الفصل الأول
أصابعُ كفِّهِ ترتعشُ وهو يكتب بقطعة إظفرٍ مغمَّس بالدم:
«لا شيء يدوم؛ ولا حتّى أنا، صوتي الذي طالما تناغمَ مع صداهُ، سينقطِع، وإلى الأبد».
يتحسَّسُ رؤوس أصابعه المُدماة، هناك نتوءٌ بارزٌ في الجهة اليمنى من ظفره الأيسر، يعضُّ بما بقي من أسنانه الأمامية عليه وينزعه، يبلِّلُهُ بالدم الذي تخثَّرَ بعضُهُ على ساعد يده اليسرى، صار أشبه بقلم رصاصٍ زالَ الخشبُ عنه، يكتب بحروف مقطَّعة على الحائط، تهذي كلماته، سيموت بعد قليل، إنّها أنفاسه الأخيرة في هذه الحياة التي تشبه كلّ شيء عدا الحياة، لقد مات حين وُلِد وحيداً لأمّه ومنسوباً إلى أبٍ غير والده البيولوجي الذي قتلَهُ قبل أيّام.
وُلِد حكمت علي محمد ناظم العمر بعد الاضطرابات التي أصابت الوطن بسبعةِ أشهر، تحديداً في الثالث والعشرين من الشهر العاشر. أمُّهُ شريفة، زوجة علي محمَّد ناظم العمر الذي اعتُقل في شوارع المدينةِ مع آخرين، وبعد أسبوعين من الخروج إلى الريف خوفاً من موتٍ مجّاني وبحثاً عن حياة، عادت وحيدة إلى منزلها تنتظر عودة زوجٍ لم يرجع، لتبدأ رحلتها في البحث عنه. قصدَت كلَّ مكانٍ ينتسب إلى السلطة حتى أوصلتها الأقدارُ إلى القلم السياسي حيث استقبلها شرطي يقف على البوابة الرئيسية، وعدَها بأنَّه سيبحث عن الرجل المفقود بعد أن أخذ عنوان سكنها، وفي اليوم التالي طُرِقَ باب البيت وكان الشرطي زائراً للأمّ كي يخبرها أنّه وجد اسم زوجها في السجلّات، وهذا يعني أنّه معتقلٌ في الطابق السفلي، وأنَّ إخراجه يتطلَّب مالاً كثيراً. لم تتوانَ السيدة شريفة حينها عن إخراجِ كلّ ما بقي من ذهبها ووضعه في حِجر الشرطي، لكنَّ الزوج لم يخرج ولم يعد.
ضاقت أحوال الأم في ظلِّ غياب الجميع نتيجة الخوف، فصارت تستدين مالاً من الشرطيّ الذي ظلَّ يتردّد على بيتها حاملاً أخباراً كاذبة حتى هدّدها بالاعتقال تحت تهمة عداء الدولة العليّة ما لم تستجب لرغباته الجنسية. هكذا صارت الأمُّ حاملاً بطفلٍ اختفى والده الشرطي بعد اكتشاف الحمل. وكانت حوادث الاغتصاب دافعاً لكلّ النساء كي يعلِنَّ الحمل من الزوج الغائب خوفاً من حدوثِهِ بعد اعتداء، أمّا إن أتت إحداهنَّ الدورة الشهرية، فقد كانت تتنفّس الصعداء لأنَّ فترة دم الحيض تحميها من احتمال اعتداء. احتفظت الأمّ بالسرّ الدفين طيلة أربعة وثلاثين عاماً، وقبل أن تموت في الأسبوع الماضي كانت كلماتها الأخيرة بأنفاسٍ متقطِّعةٍ تلفظُ اسم الأب الحقيقي وأوصافه.
لقد جاء الصبيُّ شبيهاً بأمّه، ربّما صلّت طويلاً كي يشبهها بعد أن قاوم كلّ محاولات الإجهاض التي استقصدته أملاً في خروجه ميِّتاً إلى الحياة التي تشبه كلَّ شيءٍ إلّا الحياة.
كانت يداه ترتجفان وهو يدفن أمّه مع سرِّها، أولئكَ الذين اصطفّوا حوله طيلة رحلة الدفن ليسوا أهله، لطالما كان واحداً منهم لكنّه الآن – وحده – يعرفُ أنّه ليس منهم، الملحُ في جسده لا ينتمي لهم، يا لعاره الأوحد – كانت نفسه تردّد – كيف جاء حاملاً جينات القاتل بينما عاش حياتَهُ حاملاً اسم الضحيّة.
بعد أيّام ثلاثة من موت أمِّهِ، وصلَ الشابّ إلى الشرطي. لقد كان في مثل عمره الآن حين حملت الأم الميِّتةُ منه، وقد وصل إلى ضعف عمره حين قتلَه. ركبَ درّاجة هوائية بعد أن سرق مسدّساً صغيراً من خاله وقصد الرجل الذي كان جالساً مع أصحابٍ له أمام متجر للمفروشات في السوق الكبير، عرفهُ حين رآهُ من بعيد ومع اقترابهِ سألَ عنه إيّاه، وقبل أن يجيب الرجل، قال ابن القاتل والضحيّة في آنٍ معاً مختصراً حكايتَه: «أنا حكمت ابن شريفة»، اتَّسعت عينا الشرطي إلى مداهما فعاجله برصاصتين في الرأس مباشرةً ليغرق في دمه قبل أن ينهض من مكانه، وهرب بعد أن تبادلا الأدوار عند خطّ النهاية. قبل إسدال الستارة، صار القاتل ضحيّة والضحيّة قاتلاً.
