ربّما علاقتي مع الأبواب غريبة يا رضا. فأنا أذكر أيضًا باب المطبخ المحزوز جيّدًا. كنت أقف وتقيس أمّي لي طولي عليه. كان عليّ أن أقف جيّدًا. أن ألصق نفسي بالحائط وأرفع رأسي قليلًا. أقف فتمسك أمّي السكين وتحزّ الباب فوق رأسي وأنا أخاف أن تخطئ بالسكّين فتجرحني. لم تعجبني طريقتها تلك، أنا كنت أقيس طولي نسبة إليها. كلّما اقتربت من كتفها كبرت. كان طموحي أن أصل إلى طولها. لكنّي لم ألحق. رحلَت قبل ذلك، وأنا نسيت كيف كبرتُ. لأنّه لم تعد هناك طريقة لأقيس بها طولي. وذلك الباب المحزوز، لا أحبّه. عندما تُوفّيت أمّي وبكيت لأول مرّة على فراقها، بكيت عليه. بكيت على باب المطبخ المحزوز!
نعم لا تعجبني الأبواب يا رضا. تذكّرني بالفراق. وأنت كنت تعلم ذلك جيّدًا، فكم من مرّة أزحتك عن الباب حتى نكمل حديثنا بعيدًا عنه؟ وكم مرّة رأيتني أفتح جميع أبواب غرف منزلنا حتى لو لم نكن سندخلها؟ لكنّك بكلّ ثقة يا رضا، فتحتَ باب منزلنا، خرجت، ثمّ أغلقتَه واختفيت.
ذلك الصباح، حين استيقظت من دون أمّي، لم يكن صباحًا لنهاية واحدة. ولا حتى لنهايتين. فأبي رحل أيضًا معها. كان عمري عشر سنين. ماذا تعرف فتاة عمرها عشر سنين عن الرحيل. أقول «رحيل» لأنّني ما زلت أؤمن بالحياة ما بعد الموت. هما لم يختفيا، فقط رحلا إلى مكانٍ آخر. فكيف سيختفي صوت أمّي وهي تغنّي لي؟ أو ملمس خدّها الناعم؟ رائحتها بقيت في ثيابها لوقت طويل. لا أقصد عطرها، بل أقصد رائحتها. صدّقني يا رضا عندما أقول إنّني لم أفارق غرفة أمّي وأبي حتى انتهت رائحتهما منها. غربة الرحيل صعبة. ولن أقول الموت لأنّني لم أكن أعرفه جيّدًا في ذلك العمر. كان همّي غربة رحيل أمّي. وأبي؟ لا أتكلّم عنه لأنّني لا أستطيع. يتغيّر صوتي وتنزل دموعي فورًا! أصلًا كان يضحك عليّ عندما أبكي، يقول لي لا تتكلّمي وأنت تبكين. فصوتي، عندها، يصبح ثخينًا وعاليًا. وأبدأ بمسح المخاط بكمّي لأنّه يسيل بسرعة من أنفي. وأبي يضحك ثمّ يحضنني. كيف تختفي ضحكته؟ كلماته؟ من سيلبس جاكيته السوداء الجلدية؟ هي لا تناسب إلّا أبي.
سأخبرك أمرًا يا رضا. أشعر بأنّه عندما يرحل الأب باكرًا، أوّل حبّ في حياة الفتاة يرحل. لأنّه أوّل رجل في حياتها. عندما يرحل الأب يا رضا لا يعود للفتاة حضن آمن. تصبح الفتاة أبًا لنفسها! حتى لو لم يكن أبًا جيّدًا. سأخبرك أمرًا آخر، أشعر بأنّ كلّ ما تحتاج إليه الفتاة في حياتها هو اهتمام رجل. تنضج الفتاة عندما يغرم بها أحدهم لأول مرّة. تزيد ثقتها بنفسها فجأة. والأب هو اهتمام الطفولة في حياة الفتاة. هو يزوّدها بالحبّ والثقة. لذلك عندما يرحل اهتمام الأب، اهتمامك يا رضا عليه أن يبقى. فأنت الرجل الذي بقيت بعد الأب!
