يجادل بريفو، بدأت عملية صعود متواصل، وانحدرت الثقافة العربية، مقارنة بها. والهزيمة الفلسطينية بعد أوسلو وسقوط الاتحاد السوفيتي جاءت ضمن هزائم متتالية وتاريخية ، وتستطيع أن تقول أيضاً إن الفكر العربي بمقدار ما كان يحاول الخروج من هذه الهزيمة، فإنه أيضاً نتاج للهزيمة.
الريماوي: وماذا عن الهزائم الفلسطينية تحديداً، لا نستطيع إطلاق هذه الصفة بشكل عام على الثقافة الفلسطينية. يمكن أخذ نماذج مختلفة بأشكال مقاومة وأشكال تساوق وأشكال هزيمة، لكن يجب أن نكون أكثر حذراً من إطلاق التعميم. هناك فروق كبيرة ما بين رسام ورسام، وكاتب وكاتب، أما أن جو الهزيمة حاضر، فهذا صحيح، وهي شرط مفروض عليك أن تتعامل معه.
مثلاً، ما معنى قول محمود درويش “سجل أنا عربي” أمام الحاكم العسكري الإسرائيلي؟هذا تأكيد للعروبة والانتماء العربي أمام هزيمة. و”سجل أنا عربي” قصيدة مقاومة، لكن لم تكن هذه المقاومة لتبرز لو لم يكن الشاعر يحيا في جو هزيمة: إقامة دولة إسرائيل وفرض الحكم العسكري على العرب الذين صمدوا في أرضهم وتحولوا إلى أقلية مهزومة في وطنهم. وما معنى التأكيد على فلسطينيتك، أصلاً، أو عروبتك، لولا وجود هزيمة وخطر محو وجود. إن شرط الهزيمة موجود، ليس فقط في الأدب المهزوم، بل في الأدب المقاوم. وهذا ينطبق على ما قبل أوسلو وما بعده.
خداش: ما هو دور المثقف تجاه ما يجري من فساد وانحرافات وتخريب؟
هذا سؤال إشكالي، في الماضي حمل المثقف أكثر بكثير مما يحتمل، وسمي هذا، مثلاً، بـ “بالدور”. يبدو أن هذا “الدور” نجح في جعل الكثير من الفلسطينيين مثقفين سياسيين، مساهمين في السياسة، لكن كانت له نتائج سلبية على الأدب. وبالتالي فمفهوم الدور قابل للجدل: هل يوجد للمثقف دور؟ وإذا وجد ، فهل هذا الدور كما يتصوره الشارع أو الناس أو السياسيون؟ في رأيي أن الإجابات التي أعطيت على هذه الأسئلة كانت ساذجة. مثلاً، هل “دور” المثقف هو تحويل لغة الخطاب السائد؟ أم لا؟ وإذا لم يحولها هل هو يخضع للنظام السائد؟ كثير من المثقفين لم يحولوها وكانوا منصبين كممثلين للثورة، وهل هذا الدور “ثوري” أو ضروري؟ وعن أي مثقف نتكلم؟ وما هو المثقف؟ أسئلة كثيرة. لكن أعتقد بأن للمثقف دوراً واعياً أو غير واع، لكن ما هي ماهيته ومساحته، وأين يعمل وكيف يعمل، هذه مسائل تمت الإجابة عليها بأشكال ساذجة.
خداش: هل للمثقف دور في الحياة العامة غير تحويل اللغة؟ لماركيز مثلاً دور كبير في حياة بلاده الاجتماعية والوطنية والسياسية، وكان ناظم حكمت مقاتلاً حمل السلاح، كذلك غسان كنفاني وأراغون وبابلو نيرودا. في بلادنا لا مواقف للمثقفين ولا دور لهم في شيء.
