محمد الأسعد… كاتب الهامش المتعدّد 

أنس العيلة

شاعر فلسطيني

هذه الثقافة الموسوعيّة، وتعدّد الاهتمامات، والخوض في حقول مختلفة في الأدب والفن والفكر، وإضافة مساهمات ثقافيّة حقيقيّة في أكثر من مجال، جعلت من محمد الأسعد كاتبا فريدا، رغم أنّه يعترف بأنّ الحجر الأساس في تجربته وإبداعه هو الشعر، الذي لم ينقطع عن كتابته حتى بعد نشر عدّة روايات ناجحة منها: "أطفال الندى"، دار "رياض الريّس" 1999، وصدرت له الأعمال الروائيّة، عام 2009.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

10/10/2021

تصوير: اسماء الغول

أنس العيلة

شاعر فلسطيني

أنس العيلة

مقيم في باريس، ومحاضر في جامعة باريس الثامنة.

ظلّ محمد الأسعد هامشيّ الحضور، رغم أنّه كان يمتلك كلّ ما يؤهّل كاتب للشهرة، فقد صدرت كتبه عن دور نشر مهمّة كـ “رياض الريّس”، وتُرجمت أعماله وخاصة رواية “أطفال الندى” إلى الفرنسيّة ولغات أخرى عديدة، وأجاد الإنجليزيّة وترجم عنها بإتقان، وله مساهمات فكريّة رائدة مثل كتابه المهمّ “مستشرقون في علم الآثار، كيف قرأوا الألواح وكتبوا التاريخ” عن المستشرقين التوراتيين الذين غيّبوا تاريخ فلسطين الحقيقي، وكتب دراسات وأبحاث عميقة في الشعر كما في الفنّ التشكيلي، وقدّم “بحثا عن الحداثة” ومفهوم النقد الثقافي، وهو من روّاد الهايكو في الشعر العربي، إن لم يكن رائده الأوّل، تنظيراً وترجمةً ودراسةً وإبداعا، وكان فوق كلّ هذا كاتبا ناشطاً في الصحف الثقافيّة العربيّة من خلال ما قدّمه من مقالات مكتوبة بعناية وجهد بحثيّ عميق. كان محمد الأسعد كلّ هذا، لكنّه لم يحصل على نصيبه من الضوء، وقلّ أن تردّد اسمه في الأوساط الثقافيّة في فلسطين. ربما أنّ هذا يعود في جانب منه لابتعاده عن منظمة التحرير الفلسطينيّة التي كان معارضا لنهجها، فكان من عالم ناجيّ العليّ صديقه المقرّب والذي خصّص عنه كتابا شاملا جاء بعنوان “مديح البياض، في الخطاب الفلسطينيّ الممنوع” الصادر عن “دار الفارابي”، 2015. وربما يعود في جانبٍ آخر منه، لحرصه البقاء على مسافة تضمن استقلاله، استطاع أن يعيشها في مكان إقامته في الكويت التي رحل فيها قبل عدّة أيام. 

هذه الثقافة الموسوعيّة، وتعدّد الاهتمامات، والخوض في حقول مختلفة في الأدب والفن والفكر، وإضافة مساهمات ثقافيّة حقيقيّة في أكثر من مجال، جعلت من محمد الأسعد كاتبا فريدا، رغم أنّه يعترف بأنّ الحجر الأساس في تجربته وإبداعه هو الشعر، الذي لم ينقطع عن كتابته حتى بعد نشر عدّة روايات ناجحة منها: “أطفال الندى”، دار “رياض الريّس” 1999، وصدرت له الأعمال الروائيّة، عام 2009.

أصدر محمد الأسعد مجموعته الشعريّة الأولى “الغناء في أقبيّة معتمة” عام 1974، وقد لاقت ترحيبا واحتفاءً في الأوساط الثقافيّة. فقد تناول الناقد والشاعر علي جعفر العلّاق هذه المجموعة الشعريّة وأشار أنّ هذا العمل الشعريّ يُذكّر بالقصيدة الخمسينيّة، “إلا أنّ فيه أيضا ما يذكرك بالقصيدة الجديدة بما تحمله من تشابك وإفلات”. من جانبها أشادت سلمى الخضرا الجيوسي بهذه المجموعة قائلة: “تجنّب محمد الأسعد تجنّبا تاما شراك وإغراء الطراز الشعريّ الشائع، وظلّ مواليا لشكل من أشكال التعبير يتوافر على قدر من الانضباط الذاتيّ. إنّه شاعر يملك تكاملا فنيّا عظيما، وغريزة شعريّة لا تعرف التعثّر مكنته من الحفاظ على رؤيته الشفافة الخاصة به خلال مرحلة السبعينات الهائجة”. وظلّ هذا الهاجس في السبك اللغويّ المتين، والعناية باختيار المفردات يظهر في دواوينه الشعريّة اللاحقة، كمجموعته “حاولت رسمك في جسد البحر” “دار الطليعة”، 1976، ومجموعات شعريّة لاحقة، حتى صدرت أخيرا أعماله الشعريّة الكاملة عام 2009.

