ماجدة II
لو صنَّفت كلّ الأوجاع التي عانيتها، والأذى الذي تعرَّضتُ له طيلة حياتي إلى مجموعات وفروع، لوضعت خديعة أرمن سيمونيان لي في المرتبة الأولى، فقد سرق سنوات عمري ثمّ سحب ولديَّ بعيدًا عنّي. في المرتبة الثانية ستأتي أمّ سيّد وعصابتها الزبالة، لأنّ حياتي صارت جحيمًا في السنوات الأخيرة التي جاوروني فيها، أمّا في المرتبة الثالثة، فالمفاجأة الصدمة، الجرح الطازج، الطعنة التي تلقَّيتها من أحبّ أحبّائي، آرثر الطيّب، الذي باغتني بإيميل فيه من الوجع ما لا يُحتمل. يا الله! هل كتبتَ عليَّ أن أتألّم حتى آخر العُمر؟
سيجلب آرثر أباه في زيارة للقاهرة بعد بضعة شهور، ويريدني أن ألتقيه، لأول مرّة بعد سنوات، من ساعة ما عمل عملته. آرثر، ابن بطني، قال إنّ أرمن سيمونيان يريد أن يقدّم اعتذاره لي في حضور كبار آل سيمونيان في القاهرة. تعب من النبذ والإقصاء ويريد أن يصالح ماضيه. أرمن يريد التوبة والمغفرة والصفح على حسابي، وشفيعه في ذلك القدّيس آرثر، ابني البكر الطيّب الذي لا أعرف كيف انزلق إلى هذا المنحدر الذي لم ينزلق له فيكتور رغم أنّه الصغير الطائش. وفيكتور نفسه هو من كشف لي النوايا المبيّتة، فقد راسلني هو الآخر ليخبرني بأن لا يد له في الموضوع وأنّه ضدّ المسألة من أولها إلى آخرها لأنّه يعرف أنّني لن أرضى بذلك أبدًا، ولمّا عرف أنّ أرمن وآرثر تواصلا مع بعض أقاربنا في المعادي ومصر الجديدة، بادر بمراسلتي ليخبرني أنّ أرمن، بمشورة من آرثر، قرّر أن يكون اعتذاره ماديًّا، وأن يكتب لي مبلغًا كبيرًا من الدولارات يوضع في حسابي في البنك. فيكتور قال إنّه سيتفهَّم موقفي لو قبلت عرض والده، أمّا لو رفضت، فإنّه سيرسل لي مصروفًا شهريًّا دائمًا، مساهمةً منه في تلبية احتياجاتي في ظلّ تراجع إيرادات الصيدلية المتوقَّع مع الاضطرابات الاقتصادية في البلد.
جنون مطبق، عُكست الآية يا أولاد، آرثر العاقل الكبير المؤهَّل دومًا للبطولة التفَّ عليّ، وفيكتور الطائش زير النساء هو من ينصفني. لا شيء مضمون إلى الآخر في هذه الحياة، الزوج يغدر والزمن يداوي، الجار يجرح وغريب في قسم الشرطة يتضامن معك، الابن الطيِّب يكشف عن وجه مخيف والابن الشقيّ يكرم أمّه.
لم يتّصل بي أحد من أعمامي، آل سيمونيان صامتون ويدبّرون خطّة في الظلمة، خطّة تخصّني ولا أعرف عنها أيّ شيء، هل كان أحدهم سيجرؤ على القيام بذلك في وجودك يا سوزان سيمونيان؟ تفرَّجي يا ماما من السماء على ابنتك المتروكة وحيدة تواجه كلّ هؤلاء وحدها. الحمد لله على نعمة الكنيسة والنادي يا ماما، والحمد لله على نعمة الأصحاب والكتب، والحمد لله على نعمة أرمينيا التي أستطيع أن أفرَّ إليها متى ما شئت، أصلّي وأبكي في إتشميادزين، ثم أُشهِّد البلد كلّها واحدًا واحدًا على خسّة أرمن، ابن عمّي، وأبو أولادي، الذي جاء بعد 16 عامًا من خيانته الكبرى ليضع بعض رزم الدولارات في حِجري ويشتري بها صكّ غفرانه!