أعتقد أنه توجد مواقف في حالة ماركيز. ماركيز واحد من المثقفين، وهناك مثقفون أخرون كانوا منعزلين جداً عن سياق الأحداث التي تحدث، آخرون انتحروا، مثل ماياكوفسكي، أو حاوي، أو جنّوا، مثل غوغول، أو تركوا وطنهم كلياً، إلخ. رؤياي الخاصة هي أن على المثقف حفر طرق رؤيا جديدة، وطرق حياة جديدة، ليس فقط طرق فكر، بل طرق حياة، أيضاً. أعني أن يقوم بـ “إعادة تقييم” للقيم والأحكام، حفريات جديدة في الوعي، تقود إلى تجاوز مرض التاريخ الأصلي، وهو نفي الفكر للحياة والحياة للفكر. مثلاً، أرى أن الأديب الذي يقوم فقط بتعداد الخسارات والبكاء، وتأليه الضحايا، والموت، أديب يساهم بشكل غير واع في هذا المرض وستكون نتائج أدبه على الثقافة سلبية. لذلك عندما أرى الآن أعمالاً أدبية قائمة على فكر جوهره ندب الذات والشفقة عليها وجلدها ورفض كل شيء، فإنني أشك في هذا الفكر أكثر مما أشك في الفكر الرجعي المباشر. وأحد السياقات المنطقية لهذا الفكر هو قيادة الثقافة نحو العدمية، وأنا هنا أتكلم نيتشوياً. مسؤولية المثقف هنا تقع في رؤية أراها بديلة لهذا ومن نمط آخر. هذا ما كنت أبحث عنه. في أعمالي الأخيرة مثل “حجر الورد”، و”مرايا سائلة”، و”الضوء الأزرق”، أحاول تقديم إجابات في هذا الاتجاه، وأسئلة، ولست معنياً بالمشاعر التي تفيض بالسلب ضد الحياة. الفكر الذي يقف ضد الحياة قاد إلى جنون الفكر وإلى حياة مجنونة. دور المثقف يحدث ضمن موقفه من هذا، ليس فقط من الحياة السياسية. بطريقة أخرى، السياسة، عندي، كالدولة، كلها علامة على وجود مأساة الاغتراب عن وفي الحياة. أطمح لمجتمع بلا سياسة. السياسة عندنا، مثلاً، وعند غيرنا، شكل من أشكال التوحش الروحي، من إقامة نظام لقردة يتسلق الواحد منها الآخر، على رأي نيتشة، هؤلاء يمثلون ثقافة المرض، ثقافة الهوس بالقوة، الهوس المنحرف بالقوة والفساد، والاستهلاك، لذلك فإن دور المثقف في رأيي هو دور الناقد الجذري للأشياء، ليس الجذري بمعنى الذي يقول “لا” جذرية، الجذري هو الذي يفهم مرض التاريخ بشكل جذري، ويقدم رؤية حقيقية للمخرج نحو تاريخ آخر، تاريخ، على رأي ماركس، لم يبدأ بعد، ضمن هذا الكلام كل شيء قد يقود إلى نقيضه. كل شيء قد يخدع. الدور الذي أراه هو هنا. أين تؤدي دورك هنا.
خداش: هل تصل النصوص إلى القارئ وحدها أم هي بحاجة لعلاقات ومجاملات؟ أنت تبدو عازفاً عن العلاقات الشخصية مع الأدباء؟ هل هذا أخر وصول نصوصك كما يجب إلى قارئها العربي كما هو مفترض؟
بالتأكيد هناك ضرورة للعلاقات العامة، ولكن لا أرى أن دوري الشخصي هو أن أشتغل كرجل “علاقات عامة”، فهي تدخل، فـي أحيان كثيرة، في نظام “القردة التي يتسلق أحدها الآخر”، ولست مستعداً للتحول إلى قرد حتى ولو في أول السلم وفي “الطليعة”. أؤمن بجملة قالها رايش، يمكن أن تفسر موقفي من كل ذلك: إذا كانت أفكاري صحيحة فستنتشر وحدها، وإذا لم تكن صحيحة فستموت وحدها. إذا كانت في رؤياي أية أهمية أو حقيقة ما فستنتشر وحدها ولن تنجح العلاقات العامة في تسويق نص رديء، إلا إلى حين. هناك دروس مهمة في التاريخ حول هذا. في الاتحاد السوفيتي السابق: رفعت بيروقراطية الدولة كتاباً إلى أعلى مرتبة ممكنة، ولكنهم انتهوا كلهم. وفي الولايات المتحدة أيضا رفعوا كتاباً لأنهم يعملون في استخباراتهم، ولم ينجحوا في “تخليدهم”، وانتهى هؤلاء بعد مرحلة. هذه هي تجربة التاريخ: ما هو حقيقي سيبقى. الصوفيون مثلاً، إلى أي مدى عزلوا تماماً، وبعد قرون تم إحياؤهم. وآخرون لقرون دعمتهم امبراطوريات، وصاروا عابرين في كلام عابر. في العلاقات العامة، هناك الكثير من انعدام المسؤولية. عرض مرة علي أن أكتب الأغاني لفرقة صابرين، وقالوا لي إن اتفاقاً حدث، وإن الأغاني ستطبع في ثلاثة ملايين نسخة. وقد أرعبتني الفكرة: هل أنا جاهز كي أحكي لثلاثة ملايين شخص ما أريد؟ هل لدي ما أقوله، حقاً، بمسؤولية؟ الكثير من أدباء العلاقات العامة وفنانيها لا يتحملون المسؤولية بهذا الاتجاه. أنا عاجز عن إدارة شبكة للعلاقات العامة. لذلك لو نصبت ملكاً لأهملت مملكتي وانغمست في الجنون.