شاعر قصيدة الهايكو العربيّة

رغم هذا النقاش والجدل حول شعره، إلا أنّ ما لا خلاف حوله هو ريادته في قصيدة الهايكو، وقد ترجم الأسعد كتاب الباحث وشاعر الهايكو كينيث ياسودا في كتاب جاء تحت عنوان “واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق: دراسة في جماليات الهايكو مع شواهد مختارة” عام 1999. والأسعد لديه وعيّ عميق بطبيعة هذا الشعر الروحيّة والفلسفيّة، وقيمه الجماليّة. وهذا ما يميّزه عمن درسوا وقلّدوا هذا الشعر الذي عرفته الثقافة العربيّة منذ سنين الثمانينات وانتشر سريعا لدى الشعراء العرب، وأصبح له مُقلّدون، وقُرّاء، وباحثون، ظلّوا في معظمهم بعيدين عن جوهر وخصوصيّة هذا الشكل الشعريّ القديم في الثقافة اليبانيّة.  

وقد عبّر محمد الأسعد عن إعجابه وتأثره بشعراء الهايكو الكبار في الثقافة اليبانيّة، ولا يخفي هذا التأثر العميق بفلسفتهم، حيث أعلن في مقدمة لقصائد نشرها في “جهة الشعر”: “هذه قصائد كُتبت تحت ظلال شعراء قصائد الهايكو اليابانيّة الكبار، أمثال باشو وايسا وأونتسورا”. وفي مقال آخر لمحمد الأسعد بعنوان “تراث الهايكو في الثقافة العربيّة” المنشور في مجلة أفق الثقافيّة، 2008، يحدّد لنا الأسعد أشكال الهايكو المتعدّدة وهويتها الأدبيّة قائلا: “وللشعر اليابانيّ منذ أشكاله المبكرة (الكاتاوتا والسيدوكا والتشاوكا والتانكا) أساس إيقاعيّ هو على التوالي خمسة مقاطع فسبعة، وعلى هذا الأساس نهضت الأشكال الشعريّة اليابانيّة، سواء تلك التي تحدّدت أعداد سطورها (سطران للكاتاوتا وخمسة للتانكا وثلاثة للهايكو) أو تلك التي لا حدود لأعداد سطورها مثل الرنجا، أي القصيدة ذات الحلقات التي يشترك في نظمها عدد من الشعراء”. وفي المقال ذاته يقدّم الأسعد وصفا دقيقا لهذا الشكل الشعريّ وحمولته الثقافيّة وتوجّهاته الفلسفيّة: “الشعر اليابانيّ، بل والفنّ اليابانيّ جملةً، لا يقوم على اختراع المعاني وتوليدها بين متقدّم ومتأخّر، بل على أساس تجارب جماليّة أداتها التصوير، أي التشكيل، وتتنوّع هذه التجارب بالضرورة بسبب تنوّع المشاهد والأحاسيس والثقافة. ولئن حدث تداول لصورة واحدة أحياناً بين عدّة شعراء أو عصور فإن هذا التداول يجري مجرى الحوار لا مجرى الاتباع. صحيح إننا نخرج بأفكار وعواطف من هذا الشعر، وعلى نحو أقوى وأعمق مما نجد في الثقافات الشعريّة الأخرى، إلا أنّ هذه الأفكار والعواطف لا تُقال مباشرة بل عبر سلسلةٍ من المشاهد والمواقف المتعلق بعضها ببعض، ولا يصل إليها القارئ إلا عبر حدس شخصيّ”. وقصائد الهايكو تصف في الأساس لحظة شعريّة، مشهدا من الطبيعة، وتبتعد عن التشخيص وأنسنة الأشياء، “فالإنسان ليس مركزا بل خيطا في شبكة كليّة”، وهو ليس بؤرة الوجود التي تدور حولها الأشياء. ويخلصُ في هذا المقال إلى خلاصة فكريّة مهمّة حين يتحدّث عن “الإطار الذهنيّ العام الذي أوهم الناس في بلادنا العربيّة أنّ “صدمة الحداثة” الغربيّة قادت إلى النتائج نفسها في كل مكان وصلت إليه، وهو ما لم يحدث في الحالة اليابانيّة وفي الفن تحديداً”. 

في مقال آخر لمحمد الأسعد في “القدس العربي” يحاول تفسير ظاهرة عدم الانتشار الكبير لقصائد الهايكو لدى القرّاء العرب قائلا: “لم يجد رواجاً على نطاق واسع يكافئه في الأوساط الثقافيّة والشعبيّة العربيّة، والسبب الجوهري، كما يرى الشاعر حسني التهامي ــ وهو محقّ في هذا ــ يعود إلى أنّ ذائقة المتلقّي العربي مُشبعة بالشعر بوصفه تغنّياً بالذات ومن الذات، وليس موقفاً محايداً أمام مشهد تتنحّى فيه الذات عن مشهد العالم فيها ومن حولها كما يرى شاعر الهايكو ذو المنزع الصوفيّ التأمّلي في المقام الأول”. مضيفا لذلك قوله الذي لا يخلو من التماعة فكريّة تليق بشاعر مُفكّر، جاء ذلك في سياق تفسيره لمحدوديّة انتشار الهايكو لدى القرّاء العرب: “والثنائيّة التي تطبع بطوابعها الثقافة العربيّة الشائعة أقصت الوحدة بين النقائض ذات المنشأ الصوفي، وأحلّت محلّها الأنا في مواجهة العالم، والأرضيّ في مواجهة السماوي، والذكر في مواجهة الأنثى… وهكذا”. 

لكنّ شعر الهايكو ليس في انفصامٍ مع ذات الإنسان، أو في قطيعة معها، بل هو يعكس ذواتنا من خلال لغة إيحائيّة، بعيدة عن المباشرة، والخطابيّة، والتحلّق حول الذات، أو فصلها عن المحيط، وهذا ما إلتفتَ إليه أحد أهم من ترجموا شعر الهايكو إلى الإنجليزيّة كما يخبرنا محمد الأسعد، وهو هندرسون: “الهايكو في المقام الأول قصيدة، وكونها كذلك، فإن مقصدها التعبير عن عاطفة واستثارتها.. والقول إنّها مهتمة بالطبيعة أكثر مما هي مهتمة بالقضايا الإنسانيّة قول سخيف. هي معنية بالعواطف الإنسانيّة أكثر مما هي معنية بالأفعال، والظواهر الطبيعيّة إنما تستخدم لتعكس العواطف الإنسانيّة.”

هنا مجموعة مقاطع مختارة من شعر الهايكو التي كتبها محمد الأسعد، تأتي في حوار وتداخل مع قصيدة الهايكو اليبانيّة، كالمقطع الأوّل “مندلينة” الذي يصنع من الطبيعة، في لحظة شاعريّة، مشهداً بصريّا ومادة للتأمل. بينما نجد في مقاطع أخرى مثل “ظنون” و”وروما” انسياق الشاعر إلى نزوعٌ فردانيٌّ مُلحٌّ. وحقيقةً، فإنّه في نهاية الأمر، استحضار أيّ شكل شعريّ من ثقافة أخرى والحوار معه، ومحاولة الكتابة على نهجه في مرحلة معينة، وتجاوزه في مرحلة أخرى أو تعريبه، ومزجه بالتقاليد العربيّة، أو الحفاظ على شكله الفنيّ الأصيل، أو مزجه بقصائد “الومضة” أو “التوقيعة” التي عرفها الشعر العربي، هذا كلّه ظاهرة أدبيّة صحيّة، وليس في الأمر بدعة أو دونيّة أمام ثقافة أخرى. على أن يحدث ذلك بشرط عدم التقليد الأجوف، ومحاولة فهم العمق الفلسفيّ لهذا الشكل الشعريّ. فحوار وتلاقح الأشكال والتوجهات والمدارس الفنيّة والأدبيّة الشعريّة بين ثقافات العالم ليس بخسا لموروث الشعر العربيّ أو عبثا بتقاليده الأدبيّة. كتابة الهايكو هي رياضة أدبيّة لتعويد عين الشاعر على تأمل ما يحيطه، واقتناص الأبديّ في مشهد عابر، واستنطاقه، بحيث تتّسع حدقة عينيه لهذا الكوكب! وهذا بلا شكّ مكسب وإضافة جماليّة ومعرفيّة بالنسبة لشاعر يأتي من ثقافة شعريّة تجعل من الأنا مركزا للوجود. فليس من الصدفة أن أتقن شاعر كمحمد الأسعد هذا الشكل الشعريّ، فهو ناقد تشكيليّ، ولديه حساسيّة عالية وفهم لماهيّة وطبيعة التشكيل البصريّ، الذي يبدو نقطة ضعف شائعة لدى شعراء العربيّة. كما قال حسين البرغوثي في حوار معه : الكثير من قصائدنا العربيّة تبدو رماديّة، هناك ضعف في التشكيل البصريّ، كأنها عين اكتفت بالتحديق في الصحراء”. 

 

مندلينة

شجرة المندلينة

تطفح فوق أوراقها الخضراء

أزهارها الثلجيّة

 

فينيسيا

من النوافذ المُضاءة

في آخر العتمة

تأتي ضجّة أقداح النبيذ

 

ظنون

ما ظننته وقع أقدامها

على الطريق

كان خفقان قلبي
 

خطوات

هذه الخطوات

غمغمة

على أوتار قيثار بعيد

 

مطر

ما الذي

يبكيك

أيها المطر ؟

 

طفلة

هذه الطفلة

تهرع صاعدة

سلالم قلبي

 

ثلج

ناعم الثلج

يحنى بلطف

هذه النرجسة
 

روما

نبيذ .. صخب ..

في تلك الظهيرة

لم نقل حتى .. وداعاً !
 

بيضاء

عصافير بيضاء

تحاول إيقاظ العتمة

بين أغصان الصفصاف
 

ربما

ظلٌّ

ونورٌ بين أشجار التفاح

ربما تلتمع الأبدية!

الكاتب: أنس العيلة

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع