يُقال إنّ المصائب المتتالية، والمستمرّة في إثارة مزيدٍ من الانهيارات اليومية، التي يعانيها لبنان وشعبه، منذ وقتٍ، كافيةٌ لإنجاز أفلامٍ لن تكون مشاهدتها في أعوامٍ مديدة مقبلة سهلةٌ، لوفرتها، ولكثرة المواضيع والحالات والحكايات والتفاصيل، التي يُستفاد منها في معاينة وقائع عيشٍ مرير في بلد الخراب الطويل.
“انتفاضة 17 أكتوبر” (2019) اللبنانية لحظة تأسيسية لمسار مختلف في البلد، وفي حياة اللبنانيين واللبنانيات. الانتفاضة ردّ عفوي على سلسلة أزمات تتعلق بالعيش اليومي، أرادها شبابٌ وشابات صرخة ألم وغضب ومواجهة، بأدوات سلمية متواضعة. الحاصل بعد الانتفاضة عنيفٌ وقاسٍ، يعكس وحشية نظام يحكم البلد ويتحكّم بناسه، وبعض ناسه يحاولون تمرّداً مدنياً عليه وعلى سلوكه في الحكم والتحكّم. وباء كورونا (الإعلان عن أول إصابة في لبنان بهذا الوباء حاصلٌ في 21 فبراير/ شباط 2020) مُصيبة إضافية، يزداد خطرها بسبب سوء إدارة النظام لكيفية مواجهته. انفجار/ تفجير مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020) ضربة أقسى وأعنف من أزمات وأوبئة، ومن مسارات متلاحقة من حروبٍ صغيرة في البلد، منذ اندلاع حربه الأهلية (13 أبريل/ نيسان 1975)، على الأقل.
تقنيات تنقل أحداثاً
هذه مصائب ثلاث يعاني تداعياتها لبنانيون ولبنانيات كثيرون. يعيشون خراباً تٌسبِّبه، واختناقاً تمارسه، وخيبات وآلاماً تُثيرها فيهم. مصائب تُمعن في ضرب البنى الحياتية كلّها، وتضع الجميع في حيّز مدمِّر. ورغم قسوتها وأذيّتها في النفس والروح والجسد والعلاقات، تُثير هذه المصائب حماسةً سينمائية لشدّة ما فيها من حكايات، يرى السينمائيّ فيها ما يحثّه على تحقيق فيلمٍ، من دون تحديد شكله، فالأدوات كلّها تصلح لفيلمٍ يقول شيئاً من ذات المخرج/ المخرجة وانفعالاته، كما من رؤيته/ ها ما يحصل حوله/ ها ومعه/ ها، انطلاقاً من هذه المصائب، أو من أي سببٍ آخر.
التطوّرات التقنية المتعلّقة بالتصوير، متنوّع الأشكال، مفيدة. منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، تُخزِّن الذاكرة السينمائية (وغيرها أيضاً، في الإعلام والصحافة والتصوير الفوتوغرافي الفني) كمّاً هائلاً من الصُور، ومنها تلك المحفوظة عند كثيرين، بعضهم يستعين بها في إنجازه أفلاماً مختلفة له، لاحقاً. هذا حاصلٌ منذ أول دقيقة لـ”انتفاضة 17 أكتوبر”، مع إمكانيات أكثر تطوّراً وأسهل استخداماً، فالهواتف الذكية توثِّق سريعاً ما يحصل لحظة حصوله، ويُبثّ سريعاً أيضاً في وسائل التواصل الاجتماعي، المتحوّلة ـ في أوقات كهذه ـ إلى أفضل شاشة تنقل وقائع الحدث لحظة وقوعه.
تأثيرات المصائب الثلاث كثيرة. انفجار/ تفجير مرفأ بيروت يُحدث أضراراً مادية، إلى جانب أذيّته للروح والجسد. الأزمة الاقتصادية تصنع انهياراتٍ في أنماط العيش اليومي، وهذا ضررٌ يؤدّي إلى انتحار عددٍ من اللبنانيين، لعجز قاتل عن تلبية حاجات أساسية من هذا العيش. يؤدّي أيضاً إلى ازدياد حالات العنف المنزلي، وتحطيم أبرز أسس العلاقات العائلية والاجتماعية، وإلى شعور دائم بالإهانة والإذلال، الكافيين برفع مستوى العنف اليومي، ونقله من المنزل إلى الشارع (محطات بنزين، محلات تجارية، أفران، إلخ.)، في بلدٍ تاريخه حافل بأنواع العنف، لوفرة السلاح في أقبية منازل كثيرة، ولتفلّت أمني يستفيد منه أركان النظام الحاكم والمتحكّم، أو يعجز أحياناً عن إيقافه لأسباب طائفية ومذهبية. انفجار/ تفجير مرفأ بيروت تغيير جذري في نفوس وعقول، فلبنانيون ولبنانيات يعيشون أهوالاً نفسية بسببه، وآخرون يهاجرون، ومن يبقى في البلد، لكنْ خارج طائفته ومذهبه وقبيلته، يُحاصَر من الجهات كلّها إلى حدود الاختناق والموت البطيء.
