ما الذي تتركه الحرب فينا بعد أن تنتهي، أكثر رعباً من الكوابيس التي تعشعش في الذاكرة المرهقة بالخوف الذي يتأصل فيها، ذلك الخوف الذي يصفه المخرج العراقي الشاب أحمد عبد في فيلمه الوثائقي الطويل «القصة الخامسة» بقوله: “هذا الوحش الذي بداخلنا يطاردنا”، وهو يروي في فيلمه، إلى جانب قصته الشخصية، قصصاً لعراقيين آخرين، شخصيات بسيطة تنتمي للطبقة الاجتماعية المسحوقة التي ينتمي لها غالبية العراقيين، تجمعهم ثيمة واحدة، هي ذاكرة مؤلمة تركتها فيهم حروب العراق الطويلة.
في فيلم القصة الخامسة، والذي قُدّمَ في أول عروضه، ضمن فئة الظهور الأول لمهرجان إدفا للأفلام الوثائقية الدولي (IDFA) في أمستردام، بدورته الثالثة والثلاثين، اختار مخرجه أن يكون صوت الراوي لحكايات حروب دموية مرّ بها العراق عبر عقوده الأربع الأخيرة، وظلّت هواجسها ومخاوفها وأشباحها تطارد أحمد مذ كان طفلاً.
أشباح موتى الحرب
مخاوف أحمد تحولت لتراوما ما بعد الحرب، أو ربما تراوما الحروب المتتالية التي عاشها، والتي نتجت عن الخوف الذي زرعته صدمة الحرب في داخله، فقرر أن يواجه تلك المخاوف بسردها، فعاد للمكان الأول، مسقط رأسه، قرب العاصمة بغداد، التي ولد بها وولدت فيها كذلك مخاوفه الأولى عام ٢٠٠٣، عندما تصادف وجوده مراراً في وسط اشتباك مسلحة بين مليشيات عراقية مسلحة والجيش الأمريكي، إحداها أثناء محاولته الهروب من منزله الذي دار حوله أحد الاشتباكات، كانت تلك الحرب أول الحروب العراقية التي يشهدها طفلاً بالتاسعة عمره اسمه أحمد، كبر وكبرت بداخله التأثيرات النفسية للصدمات المتتالية، فواجهها بصناعة فيلم عنها.
من بغداد، ينتقل المخرج بكاميرته لشمال العراق، لصحراء الموصل تحديداً، ليلتقي هناك بالفتى البدوي اليافع نصّار، الذي لا يزال يعاني صدمة ما بعد الحرب، وتطارده حتى اليوم كوابيسها، بعد أن احتل التنظيم المتطرف “داعش” مدينته لعدة سنوات، حكمها بالحديد والنار وعاث فيها فساداً، هذه الحرب التي شاركت فيها كذلك الفتاة المقاتلة الكردية الإيزيدية آخين شنكَالي، التي قاتلت داعش بعد احتلالهم مدينتها سنجار وسبي آلاف النساء الإزيديات، حيث التقت بها كاميرا أحمد في أحد مواقع التدريب العسكرية في جبال كردستان، شمال العراق، حيث دارت سابقاً المعارك مع التنظيم المتطرف.
لكن حروباً سبقت ما شهده نصّار وآخرون، وأحمد الذي أراد الذهاب لأبعد مما شهده وعاشه، فعاد ينبش في ذاكرة والده الذي عمل في تكفين ودفن الموتى خلال الحرب العراقية الإيرانية، وورث قلق من دفنهم وكوابيسهم، والذي يقول لأحمد: “كيف لك أن تسمع صوتك فوق صوت الرصاص؟” كان صوت مدافع الحرب أعلى من صراخهم في وجهه، فلقد هزم الجميع في تلك الحرب إلا الحرب الوحشية ذاتها، كما يرى العم عدنان -كما يناديه أحمد بالفيلم- والذي التقاه في عزلته وسط زحام المدينة والمحطة في بغداد، وبحث في ذاكرته أيضاً عم بقي من الحرب التي كان فيها جندياً مقاتلاً في الجيش العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية ووقع في الأسر، ثم خرج منه وعاد للعراق ليجري اعتقاله وتعذيبه من قبل النظام البعثي السابق، وليقرر بعدها الهرب من صدمة ما بعد الحرب إلى عزلته الشخصية مشرداً في محطة قطارات بغداد، يحارب أشباح كوابيسه وحيداً.
جراح الذاكرة لا تشفى
لأن جراح الجسد تشفى أسرع من جراح الذاكرة، سنرى آثار تلك الجراح في وجوه الشخصيات الخمسة، من خلال حياتهم اليومية، ظروفها وشكل بيئتها، وفي أصوات أحاديثهم عن كوابيس الحروب العبثية كما يسميها عدنان: “دولتنا حاربت، وحروبها كلها بلا جدوى”، لكنها كلفت العراقيين والإيرانيين ما يزيد عن مليون قتيل معظمهم من المدنيين، وأكثر منهم جرحى في حربٍ عدّت واحدة من أطول حروب القرن العشرين منذ الحرب العالمية الثانية (1980-1988)، وأحد أكثر الصراعات دموية وكلفة من الناحية الاقتصادية وصلت إلى 350 مليار دولار.
ذلك المشرد الذي عاصر تاريخ العراق من قبل تسلم البعث للسلطة منتصف الستينيات، وصولاً لتولي صدام حسين الحكم بانقلاب عسكري، والحروب المتتالية التي خاضها مع جيرانه، قبل أن يُسقط حكمه حلفائه الأمريكان السابقون، في حربه ضدّ إيران، ويحتلون العراق في حربٍ أخرى حصدت أرواح 655000 عراقي قتلوا منذ بداية الغزو الأمريكي في 19 آذار/ مارس 2003 وحتى 11 تشرين ثاني/ أكتوبر 2006، بحسب دراسة لمجلة لانسيت الطبية البريطانية.
عاصر الرجل حروب العراق الحديثة كلها، ومن قبلها الانقلابات السياسية، ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، مروراً باحتلال الكويت، وحرب الخليج الثانية عام 1990، وصولاً لاحتلال العراق 2003 وما تلاها من حرب أهلية 2006، وصولاً للحرب على الإرهاب التي لا تزال تلقي بظلالها على العراقيين حتى اليوم. فهزيمة تنظيم داعش لم تكن نهاية الحرب في بلد ينخره الفساد السياسي والاقتصادي، رغم امتلاكه ثروات نفطية هائلة، وتحكم مصيره ومصير شعبه دول أخرى.
ولأن صانع الفيلم غالباً ما يبحث عن إجابات لنفسه، يبحث أحمد عن أجوبة حول كل تلك الحروب، نابشاً ذاكرته المرهقة بالخوف، وذاكرات من حوله، ليخرج وحش الخوف من داخله ويواجهه، ذات الوحش الذي حاول المخرج أحمد في مراهقته أن يواجهه، حين حمل لأول مسدساً بلاستيكياً ووجهه نحو الطائرات الأمريكية من على سطح بيته، لكن وحوش الجو الحديدية التي كانت تصب جحيمها على العراقيين، لم تبالي بالطفل الذي يقاتل مخاوفه الداخلية، والذي لم يستسلم حتى كبر لكتشف في السينما علاجاً شخصياً لمواجهة وحش الخوف الداخلي، بأن يشارك تلك المخاوف، ويتحدث عنها في سرد بصري وإيقاع جميل مدروس.
الحكاية الخامسة لشعب يريد إسقاط النظام
يحمل العنوان تأويلات متعددة، فهل هي الحكايات العراقية الخمس والتي اختار المخرج أحمد أن تكون حكايته خامس الحكايات الأربع، أم هي الحكاية الخامسة عن ثورة شعب عايش عدة حروب سابقة خلال أربعة عقود، وشهد تحولات سياسية في أنظمة حكمه، وفساداً سياسياً وأمنياً، قاد البلاد من مرحلة الديكتاتور إلى مرحلة سطوة المليشيات، فخرج الشعب العراقي للشارع ليواجه وحش مخاوفه، في انتفاضة أكتوبر 2019، مطالباً بإسقاط النظام السياسي الحاكم؟ وهو الحلم والأمل الذي يراه أحمد ويستبشر فيه غداً أفضل.
انه فيلم عراقي، يمتلئ بالطلقات والأسلحة الكيميائية وجثث الضحايا والمقاتلين التي لا نراها، لكننا نسمع عنها معلقة في شوارع الموصل، ونشعر بها في كل حكاية وذاكرة، ونرى آثارها على أطفالٍ يبحثون عن طواحين هواء يقاتلونها حين يقلدون الجلادين في قتل وارهاب ضحاياهم، تلك قاعدة في علم النفس، بأن الطفل الخائف يحارب مخاوفه بتقليد مصدر خوفه، وهذا ما قاله أحمد بلغته البصرية في مشهد جميل للأطفال في صحراء الموصل وهم يلعبون لعبة الحرب، كما فعل أحمد نفسه يوماً حين كان طفلاً.
رغم كل ذلك، لا يحاكم الفيلم أحداً، ولا يخوض في القضايا السياسية الشائكة، بقدر ما يقدم فيلماً يقدم لنا واقع بلدٍ دمرته الحروب المتتالية من خلال شرائح مختلفة من سكانه.
فيلم بلا موسيقى خارجية
يعتبر الفيلم، للمنتج السوري – الأمريكي لؤي حفار، وإنتاج الجزيرة الوثائقية، التجربة الوثائقية الطويلة الأولى لأحمد عبد، بعد أفلامه القصيرة «عِش الحرب»، «صافيا» و«طيور سنجار»، اعتمد فيه موسيقاه الداخلية، وهو قرار ليس بالسهل أن يختاره المخرج بعد اللجوء للموسيقى الخارجية، والاعتماد كلياً على الأصوات الحية في مشهديته، صانعاً إيقاعه الداخلي، التي أبقته هادئاً ورشيقاً في نقلاته الزمنية غير المتسلسلة، ولا شك أن خلف ذلك مونتير ومهندس صوت محترفان.
ولا شك أن الفيلم كان رهاناً ناجحاً للمنتج لؤي حفار، والذي شارك أحمد كذلك كتابة السيناريو، وهو منتج أفلام وثائقية مخضرم، عمل لسنوات في الجزيرة الوثائقية، ولاحقاً منتجاً مستقلاً وأنتج وأشرف على إنتاج عشرات الأفلام الوثائقية، للدخول في مغامرة الفيلم الطويل الأول مع مخرج شاب، استطاع بموهبته إقناع منتجه والجزيرة الوثائقية، بأنه قادر على تقديم فيلم مميز، حاز في أول مشاركة له في مهرجان سينمائي، جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين في مهرجان إدفا الدولي للأفلام الوثائقية.