الشيخ: فيما يتعلق بالدولة وزوالها، أعتقد أن هذه وجهة نظر شيوعية. أليس كذلك؟
من بداية شبابي، بدأ لدي تحوّل جذري من الاهتمام بالسياسة إلى الاغتراب، إلى درجة أنني تخصصت في الاغتراب في الأدب والفن والدين، وتوصلت إلى نتائج، ولم أزل أؤمن وأعرف أنها صحيحة. ما دام هناك طابع فظائعي للعالم، فأنت أمام اغتراب جذري، والرأسمال هو شكل أعلى من الاغتراب الفظائعي (ألوهية الربح والمال). والدولة هي تنويعات أو صياغات مختلفة على هذا الاغتراب. وعندي قناعة بأن عدم زوال أسس الاغتراب ستبقى مجموعة من المسائل تتكرر في التاريخ، مثل الدولة. سمّ وجهة نظري شيوعية أو اغترابية أو ما شئت. ما زال جوابي أن مجتمعاً فيه دول هو مجتمع مغترب، وأرى أن تجاوز الاغتراب يجب أن يترافق مع تجاوز الدولة. هذا رأيي ولن أغيره. أنا أحترم ماركس كمفكر، ولكن ما هو معروف عند يسارنا بماركس كاريكاتير،لا غير. الشيوعية، عندي، ليست “مذهباً”، بل تسمية لحركة تجاوز حديثة، حركة تاريخ نحو ما بعد الرأسمالية. ولست غبياً إلى حد تخيل أن الرأسمالية خالدة.
خداش: هذا سؤال قد لا يوافق على توجيهه كثيرون لكن الذين يعرفون حسين البرغوثي لا يتحرجون من ذلك: هاجس الاقتراب من الموت، هل قربكم من منابع مجهولة من الفن والحياة؟
بالتأكيد، التجربة مع الموت تكشف بعداً آخر، وتعيد تفسير ما سبق وفسرته، أعني تثيرها جساً أو حدساً بالكون أو ماهيته، وهذا حدس أعي أنا قبل غيري أنه التفسير الذي أعطيه للكون. أي تفسير يبقى تفسيراً، وليس هو بالضرورة إجابة على ماهية هذا الوجود، لكن يبقى هنالك حدس بغموض هذا الوجود. حتى قولك أن هذا الوجود غامض هو من تفسيراتك، لذلك هاجسي ليس الموت بهذا المعنى. الخوف من الموت على رأي نيتشه هو قرف من الحياة. أنا لا أخاف من الموت لأنني لا أقول لا للحياة. هاجسي هو الحياة، والموقف الخائف من الموت ساهم في بناء الفكر المضاد للحياة الذي تكلمت عنه سابقاً. صار الموت (أي الموقف ضد الحياة) طموحاً، وعلى رأي المتنبي “كفى بك داء أن ترى الموت شافياً”، وهذا موقف يجب قلبه لكي أقول أولاً نعم للحياة، وعندما تعيش الحياة بكل امتلاء، فإن الموت هو خاتمة النشيد وليس تراجيديا. المرض زاوية نظر في معنى الصحة والعافية، والعافية زاوية نظر إلى المرض، وأنا أنحاز كليا للحياة المعافاة.
الشيخ: أشعر أحياناً عندما أقرأ ما تكتب أنك لا تخفي نساءك. ثمة نساء محتجزات خلف كلماتك، وقلما ظهرت المرأة الشبقة والعادية.
عندما تقول أحرفاً تركبها معاً لكي تعطي ما يسميه العرب القدماء باللفظ الجزل، فأنت تحول اللغة لكي تأخذ نمط القوة الذكورية. وعندما تنسج اللغة لكي تتحول إلى منديل فأنت تنسج الأنثى. هذا الجدل بين الذكورة والأنوثة في نصوصي موجود في كل سطر.
أحياناً تبدو اللغة وكأنها تقتحم أو تجتاح، وهذا موقف فيضاني يمكن أن تسميه بالذكوري. ومرات تنحسر اللغة مثل الموج في الجزر، وهذا نوع من الأنوثة. ويمكن أن تقول إن هذه العلاقات بين ذبذبات الفيزياء داخل اللغة هي أيضاً علاقات لذة، أو نشوة، وجزء من مشروعي الذاتي هو إعطاء اللذة في الموسيقى والتصوير، إعطاء اللذة باعتبارها الموقف الأساسي من الحياة، لذلك ففي “حجر الورد” أو “الضوء الأزرق” هناك تحويل لطاقة الحزن والانكسار إلى نشوة: الموسيقى هي نشوة الأحرف والمفردات، حتى عندما تقول الكلمات معنى عن الحزن والانكسار، أعالجها بدقة موسيقية لكي تصبح النشوة هي السائدة.
الشيخ: أنت تميل إلى الهزيمة أمام الأنوثة إذن؟
لا، أنا أبحث عن توليفة من اللذة، التي يمكن تسميتها لذة الذكر والأنثى، الموجودة في اللغة. موقف من اللذة يجتاح الاثنين ويسوقهما أمامه، أتذكر مقطعاً كتبته ولم أنشره:
“لست من بين الإناث ولست من بين الذكور، ولست أيضاً بين بين فأنا اختفاء النهر عند لقاء الضفتين.” اللذة ليست فقط جنسية، بالمعنى العادي للكلمة. في رأيي أن الرقص الحقيقي لذة، مثلاً، والكتابة لذة. أجمل ما أكتبه يكون عندما تتحول اللغة إلى لذة عالية. عندما ترى زهرة فأنت تشعر بلذة ما، والكلمات زهور. دعني أطرح نقطة أخرى هنا: “المرأة”، ما يسميه الذكور بهذا الاسم، ليس أكثر من تخيلاتهم وهواجسهم حول “الآخر”. مفهومهم للمرأة “ذكوري”، مثل مفهوم السيد عن عبيده. المرأة، كالكون، ليست واضحة إلى هذا الحد. ولن يوضحها أن تأخذ بأفكار كل من هب ودب عنها، في تاريخ جعلها تابعة للذكورة.
الريماوي: هذا يعني أنك لا تصف اللذة، إنما تكتبها في النص.
نعم، نعم. أعيشها في النص.
خداش: مصادر تفكيرك مستمدة من لغات ثلاث: الهنغارية. العربية والانجليزية، ما مساحة التلاقح والتضارب بين هذه اللغات؟
علاقة اشتباك خصبة جداً، أخصب بكثير مما لو كنت أحيا داخل لغة واحدة. وهذه الاشتباكات لها القدرة على تغريبك عن لغتك الأم وعن ذاتك المنحصرة في لغة واحدة فقط. بالهنغاري لا أستطيع أن أكتب الشعر، لا أعرف الإيقاعات. لا أستطيع أن أسمعها كشخص تربى عليها. وهي لغة ناعمة، وحتى الآن عندما أقرأ إليوت أو شكسبير لا أحس بالإيقاعات كما يحس بها شخص إنجليزي. أنا أقرب إلى لغتي الأم، خاصة في الأدب. أحياناً يحدث اغتراب عندي عن اللغة العربية. كنت أحلم وأفكر بالهنغاري والإنجليزي لفترات طويلة. فقدت الصلة بالقراءة باللغة العربية لفترات طويلة. وبالتالي كنت “أرحل” بين الثقافات المختلفة، ولا أقيم في أي منها.
خداش: المساحة بين العبارة والتفكير، أي اللغة، أوسع وأعمق؟
كل لغة هي بنية ذهن مستقلة. الخصوبة هي أن ترى الذهن وهو يعمل بنظم مختلفة، وطرق أخرى للتفكير بحيث أنك بلغتك الأم تبدأ في إدراك المتناقضات، تبدأ في رؤية لغتك الأم بطريقة مختلفة، وترى خصوصياتها. مثلاً، في اللغة العربية يوجد “اسم المكان”، مثل “محجر” أو “مطار”، وهذا لا يوجد في الهنغارية أو غيرها. ستبحث هنا في العلاقة بين اللغة كفعل (مثل: طار) ومكان الفعل، مثل “مطار”. اللغة العربية قواعدياً مبنية بطريقة مختلفة، هذا يجعلك تعي جماليات اللغة العربية، وهذا لا يعني أن اللغات الأخرى غير جميلة.
خداش: ما العلاقة بين الريف والمدينة في حياتك وإبداعك، والعلاقة بين فلسطينيتك وكونيتك؟
فلسطينيتي ثانوية وتافهة بالنسبة لكونيتي.
خداش: لكن المحلية أو الوطنية هي طريق الكونية أو العالمية .
المحلية لا تعني الانتماء لأيديولوجيا، مثلاً. المحلي عندي مختلف. الإنسان يعود إلى الذاكرة دائماً. ذكرياتي ليست قروية مئة بالمئة، لكن ذاكرتي ذات طابع ريفي. وهذا التكوين انتبهت له لاحقاً. وحاولت تحويله لإخراج الريف من ريفيته، يعني النجوم والزيتون والليل والقمر، وبقية الرعويات. هذا الوعي الفلاحي/الرعوي يطغي على الشعر في فلسطين، مثلاً، وموجود في كل مكان من العالم العربي، من المغرب إلى الخليج. وهو استمرار لتاريخ سحيق بدأ مع استئلاف الماشية والثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث، و هناك حنين أساسي إلى الريف والبداوة في الإبداع العربي. هذا تكوين خطر لأنه يفصل بيننا وبين التجربة المعاصرة الحديثة. أحاول أن أدمج المدينة المعاصرة والريف والبداوة في توليفة من نمط مختلف، أي من نمط يشير إلى رؤياي الأبعد غوراً، في “الضوء الأزرق”، مثلاً، أو في “حجر الورد”. لا يمكننا أن نرمي بذاكرة طويلة وخصبة كهذه في صناديق القمامة، ولكن طريقة رؤيتنا المحافظة لها، وانفصالنا عن زمننا المعاصر لنا ليس حلاً أيضاً. أحاول أن أتصل بالذاكرة هذه وأن أحولها وأجعلها رؤيا معاصرة قادمة من المستقبل وليس من الماضي.
خداش: الاحتفاء بظاهرة الشعراء الشبان مبالغ فيه. ألا تتفق معي؟
قلت لهم ذلك: تأكدوا من الحساب، فأنتم من سيدفعه. يمكن أن تختار ما تشاء ولكل شيء ثمن. يجب أن تتأكد من خياراتك، أوضحت تخوفي من أن يقود “الضجيج الإعلامي” حولهم إلى نتائج كارثية عليهم. لا أريد في المستقبل أن أتحمل مسؤولية ذلك، ادفعوا الحساب وحدكم.
خداش: من هي التجربة الشابة التي هزتك أكثر من غيرها؟
التجارب ككل غير متوقعة. ظاهرة الشعراء “الشبان” هي نتيجة الفسحة التي جاءت بعد أوسلو وانهيارات المرحلة، وهي مساحة جديدة تكونت في سياق التسعينات، أساساً. لم أكن أتوقعها لكن كنت أعتقد أن هناك صوتاً جديداً سيجيء. بالمقابل لا يجب أن يبالغ الشعراء الشبان في تقييم تجربتهم. لا أريد هنا أن أذكر أية أسماء بخاصة، كيلا يفهمني الآخرون بشكل خاطيء.