مصائب كهذه تمتلك قدراً كبيراً من المعطيات، مختلفة الأشكال والمضامين، التي يُستفاد منها في توثيق اللحظة وقراءتها، وفي مساءلة محتوياته وتأثيراتها. السينما غير معنية بتحليل نفسي وسوسيولوجي وفكري وثقافي، فالهمّ الأبرز لديها كامنٌ في توثيق الحدث، والحدث كثير وكبير وعميق وخطر وحسّاس، وفي معاينة فردية، للسينمائي والسينمائية، تتناول ما يشعر به الفرد إزاء الحاصل حوله ومعه. التجارب السينمائية، التي يغلب عليها النوعان القصير والوثائقي، قليلةٌ نسبةً إلى هول ما يجري منذ “انتفاضة 17 أكتوبر” على الأقل. لكن القلّة لن تحول دون تبيان حيوية المُنتَج في معاينتها الفردية تلك المصائب الثلاث، والمنبثق منها في أحوال يومية. تجارب يريدها صانعوها مداخل إلى مناجاة الذات، أو التطلّع إلى المحيط بالذات، أو مراقبة مسارات ومتغيّرات (ومعظم المتغيّر سلبيّ، ويزداد حدّة يوماً تلو آخر)، للفرد شيءٌ منها.
تاريخ بيروت وحاضرها
بعض تلك التجارب مهمومٌ بتاريخ المدينة وتحوّلاتها، في العمارة والاجتماع والعلاقات البشرية، انطلاقاً من انفجار/ تفجير مرفأ بيروت، الذي سيكون منطلقاً لاستعادة كهذه، في “إعادة تدمير” (2021، 42 دقيقة) لسيمون الهبر. الانفجار/ التفجير دافعٌ إلى موازنة نقدية بصرية بين إعادة إعمار بيروت بعد بداية السلم الأهلي الهشّ والناقص، وتدمير أحياء كثيرة في محيط المرفأ (الصيفي، الجميزة، مار مخايل، الكرنتينا، تحديداً)، بحثاً في ذاكرة قديمة، وخطط مستقبلية لإعمارٍ يُشبه التدمير. فيلمٌ مهمّ، بصرياً ومضموناً. شهادة عن معنى مدينة وحيويتها ومساراتها وموتها وانقلاباتها. سيمون الهبر يتّخذ من انفجار/ تفجير المرفأ حجّة سينمائية للتوغّل عميقاً في مفاصل حياتية للمدينة وناسها وحجارتها وأحيائها وفضائها، ولتاريخها، ولتدميرها أيضاً. يكتفي الفيلم بمصيبة واحدة من تلك المصائب الثلاث، لكنّه يبدو، في لحظات عدّة، كأنّه يُلخِّص المصائب في سرد حكاية مدينة وناسها.
للانتفاضة، كما للوباء، حضورٌ في أفلامٍ، معظمها قصير، يُنجز في إطار مشاريع مموّلة من جهات سينمائية وإعلامية وقانونية. التداخل بين المُصيبتين مقصودٌ، والبعض غير متجاوزٍ الأزمة الاقتصادية أيضاً في عملٍ يُصنع كاختبار تجريبي في علاقة الصورة بالذات والتفاصيل.
“العيش في ظلّ الوباء” (إنتاج “درج” ـ بيروت، و”دعم وسائل الإعلام الدولية (IMS)” ـ كوبنهاغن) مشروعٌ يُنتج 5 أفلام قصيرة (مدّة كلّ فيلم 5 دقائق فقط، باستثناء واحد منها، مدّته 3 دقائق و33 ثانية)، ويُراد منه “تسليط الضوء على ما تختبره البشرية بسبب فيروس كورونا”. هدفه “المشاركة بالسرد والتوثيق في هذه المرحلة، وبالتالي تقديم وجهة نظر إضافية مختلفة عن تلك التي يُقدّمها الإعلام الإخباري”. المشروع، المندرج في خانة “كاميرا واحدة/ أسبوع واحد/ 5 مخرجين”، يُعتَبر، بحسب تقديمٍ رسميّ له، “فرصة لمحاولة استيعاب كيف يتعامل الأفراد مع واقعهم في فترة الحجر”.