في ذلك الصباح استيقظت على صوت صرخة جدّتي. لم أفهم! أو بالأحرى لم يخبرني أحد! في ذلك الصباح زارنا جميع الناس واستيقظت على بيتٍ مليء بالوجوه. سمعت كلمات كثيرة. مستشفى؟ حادث سيارة؟ ظنّوا أنّي لن أفهم. فلم يقولوا لي. أجوبتهم تلك أثارت غضبي.
«ماما وبابا حيتأخّروا شوي».
«أهلك بمكان أجمل».
«إذا بتطّلعي بالسما بيّك رح يكون عم يشوفك».
أغبياء. أبي لديه خوف من الطيران. أنا كنت متأكّدة من أنّه لم يرحل إلى السماء. إحداهنّ، عندما نظرت في عينيّ، صارت تبكي لأنّها تذكّرت عينَيْ أمّي. وظنّت أنّي لم أفهم. من كانت؟ لا أعرف. أذكر وجوهًا كثيرة واللون الأسود. أذكر ضجيجًا وقهوة.
ظنّوا أنّي لم أفهم لأنّني لم أبكِ. عندما تستيقظ ولا تجد عائلتَك يا رضا لن تحبّ الضوضاء والناس. عندما تستيقظ وتتغيّر حياتك وعاداتك فجأة لن تبكي. ستحاول أن تستوعب الذي حصل أوّلًا. وأنا تغيّر فراشي وبيتي وأبي وأمّي. صرت أبكي على أمور أخرى كالطعام لأنّه لا يعجبني، أو الثياب السوداء الجديدة التي لا أريد أن ألبسها. ظنّوا أنّي سخيفة. مات أبي وأمّي وأنا أبكي لأنّ أحدهم لم يشتر لي كيسًا من التشيبسي. لكن صدّقني يا رضا، عندما تستيقظ في صباح وتتغيّر عائلتك فجأة لن تبكي. ستبكي عندما يرحل الجميع، وتتوقّف الضوضاء وينتهي العزاء، وتكون وحدك في منزلك، ثمّ ترى باب المطبخ المحزوز!
13
صوت أذان المغرب يعلو وأنا ما زلت أنتظر رضا على عتبة الباب. لم يعد إلى المنزل بعد، وأنا قلقي يزيد وعيني تؤلمني إثر ضربة فاتن. يدها القويّة أيقظتني، وأشعرتني بالذنب. لقد شككت فيه بدلًا من أن أفكّر في أنّه ربّما أصيب بمكروهٍ.
لم يكن أمامي سوى الدرج وشبّاك بنايتنا. يمكنني أن أرى آخر بقايا أشعّة الشمس تختفي وراء إحدى البنايات من هذا الشبّاك الصغير في نهاية الدرج. في الضيعة لا يمكن للشمس أن تختفي بهذه الطريقة. في الضيعة الشمس لا يقاطعها شيء. ترافق الأذان بسلاسة وتناغم في غروبها. وأنا كنت أحبّ الأذان كثيرًا عندما كنت صغيرة. فبعد وفاة والديّ عشت مع جدّتي وجدّي. وعند الأذان كانت جدّتي ترتدي عباءة بيضاء كبيرة وتصلّي. وأنا كنت ألعب داخل هذه العباءة. كانت كبيرة جدًا فتحويني أنا وجدّتي بسهولة. كنت أتظاهر بأنّها خيمة كبيرة. جدّتي تصلّي وأنا ألعب «بيت بيوت» حتى تفرغ من الصلاة وتُؤنّبني.
لم يعجبها أنّني ألعب أكثر ممّا أهتمّ بالأعمال المنزلية.
– عيب يا ستّي عم تصيري صبيّة، ما بقى لازم تلعبي هيك.
صارت توكّلني بمهمّاتٍ صغيرة بعد عودتي من المدرسة. أن تجلي هي الصحون ثمّ أضعها أنا في مكانها المناسب. أن أنتقي الخضار من «سيّارة الخضار» التي تمرّ بجميع المنازل في ضيعتنا. أن أشطف الشرفة الكبيرة بعد سهرات أعمامي وعمّاتي. أسعدُ المهمّات بالنسبة إليّ كانت عندما ننزل أنا وأولاد عمّي لنقطف الثمار عن الأشجار، لأنّ صداقتنا أنا وأنت يا رضا في الطفولة بدأت هناك.