رولا مرار
“… فعرض التاريخ الفلسطيني – في المتاحف – يمكنه التدليل على موت هذا التاريخ وانتهائه وعلى مأسسته النضالية، فيصبح أشبه بالمقبرة، ولكن المقبرة تخفي ما تحتها تاركة المجال لإمكانيات العودة والاستمرار لمشروع تحرري لم ينته بتاتًا”.
لارا الخالدي
يمنح استبدال النظرة المجردة إلى الأرض بأخرى عيانية قراءة أقرب إلى الواقع والحقيقة المعوزة إلى السرد. وفي هذه الحالة، تكمن فاعلية الأرض كشاهد في عدم ابتذالها بالأسطرة أو الترميز، فتؤدّي ما عندها من أدلة مدرَكة بالحِس تحتاج التجسيد بكلمات محمّلة بدلالات واضحة لا استعارات تحجب المعنى والحقيقة، مما يتيح إعادة اكتشافها بعيون الحاضر دون الإطالة في الوقوف على الماضي وأطلاله، ويتيح كذلك تجاوز الرواية السائدة المعرقلة للسرديات المغايرة.
من ناحية أخرى، يشير التعويل على الأرض إلى قدرة على نحت وتشكيل إمكانات جديدة تجعلنا أكثر معرفة بتجاربنا، وتدفعنا إلى سرد الحقيقة والتخلي عن ضمانات الجهات الرسمية وسياساتها في بناء الحكاية، فيُستبدل المهزوم والتابع لعلاقات القوة السائدة، فلسطينية كانت أو صهيونية، لينتج سردية بديلة معارضة ملمّة بالتداخلات الثقافية ولا تخشى النقد الذاتي.
في فلسطين ومن هذا المنطلق، تفوق إمكانات الأرض في تشكيل سردية تاريخية إمكانات المتاحف، لا سيما في ظل انعدام وجود دولة قومية سيادية، وكذلك في ظل التحولات الجذرية والمتناقضة التي طرأت على الخطاب الفلسطيني بعد سلسلة من التنازلات السياسية تزامن معها سقوط للمؤسسة الثقافية الرسمية. استنادًا إلى تساؤلات مفاهيمية حول المتاحف، اتخذ مشروع “أراضٍ منقلبة” المنبثق عن بينالي الشارقة الثالث عشر (رام الله، 2017) من الأرض وجوفها ثيمة رئيسة، وعدَّ المقبرة ساحة ملائمة لتشكيل السردية المطلوبة.
تبرز أهمية المقبرة الفلسطينية في ورقة عبد الرحيم الشيخ “أنا أموت، إذًا أنا موجود: المقبرة الفلسطينية الحيّة” في كونها استعصت على سياسات النسيان فحافظت على اشتباكها مع الواقع، فشواهد القبور تزخر برموز وعلامات تعكس ملامح سياقاتها التاريخية لتعبّر عن نهج مَن في القبر. تتجسّد فاعليّة الفعلِ للمقبورِ على شاهد قبره؛ المقبور ميّت، لكن أثره ما يزال يحوم. وبهذا المعنى، تحقق المقابر “ديمقراطية الموت” بتجاوزها للهويات الطائفية والثقافية والاجتماعية، ما يعني أن عملية السرد عن طريق المقابر تشمل الجماعة الوطنية الفلسطينية التي ينتمي إليها المسلم واليهودي والمسيحي، كما أنها لا تقتصر على المحليّة، بل تشمل من في الخارج؛ أولئك الذين عاشوا تجربة الشتات التي شكّلت كنه الهوية الفلسطينية وكل من آمن بالقضية.
من ناحيتها، نظرت سهاد ظاهر – ناشف في ورقتها “مقابر الأرقام السرية: جثمان الفلسطيني/ة المسجون في أرشيف تاريخي مدفون” إلى المقابر كأرشيف تاريخي سري. بينما يُنظر إلى اعتقال جثامين الشهداء في مقابر الأرقام السرية كآلية صهيونية لردع وتعذيب أهالي الشهداء والشهيدات، ينظر إلى المقابر كأرشيف قصصي لحياة الشهداء أو موتهم أو حتى أسرهم بعد الموت، وذلك بالاعتماد على توصيف مواقع هذه المقابر، ووصف شكلها ولونها وبنيتها، ويتيح أيضًا معرفة مصير الجثث المفقودة منها. وبالتالي، بإمكان ذلك الأرشيف أن يحوي أيضًا قصص معاناة أهالي الشهداء ودفاعهم عن حقهم في دفن ذويهم ومواراة أبدانهم بالطريقة الملائمة لهم.
تكشف المقابر عن سياق خارج عن النص الرسمي كونها تخبّر عن أفراد وتعبّر عن ديناميتهم التاريخية، مستندة في ذلك على أدلة ماديّة تسمح ببعث قصص المقبورين خلافًا للمتاحف التي تعتمد عليها المؤسسة الرسمية لترسي وتشرعن روايتها، وتستغل فعل المتحفة لتخمين أو تخيّل ما عاشه الأسلاف، وبنسْب المعروضات والأشياء لفترات زمنية منتهية، تعلن أيضًا موتها.
يبرز تفوق إمكانية المقبرة على المتحف أيضًا في محاضرة أدائية لنور أبو عرفة بعنوان “المتحف الأخير: متحف المتاحف” عرّفت فيها المتحف على أنه “مكان مخصص لتلك الأشياء التي خرجت عن حيز الاستخدام اليومي وخصصت لحفظها في مكان/مبنى ليتسنى للناس رؤية محتوياتها”. بهذا المعنى، النكبة حدث مركزي في الذاكرة الفلسطينية يستحيل وضعه في متحف، ولا يمكن إعلان نهايته حاليًا كونه لم ينته بعد.
من بين العروض التي قدمت ضمن مشروع “أراض منقلبة” عرض تقديمي لبنجي بوياجان بعنوان “انسداد” يتناول بقايا انبوب مسدود لواحدة من القنوات التي استخدمت في توزيع المياه في مدينة القدس أنشأها الفيلق الروماني العاشر في القرن الثاني الميلادي. يعتقد بوياجان أن بإمكان ذلك الأنبوب سرد قصة أخرى عن القناة. هنا تجدر الإشارة إلى أن السياق الذي قدّمه بوياجان يختلف عن السياق الذي ظهرت فيه ملامح الهوية الوطنية الفلسطينية التي توازت مع انطلاق مشروع الاستيطان الصهيوني، حيث ولّد الشعور بالخطر الصهيوني وعي الفلسطينيين بهويتهم. هذا أولًا. ثانيًا، صحيح أن ما تحت الأرض موّلد للقصص ومليء بالإمكانيات السردية، إلا أن الفلسطيني في سعيه نحو بلورة سرديته لا يحتاج الحفر في طبقات التاريخ بحثًا عن حجج تدعم حقه في البقاء على أرضه. يتطلب بناء سردية صياغة “الصعود بالزمن”؛ صياغة بعين الحاضر مستوحاة من مختلف الشواهد المحيطة التي من شأنها إفساح المجال أمام حرية البحث والتفكير وممارسة النقد الذاتي.
يأتي التمسك الفلسطيني بمختلف الإمكانيات التي تساعده على تشكيل سرديته التاريخية ليس فقط كرغبة في بناء رساميل سردية بقدر كونها أداة تعبر عن أخلاقية القضية الفلسطينية ووفاء لمن بذلوا حياتهم وأرواحهم لأجلها وتأكيدًا على استمرارية وجود النضال الفلسطيني على هذه الأرض. تبرز جدارة الأرض والمقابر في استمرارية تماسها مع السياق المحيط وتواصلها مع الفواعل المؤثرة في القضية الفلسطينية عبر ما تقدمه من أدلة مادية؛ أدلة من شأنها أن تسهم في إعادة تشكيل الوعي الذاتي الفلسطيني كونها شاهدة على الحقيقة ومنعشة للذاكرة ومرتبطة بالفعل والقيم النضالية، بالإضافة إلى أنها محمّلة بالعبر. يبقى أمام المتاحف في فلسطين خيار يتمثل في تصميم إمكانيات ملائمة لسياقها والشروط التاريخية التي نشأت في ظلها، فبدلًا من انتظار انتهاء النضال وتصنيمه عبر عرضه في المتحف، من الأجدر أن ترتبط هذه المتاحف بالنضال.