تقول الأفلام ـ “إحساس غريب” لزينة صفير، و”كوفيديو (COVID-eo Diary)” لكارول منصور، و”ليال ونهارات في زمن الوباء” للميا جريج، و”النافذة الخلفية” لغسان سلهب، و”ما بعد الأورجي” لمحمود جريج ـ تفاصيل خاصة بكل مخرج ومخرجة، عبر كلامٍ بين شخصين (صفير مع صديقها إميل سليلاتي، عبر الهاتف) وتعليقٍ للراوي (منصور)، أو بالاستناد إلى صُور مُلتقطة هنا وهناك، مع استعادة لحظات من “انتفاضة 17 أكتوبر” (لميا جريج)، أو بالاستعانة بجمل لسامويل بيكيت تكفي لتعبيرٍ يسعى قائله، عبره، إلى جعل صُور المدينة والبحر والأمطار والفراغ، الملتقطة من نافذة إحدى غرف المنزل، مرايا تتلاعب بالعلاقة الملتبسة، بين الذات وخارجها (سلهب). هناك أيضاً تأثيرات الحجر على الجسد، من خلال الأكل الشره، الذي ربما يكون خلاصاً من وحشة اللحظة ووحشيتها (محمود جريج).
اختيار غسان سلهب “النافذة الخلفية” عنواناً لاختباره التجريبي هذا غير بريء، سينمائياً ودرامياً وجمالياً. إذْ يُمكن إحالته إلى رغبةٍ في تذكيرٍ غير مباشر بـ”النافذة الخلفية” (1954) لألفرد هيتشكوك: التلصّص. هذه رغبة في اكتشاف المخبّأ في الخارج، أو المبطّن في أفراد وعقول ونفوس، أو المختفي في فضاءٍ ومناخٍ. سلهب يتّخذ من النافذة أداة خروجٍ إلى عالمٍ مُصاب بنكبة وباء، وبنكبات ترويها الكاميرا بصمتٍ، أو بنبرة بيكيت. والنافذة البيروتية ضيّقة المساحة، رغم إطلالتها على البحر، تماماً كنافذة جف جفريس (جيمس ستيوارت)، فالساحة الفاصلة بين الشقق التي يُطلّ عليها من غرفته ضيّقة أيضاً، لكنّ ما تحتفظ به من أشخاصٍ وحكايات وتفاصيل كافٍ لكشف نفوسٍ وعلاقاتٍ وانفعالات. كاميرا سلهب تختبر الفضاء الخارجي عبر نافذة، تُتيح له “تلصّصاً” مفتوحاً على احتمالات شتّى، في مدينةٍ محبِطة وقاسية وكئيبة.
كارول منصور تخترق المنع لجولة في سيارتها، تذهب بها ومعها إلى شوارع المدينة، كمن يغوص في أعماق ذاته وروحه بحثاً عن معنى، أو تعبيراً عن انفعال إزاء حدثٍ آني، وغدٍ مجهول. صفير، الغائبة عن الشاشة كصديقها سليلاتي، تجعل كلامها معه نوعاً من اغتسالٍ روحي إزاء فجيعة الفقدان، فالمخرجة تُصوّر المنزل العائلي في غياب الوالدين، وهذا حزين لكنّه دافعٌ إلى مصالحةٍ أو تنبّهٍ أو مزيدٍ من تفتيش عن حِدادٍ يُنقذها. كأنّ المدينة فارغة بدورها، بسبب وباءٍ أو خرابٍ.
“إعلان حرب”
مشروع آخر يُموِّل تحقيق 5 وثائقيات قصيرة أيضاً: “بيروت… آب 2021” (منصّة “أفلامنا”، مع “بيروت دي سي” و”برنامج الشراكة الدنماركية العربية وIMS، بالشراكة مع “المفكرة القانونية”). مدّة كلّ فيلم 6 دقائق. “كيف نُصوِّر الكارثة؟”، يُطرح السؤال المرتبط مباشرة بكارثة المرفأ البيروتي، لكنّه يتجاوز الكارثة إلى الخراب في الروح والعقل والجسد، وهذا أساسيّ أيضاً. النواة الدرامية للأفلام الـ5 متمثّلة بكارثة الانفجار/ التفجير، والتداخلات الأخرى، كالانتفاضة والأزمات والوباء، غير حاضرةٍ، وإنْ تحضر، فحضورها طفيف أو موارب. لأحد العناوين جرأة اختلافٍ في تحديد نصّه البصري، لانجذابه إلى الأبعد من مجرّد عنوان: “زهور زرقاء عديمة الرائحة تستيقظ قبل أوانها” لبانوس إبراهاميان. هناك وصفان لحالتين، ينبش المخرجان تفاصيلهما في وقائع عيشٍ وانفعالات: “إعلان حرب” لإيلي داغر، و”اضطراب” لساره قصقص. هناك أيضاً “ورشة” لجان ـ كلود بولس، و”مينارفا” للوسيان بورجيلي.
