كلمات أغنيةٍ تتكرر وتتكرر في رأسي:” نحن الليلة ما زلنا فتياناً، وسنوقد النار في العالم، يمكننا أن نتقد اشتعالاً بضوءٍ أكثر سطوعاً من الشمس”. وكحال الترجمات الحرفية التي قّلما تصيب المعنى، المقصود هنا إشعال العالم حماسة، أو باللغة العامة الدراجة “توليع العالم”.
تخزني كلمات الأغنية مثل دبوّس، أنا شابةٌ الآن، يجب أن أمتلك تلك الرغبة، وذلك التوق إلى الحب والمغامرة. سبق واختبرت لحظاتٍ مثل تلك؛ تيارٌ كهربائي مر بجسدي وأيقظني. لكنها عادة ما كانت لحظات عابرة كحضور حفلٍ موسيقي وتلقي خبرٍ عن الترقيّ في العمل، وصول إيميل طال انتظاره يحمل وعداً بالتغيير، النجاح في الدراسة، بداية الوقوع في الحب. كما أصابتني أحياناً سعادة خرقاء دون سببٍ واضح تبعتها رغبة باستنشاق كل الهواء في الأرض، وامتصاص أصوات العالم وألوانه ولمس كل شيء فيه. لكن تلك كانت لحظات استثنائية في سياق أكثر ركوداً ومشاعر أكثر خدراً.
رغبتُ بشدة أن أكون تلك الأغنية الأولى، لكنني وفي معظم الأحيان أشبه أغنية أخرى تحمل اسم “الشباب” لفرقة (Daughter) البريطانية والتي تقول بعض كلماتها: “إن كنت تتنفس فأنت من المحظوظين، لأن معظمنا يتنفس من رئتين فاسدتين، نضرم النيران داخل أجسادنا كضربٍ من التسلية، نجمع أسماء الأحباء الذين لم تكتمل قصص حبنا معهم. إن كنت تنزف فأنت من المحظوظين، لأن معظم أحاسيسنا ماتت وتلاشت، نضرم النار في أجسادنا على سبيل التسلية فقط، نجمع صوراً للفيضان الذي أطاح بمنازلنا”. تسخر الأغنية أيضاً من فكرة أننا كشبّان، ننسى أن نكون كذلك، كان يجب أن نكون نحن المتهورين الجامحين الذين يفكرون في أحلامهم المستقبلية، لكن الحقيقة مختلفة، وكثيرون سيموتون قبل أن يدركوا تلك اللحظة التي يسمونها مجازاً “مستقبل”. هي أغنية مظلمة، أعرف. لكن تلك هي حال الأغنيات التي يكتبها أصحابها لأنهم يريدون أن يصفوا شيئاً شعروا به بشدة، حتى وإن أدركوا بأنهم تمادوا في “الدراما”.
هناك ظاهرةٌ شائعة، لابد من البحث عن اسمٍ لها، تتعلق بتمثّل الشباب الذهني والنفسي وأحياناً الجسدي لجيل الكهولة. فنحن جيلُ يفكر في الموت كثيراً، وفي التقدم في السن، والتجاعيد، والحياة التي يذهب الكثير منها هباءً.
ويمكن التدليل على ذلك من كمية الصور والنكات التي يقع عليا المرء في الفيسبوك أو إنستغرام والتي تسخر من الطريقة التي نمضي فيها ما يسمى بـ “زهرة شبابنا” وتلعب على المفارقة بين التوقعات من جيل الشباب، وكيف هي مشاعرهم حقاً. فالصور تسخر من الغرق في النوم، والتحرّك بصعوبة من الأريكة وحتى السرير في سن الثلاثين. هناك نكاتٌ عن الشاب العشريني الذي يشعر بنفسه كهلاً غير قادر على الحركة فيما تبدو جنيفر لوبيز في الخمسينات حيّة وشابة أكثر من أي وقت مضى. فعلاً هذا أمرٌ يستدعي التفكير؛ ألا تعيش جينفير لوبيز معنا على ذات الكوكب؟ هنيئاً لها إن كانت تشعر بأنها حيّة من الداخل كما تبدو.
قبل الاستماع إلى أغنية (Daughter) حول الشباب، كنت أظن بأننا فقط الشباب السوريين من يغفلون عن فكرة كونهم شبّاناً، لكن وكما يبدو الأمر أكثر عموميةً من ذلك. قرأت بأن هناك من يفرّق بين العمر العقلي النفسي وبين العمر الجسدي. وفي حين يعد الأول ذاتياً يتبع أحاسيسنا عن أنفسنا وعن الزمن يكون الآخر موضوعياً تماماً. قرأت أيضاً دراسة تقول بأن الشبان في بريطانيا بين 24-35 يشعرون بوحدة أكبر من أناسٍ في الخمسينات من عمرهم.
ماذا حصل لنا؟ حصلت لنا السوشيال ميديا، وألف شكلٍ وشكلٍ للإدمان؛ الكحول المخدات، إدمان العمل. ماذا حصل أيضاً؟ فقدنا الأمل ربما، لم يحدث هذا دفعةً واحدة، كنا لا نشعر بشيء وكانت حياتنا راكدة، ثم حصل ما جعلنا نشعر بأن هناك أملاً وبأننا أقوياء جداً، لكن الأمل ابتعد أو تأجل. حصل أيضاً أن شاهدنا العالم يزداد اتساخاً، والحيوانات تنفق من الصيد والتلوّث وارتفاع الحرارة. العالم يشتعل، ونحن منطفئون. نقول في سرّنا بأننا كنا سنكون شباناً حقاً لو عشنا الستينات في أمريكا أو الخمسينات في سوريا. سئل جيم موريسن الشاعر والمغني في فرقة الروك الأمريكية الشهيرة (The doors) ضمن مقابلة أجريت معه قبل عام من موته في 1971 عما يتمسك الشباب به وبما يأملون. فأجاب: لا أستطيع الإجابة بالنيابة عن جميع الشباب لكن أتوقع أنها ذات الأشياء التي لطالما احتفوا بها: “السعادة بالوجود، واكتشاف الذات، والحرية”.
هل نعرف نحن شعوراً مثل هذا؛ أن نكون سعداء لأننا موجودون هنا والآن؟ أو لأننا بتنا نعتاد أنفسنا أكثر ونفهمها، هل نجرأ على تخيّل أنفسنا أحراراً؟
الشباب هو لحظة التقاء زمنك الشخصي مع زمن العالم ككل؛ كي تكون شاباً حقاً يجب على العالم أن يكون شاباً كذلك، لكننا كنّا شبّاناً في عالمٍ كهل فقد صبره وطاقته ورغبته. الشباب أشبه ببطاقة محدودة الصلاحية منسية في جيوبنا، نلمسها أحياناً بأطراف أصابعنا لنتأكد من أنها ما تزال هناك، ونحن نعلم أنها تخسر جزءاً بسيطاً من قيمتها في كل يوم جديد. هكذا نحن الشباب، ننسى أو نتناسى أن نعيش، ننتقم من الزمن بهدره. أو ننفقه بلا طائل في كتابة مقالات عن الشباب الضائع. لكننا ومع ذلك، وحينما نصفو إلى أنفسنا، نضع أيدينا في الجيب ونتمسّك بالبطاقة مرةً أخرى، نصيغ السمع إلى صوت العالم ونشعر بنارٍ صغيرة تكبر وتتوهج في قلبنا.