دار حوارٌ بيني وبين زميل عملٍ سابقٍ يحاول إقناعي باقتناء إحدى درّاجات الفيسبا لأنّها عملية في أوقات الأزمات المرورية. أخَذَنا هذا الحوار غير المسلّي أبداً إلى الحديث عن أنواع السيارات الإلكترونية الصغيرة الحجم وأسعارها. وكانت مشكلته معها أنّها ليست آمنة مقارنة بالأحدث والأكبر حجماً والأصلب هيكلاً، فسألته عن هذا التناقض بين إيجابيته اتجاه الدرّاجة وسلبيته اتجاه السيارات الكهربائية الصغيرة، وكان ردّه تفسيراً سيكولوجيّاً زعم فيه أنَّ العقلية التي يقود بها السائق درّاجة تجعله يشكّل حالة حذر لا تتشكّل داخل سيارة؛ حيث يشعر السائق بأمانٍ أكبر داخل هذا القالب الحديدي ممّا يعرّضه لخطرٍ أكبر في حالة الاصطدام داخل سيارات الكهرباء الصغيرة.
وهم الأمان هذا الذي يتكوّن داخل السيارات الخاصة يمتدُّ إلى أبعد من حاجزٍ يقي صدمات الحوادث، ففي مدينةٍ يمكن اعتبار المواصلات العامّة فيها سيّئاً لدرجة لا يمنع أبداً بنكران وجودها، شكّلت هذه القوالب وهم الأمان حتى حول خصوصيات أُخرى. يلفتني كثيراً بعض السيارات التي تعلو منها مكالمات خاصة بين سائق وطرف آخر على مكبّرات الصوت حيث من الممكن لكل السيارات المحيطة معرفة أدق تفاصيل المشاكل العائلية او المهنية التي يُعاني منها السائق دون أن يشعر حتى بأنَّ ممارسته مخروقة بسبب وهم أمان يحمي الخصوصية.
المكالمة نفسها ما كان لها أن تجري على الشارع ذاته بنفس الصوت على مكبّر الصوت لو كان المتكلّم خارج قالبه الذي أغلق بابه فيه على نفسه.
لا يقتصر الأمر على هذه الخصوصيات وحسب، فلا أحد يعتبر أنَّ صوت مذياع سيارته مسموعٌ على محيط له قطر واسع لمجرّد أن باب السيارة مغلق (حتى لو كان الشباك مفتوحاً) وغرابة هذه البديهية تمتدُّ إلى عدم استغراب المحيط، مشاةً وسائقين، من هذه الظاهرة.
أحبُّ أن أستغرب البديهيات وأستبده المستغربات… في الشتاء الماضي كنت أستمع إلى إحدى قنوات البودكاست لحديثٍ لم أرغب بقطعه وأنا خارج من مكان عملي إلى البيت، ولأنّني كنت سأقطع المسافة مشياً قررت إكمال الحلقة لكنَّ سمّاعاتي لم تكن معي فوضعتُ هاتفي في جيب معطفي على الصدر موجّهاً سماعته إلى الأعلى وأكملت استماع الحلقة بصوت مرتفع رغم صعوبة التقاط الحديث بأكمله بسبب ضجّة الشارع. لكن أحببتُ ذلك الشعور، أنا أملك أقدم وسيلة نقل عرفها الإنسان وفيها مذياعٌ خاص يمكن أن يعلو صوته كما يحصل في وسائل النقل الأُخرى.
انتهى الشتاء وأتى الصيف، لم يعد هناك جيبة على الصدر تتسع للهاتف، فانتقل الهاتف إلى جيب البنطال، وبغياب سمّاعات الأذن علا صوته أكثر، وبالطبع لصعوبة سماع حوارات البودكاست انتقلتُ إلى موسيقى الجاز الكلاسيكية التي تُبَثُّ على إحدى المحطّات الأوروبية على مدار الساعة. لم أقم بفعل هذا كثيراً لكن في تلك المرّات القليلة كان يلفتني التواء الأعناق نحوي. المشي والموسيقى ليس أمراً مستحسناً، الموسيقى الصارخة من سيارةٍ أمرٌ أكثر قبولاً، كأنَّ للسائق حصانةً ليست للسائر.
على الرغم من ذلك أعترف أنّني استدعيتُ التواء الأعناق في إحدى المرّات بشكلٍ يمنعني من الشكوى. كان هاتفي يعزف من جيب بنطالي الأيمن إحدى الأغنيات الكلاسيكية التي لم أقوَ على إيقافها أثناء مساعدة صديقٍ لي على نقل حاجياته من مسكنٍ لآخر. من ضمن حاجياته كان هناك غيتار إلكترونيّ في يدي اليمنى وآخر خشبي في اليسرى، شعري الطويل كان منفوشاً وعيناي تختبئان خلف نظّارة سوداء، أصبحتُ فرجة الحيّ يومها؛ كانت الأعين مثبّتةً عليَّ بلا حياءٍ ولم ينتبه أحدٌ إلى سيارة بيضاء صغيرة يقودها شابٌّ مفتول العضلات ويستمع إلى شيءٍ ما أقرب لأن يكون ضجيجاً، لم يلتفت إليه أحدٌ غيري، وما كنت لألتفت إليه سوى أنَّ موسيقاه غطّت على موسيقى جيب بنطالي الأيمن.
لا يسعني والحديث عن هذا إلّا أن أفكّر بأنَّ وهم الأمان داخل السيارات خلق مقابله وهم الارتياب داخل الجسد الطليق على نفس الشارع الذي يقوم به الاثنان بالفعل نفسه. وليست العبرة بفعل الاستماع للموسيقى بحد ذاته بقدر النظر إلى القوالب الجاهزة التي نخضع لها دون أن ندري. نحن نضيء في إعلامنا على الفروقات بين فئات مجتمعية وعلى الحصانات التي تملكها دون غيرها، نضيء على رجلٍ في مجتمع أبوي مقابل امرأة، نضيء على مواطن في دولة مستَقبِلة مقابل عاملٍ مهاجرٍ أو لاجئ، نضيء على مَن يدين بدين الغالبية مقابل الأقلية التي تدين بشيءٍ آخر. لكنّني أشعر بالخوف حين تمرُّ أمامي تلك اللحظات التي تشعرني بأنّنا لا نضيء سوى على رأس جبل الجليد.
لن ينتهي هذا النص بمطالبة منطقية حقوقية ففي النهاية نحن لسنا سوى ذلك الكائن غير العقلاني الذي يعتبر رائحة هواء البدن مثيرة للاشمئزاز ورائحة دخان السجائر مقبولة في الأماكن العامة والخاصة، ويقوم المدخنون بتناولها أمام الجميع.
ملاحظة: استمعتُ أثناء كتابتي لهذا النص إلى موسيقى الجاز من نفس المحطة الإذاعية التي ذكرتها سابقاً.