في مقابل التزام بورجيلي المعنى التقليدي للوثائقي، بمرافقته جوزيف في سرده حكاية والدته مينارفا شرتوني، المقتولة بسبب انفجار/ تفجير المرفأ، ومحاولته إدراج اسمها في لائحة الضحايا (“يُقال إنّ أكثر من 200 ضحية قُتلوا جرّاء الانفجار، ولكنْ ليس هناك حتى اللحظة لائحة رسمية نهائية للضحايا”، كما في نهاية “مينارفا”)؛ يغوص الآخرون في نفوس أفرادٍ مُصابين بصدمة اللحظة، وتداعياتها المختلفة على حياة ويوميات وتفكيرٍ. “نهاية العالم”، تعبير يرد على لسان الراوية في فيلم إبراهاميان، بينما يقول راوي “ورشة”، بنبرة حزينة وغاضبة (والغضب صامتٌ): “كم أنّها بشعة نهاية العالم”. يختار إيلي داغر “إعلان حرب” عنواناً مفتوحاً على هاوية الخراب والموت والعنف، بينما تسود ارتباكات واضطرابات نفسية وجسدية وعقلية في عمل قصقص، الذي يمزج ـ في سرده الحالة والحكاية معاً ـ بين تجريب بصري وواقعيةٍ تتلطّى في التجريب لكشف ذاتها.
اللغة السينمائية غير معنية بتركيب متتاليات بصرية لقول أو تعبير أو بوح أو تأمّل. هذا حاصل في “العيش في ظلّ الوباء” أيضاً. باستثناء “مينارفا”، المشغول بتقنية مبسّطة تكشف أحد أهوال الكارثة، و”ورشة” الذي يُعيد مخرجه إلى الحيّ المتصدّع من شدّة الانفجار، تختبر الأفلام حيوية الصورة المتفلّتة من بساطتها وراهنيّتها وتوثيقها، لبلوغ مرتبة أعمق في تحويل مضمونها إلى مرايا تُعرّي أناساً ومدينة، وتلتقط خراباً مدوٍّ في المدينة وناسها.
لـ”انتفاضة 17 أكتوبر” حصّتها في أفلامٍ عدّة، وإنْ يبقى عددها قليلاً إلى الآن، فالمصائب الأخرى أكثر حدّة في عيش يومي. رغم هذا، تحضر الانتفاضة ومُسبّباتها (الأزمة الاقتصادية) في أفلامٍ معنية بتأمّل أحوال المدينة المُقيمة في وباء كورونا تحديداً.
فيلمان اثنان (إنتاج عام 2020) يوثّقان بعض تفاصيلها: “الـ23″ لراني بيطار و”أرزة تشرين” لسليم صعب. الأول يستمع إلى مشاركين ومشاركات في حراكٍ مدني عفوي سلمي في منطقة النبطية (74 كلم. جنوب بيروت)، ضد الثنائي الشيعي، “حزب الله” و”حركة أمل”، الذي يُسيطر عليها. الثاني يُتيح لآخرين وأخريات مساحة بصرية لقول انفعال وتفكير ونطرة، تنبثق كلّها من الانتفاضة، ومن السابق عليها أيضاً. الكلام طاغٍ. أي أنّ التعبير عن مشاعر وقناعات ونظرة، متعلّقة كلّها بالانتفاضة، تغلب الصُور، التي (الصُور) تعكس وقائع من المشهد اللبناني.
خاتمة
المصائب الثلاث تحلّ على صالات السينما، وانفجار/ تفجير مرفأ بيروت يُدمِّر مكاتب شركات إنتاج وما بعد الإنتاج في المناطق المحيطة. الخسائر المادية باهظة (لا أرقام ثابتة ومُعلنة)، لكنّ الخسائر المعنوية أسوأ، وهذه منعكسةٌ في بيانٍ صادر عن سينمائيين وسينمائيات، بعنوان “لبنان اليوم على شفير الهاوية” (موقع وجريدة “العربي الجديد”، 16 سبتمبر/ أيلول 2020)، يقول إنّ عاملين وعاملات في القطاع السينمائي، المُصابين جميعهم بجروح خطرة ومختلفة، يريدون هجرة، وهذا يؤذي القطاع والمهنة، فالراغبون في الهجرة والساعون إليها شبابٌ، هم نبض السينما ومستقبلها.
المصائب الثلاث تُعتبر أسوأ المصائب وأعنفها، التي يشهدها لبنان للمرة الأولى منذ تكوين “دولة لبنان الكبير” (الأول من سبتمبر/ أيلول 1920). النماذج السينمائية عنها قليلةٌ، وبعضها (المُتنَاوَل في هذه المقالة) أمثلةٌ عن آلية الاشتغال البصري إزاءها.