هذه قصّةٌ مكتوبةٌ بخطٍّ صغير، من بين أشياء أخرى وصلَت من جدّي الأكبر إلى أمي قبل أكثرَ من ستين عاماً، فلماذا أستلُّها من ذاكرتي الآن قبل النهاية؟ جدّي الضابط في الجيش العثماني الذي رسم موتاً اشتهاه بعد أن حارب الميليشيات الصربية في زغرب ببلاد البلقان عقِبَ تخرُّجِهِ من الأكاديمية العسكرية العثمانية في اسطنبول، لتقوده الأقدار وهو برتبة رئيس «يوزباشي» قائداً لقوّات البدو في منطقة العريش المصرية، قبل أن يُصابَ في أعلى يده اليسرى على شاطئ قناة السويس خلال مواجهات الترعة بشظيّة مدفعية بريطانية، ليُنقل بعد ذلك إلى القدس حيث أجرى عدّة عمليات جراحية فاشلة أدَّت إلى نقلِه نهائياً إلى مستشفى الشاريتيه في برلين ضمن تفاهم التحالف بين العثمانيين والألمان لعلاج الجنود المصابين في الحرب بغية إعادة زجِّهِم بالمعركة الألمانية في الأراضي الأوروبية ببلغراد وجبال التيرول بالمجر في حال شفائهم.
تلك القصاصة الورقية التي كتبها جدّي كانت في أغلب الظنّ ضمن أشياء أخرى أوصلها – إلى عائلة أمّي – اليوزباشي رضا اللبناني الذي صودف وجوده في حامية عكّا خلال الحرب، وقد أكَّد اليوزباشي – كما يروي الأحياء حينها في العائلة – أنَّ أصدقاءَ له عادوا من برلين قبل مغادرتِهِ فلسطين وقالوا إنَّ الذراع اليسرى لحكمت باشا قد بُتِرَت بالكامل فور وصوله إلى العاصمة الألمانية.
كان اليوزباشي رضا – كما تناقلوا وصفه – يملك وجهاً طويلاً بملامح صقر، يملك شارباً أشقر كثّاً أسفل أنفه، لخطواتِه وقعٌ على الأرض حين يسير، يرتدي دوماً معطفاً ربيعياً أخضر ويحملُ دائماً تحت سترتِه عدداً من جريدة الجيش العثماني تظهر فيها صورتُه بوصفه مقاتلاً مثالاً في الإخلاص للدولة العليّة، قال لمَن التقاهم حين زارَ عائلتي إنَّهُ تعرَّف إلى جدّي عام 1907 في الآستانة خلال دراسته في مدرسة «اسطنبول تكنيك» التي كان دائماً يُستعاض عن اسمها عند الحديث عنها بـ«المهندسخانة»، ثمّ نُقل إلى منطقة الفرات الأوسط ومنها إلى أدرنة فبغداد وأخيراً إلى الجيش العثماني الرابع في فلسطين مع بداية عام 1915 حيث تزامن وصوله مع غزو الجراد للسهول الفلسطينية مع نهاية آذار من تلك السنة، جرادٌ أحمر يميلُ إلى البنّيّ، كان ناقلُ القصة عن اليوزباشي يثني أصابع كفِّه على شكل تجويف مشيراً إلى حجم الحشرة الواحدة، حمراء بنّية إن كان الجراد ذكراً ومائلة إلى الصفرة إن كانت أنثى حاملاً، تضع بين مئة ومئة وخمسين بيضة. لقد أهلك الجراد الزرع حتى نصبَ الناسُ له الفخاخ في الخنادق التي ملؤوها بالماء، أحرقوه بالنار عبرَ قاذفات اللهب المحمولة على الظهر، تلك التي تشبه إلى حدٍّ بعيد العُلَبَ البلاستيكية التي نستخدمها لرشّ المبيدات على الأشجار، فلحوا الأرض بالبغال والحمير والأحصنة كي يقضوا على البيوض، حتى إنَّ الوالي العثماني فرضَ على كلِّ مَن لم يُسَقْ إلى الجندية غرامةً تصل إلى ليرة عثمانية ذهبية، إن لم يجمع عشرين كيلوغراماً من بيوض الجراد.
أمام هذا المشهد الذي زاد من حصار البؤس في نفوس الناس، نُقل اليوزباشي رضا إلى غزّة التي نُقل جدّي إليها قبله، فالتقى الرجلان مرّة أخرى حيث شاركا معاً في الهجوم على القطعات البريطانية المتمركزة في جبهة قناة السويس قبل أن يُنقَل اليوزباشي رضا إلى عكّا بعد إصابة جدّي ونقلِه إلى القدس.
كثيراً ما كنتُ أردِّدُ تلك القصص الشفاهية، متأمّلاً مقتنيات جدّي التي تعاملت معها العائلة بكثير من التقديس والإجلال لرجلٍ غادر ولم يعد أبداً…