كان وجود آرثر وفيكتور مع أرمن في كندا سببًا منطقيًّا لتصلني بعض أخباره بين العام والعام: صار شريكًا لبعض المصريين في صيدلية في تورنتو. اشترى بيتًا لأول مرّة بعد سنوات من العيش في شقق مؤجَّرة. ألحق آرثر بجامعة في أوتاوا وفيكتور بجامعة في تورنتو. امتلك صيدلية ثانية. حصل على وظيفة بحثية في منظمة الصحّة العالمية، حقق له ذلك المنصب قفزة كبيرة. اشترى شقة في أوتاوا. نشر عدّة مقالات في مجلّات علمية عالمية. اشترى حصّة شركائه المصريين في الصيدلية الأولى وافتتح ثالثة. ودفن إلفيرا، عشيقته الألمانية المهجَّنة بالدم التركي، التي نامت ذات يوم ولم تصحُ.
أخبار أخرى لا أعتقد أنّ الولدين كانا على معرفة بها، نقلتها لي، دون طلب منّي، سوزان سيمونيان. أخبار كانت تصل إليها عن طريق التقصّي والاتّصالات بأعضاء شبكتها الحزبية: حقّق أرمِن سيمونيان مكاسب كبيرة من القمار القانوني في الكازينوهات ومضامير سباق الخيل. هناك أقاويل عن الكيفية التي التحق بها بمنظمة الصحّة العالمية وتقديمه رشى لبعض أصحاب النفوذ، والحقيقة أنّه لا يمتلك شقتين كما يظنّ آرثر وفيكتور، بل 5، منها واحدة على بعد مئات الكيلومترات في إدمنتون. كلّ عدّة أشهر، أو ربّما سنوات، كانت المرحومة ترمي لي خبرًا جديدًا عن أرمن. لم أكن أكترث إلّا بما يمسّ مصير الولدين، ومستقبلهما، دراستهما، أين يعيشان وماذا يأكلان وما تأثير حماقات والدهما على مستقبلهما وسمعتهما، لأنّي كنت في نفس الوقت مشغولة بإدارة الصيدلية التي باتت بعض رفوفها فارغة من الأدوية، والتي صارت محاطة بمجاميع كبيرة من المدمنين الطامعين في بعض أدوية الصرع والأعصاب والكحّة ليتعاطوها كموادّ مخدّرة.
بعد يوم من تلقّي رسالة فيكتور ويومين من تلقّي رسالة آرثر، حلَّت على رأسي مصيبة جديدة لمّا أخبرني صاحب أحد محلات البقالة القريبة من البيت أنّ كاميرا محلّه رصدت بعض أتباع أبو سيّد وهم يخبِّئون الممنوعات التي يبيعونها في شكمان وعجلات سيّارتي المركونة تحت البيت منذ شهور بعدما تعطّل موتورها واستبدلتها بركوب التاكسيات. الرجل أراني فيديو صامتًا بألوان باهتة تظهر في زاويته اليسرى من فوق مؤخّرة سيّارتي بينما ينحني أحد الأشقياء عليها ويمدّ يده إلى شكمان الدخان أسفل السيّارة ليستخرج حزمة داكنة. لا شيء واضحًا في الفيديو أكثر من ذلك. صُدِمت، شعرت بخوف كبير ممّا رأيته. صاحب البقالة نصحني بعدم الدخول في صدام مع هؤلاء الذين لا يعرفون ربّنا، واقترح أن أنقل السيّارة بونش إلى جراج قريب مع تعريفة مبيت تسدَّد شهريًّا أو سنويًّا، إلى أن أصلحها أو أبيعها أو أجد حلًّا قانو…
لم أستطع مواصلة الاستماع لعمّ زكريا البقّال، حملت أكياس مشترياتي وغادرت قبل أن أرمي عليه السلام حتى، خطفني الفيديو وشعرت بنبضات تتسابق، كنت أشعر بالنبض في كلّ عروقي وشراييني وأسمعه في أذني، وكنتَ أنت يا عبد الرحمن الشخص الوحيد الذي جاء على بالي عندما أيقنت في المسافة القصيرة الفاصلة بين محلّ البقالة ومدخل العمارة أنّني أقليّة مُحاصَرة ومُضطهدة في إمبراطورية آل أبو سيِّد، أقليّة ستُباد ما لم تحصل، في وقت سريع، على حليف قويّ، وإلّا فعليها أن ترضى بالهجرة والشتات مرّة أخرى.
صدرت «موتٌ منظّمٌ» أخيراً عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان