“أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ”
بهذه الأبيات للمتنبي يفتتح المخرج الجولاني أمير فخر الدين شريطه الروائي الطويل الأول “الغريب” في مقدّمة تشي بشاعرية ستأخذ بالانسياب والتآلف على امتداد الفيلم بأنساق وعناصر بصريّة تتوالى لتشكّل وحدة فيلمية ينصهر بها المكان والشخوص وحوارها والتوظيفات الصوتية من حولها بحرفيّة تخلق رمزيّة دون كليشيهات، تأويلاتٍ دون مباشرة، وخصوصية تعبيرية دون انغلاق على نفسها. “الغريب” أقرب إلى تداخل حسّي بإيحاء من فنون أقدم كالشعر والرسم لم تكن لتكتمل لولا الفعل السينمائي، هو فيلم يؤكّد ضرورة السينما كفن لا يستبدله الشعر أو الرسم أو الأدب، تخرج من قاعة العرض دون أن تراودك شكوك حول الحاجة الملحّة إلى السينما كفن قادر على دمج بعض الفنون مجتمعة والخروج بما هو أشمل. يؤكّد لقاء المخرج الثلاثيني الحسّاس الأفكار السابق ذكرها، لما يحمله من فهم مركّب لمقاصد العمل السينمائي وبنائه، يغمرك لطفه وعضويّة تفكيره في الفن دون ادّعاء. كان متحمّسًا لسماع الآراء من كلّ الحضور بعد العرض العربي الأول لفيلمه الذي افتتحت به فعاليات مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” في دورته الثامنة بعد أن نال من فترة وجيزة على ترشيح الفيلم ممثلّا فلسطين في التقديم لجوائز الأوسكار، ترشيحًا يعتبره شرفيًّا وهو ابن الجولان السوري المحتل الذي زجّ به الواقع سياسيا وسينمائيا مع الفلسطينيين تحت نفس المحتلّ. مثّل الفيلم سوريا وفلسطين في مشاركته في الدورة الأخيرة من أيام البندقية السينمائية في مسابقة “أيام المخرجين” وبالرغم من كل الإشادة يقول فخر الدين إنّه متشوّق في الأساس لرؤية ردود أفعال ونبض جمهور عربي حيال الفيلم.
عدنان “الغريب” (أشرف برهوم في دور استثنائي) في هذا الشريط عاطل عن العمل، يشرب الكحول طوال الوقت، ولم ينهِ دراسة الطب في موسكو. السمة الرئيسية لحياته الجفاء والاغتراب عن زوجته ليلى وابنتهما، وعن والده الذي يحرمه من ميراثه ويحمل تجاهه الكثير من القسوة. محاولة إنقاذه لشاب سوري متسلّل يحاول أن يوثّق بكاميرا بسيطة الحرب الطاحنة في الوطن الأم التي نراها صوتًا عنيفا آتيا من خلف التلال الحالمة، تصحبنا إلى رحلة وجودية لها مكان وزمان محدّدان، لكن تتخطّى ارتداداتها ما هو أبعد من ذلك.
كان “لرمّان” هذا الحوار مع المخرج أمير فخر الدين على هامش مهرجان “أيّام فلسطين السينمائية” في دورته الثامنة.
ما هي الأسئلة والمشاعر التي حرّكت بداخلك صنع هذا الفيلم وما هو نوع التوجه للحالة التي يعيشها عدنان الشخصية الرئيسية؟
أستطيع القول إنّ الفيلم مجموعة مشاعر لناس أعرفها ليست فقط لي… هو أشبه بكولاج شعوري، كان لدي أسئلة عديدة، وابتدأ أوّل سؤال من ذلك الشعور بأنك مختلف ويٌنظر إليك كغريب. دومًا ما أثارت اهتمامي الأغنام السوداء على مستوى الأدب الذي قرأته والأفلام التي شاهدتها…الشخصية التي تخوض صراعًا داخليًّا وغير قابلة للاكتمال مع محيطها، لكن صراعها الداخلي أعمق بكثير من هذا الصراع الخارجي، شعور الغربة الداخلي هو ما حفّزني. من أوائل الإلهامات الأدبيّة كان “التحوّل” لفرانتس كافكا، قرأتها ما يقرب من العشرين مرّة وأشعرتني بشيء ما أعرفه، وبغضّ النظر عن غياب أسباب لاستيقاظ شخص متحوّل إلى صرصور في الرواية، أثار فضولي المعالجة وكونه يعاني مع عائلته ويفقد صلته بهم لاختلافه عنهم وشعرت كم هو قريب. هذا النوع من الأدب يعالج النتيجة وليس السبب وهذا هو نوع التوجه الذي تبنيته في معالجة الفيلم وكتابة النص، يشرب عدنان الكحول، ولا أحد يدري لماذا، وما من أحد يعلم إن درس الطب في موسكو فعلا أم لا، هنالك شخصية أو ظرف أو عاطفة معطاة، طريقة المعالجة هذه توسع آفاق الشخصية والمشاعر المرتبطة بها.
في شريطك القصير “بين موتين” (2017) تمهيد وتعارف على أدواتك كمخرج وارتكاز للمكان كجزء أساسي من السردية البصرية، وبان ذلك بوضوح في “الغريب”. عندما تعمل على هذا النوع من السرد البصري هل تضع ذلك مسبقا في الكتابة؟ ما هي علاقة المكان بالسينما التي تصنعها؟
المكان والزمان معا…أحاول أن أجسد المكان من خلال استخدامه وليس نسخه كما هو، أُكسبه أبعادًا تشخيصيّة ليحاكي العالم الذي تحاول خلقه حول شخصية بشرية ما، هذه الشخصية موجودة في مكان معين، إذا نسخت المكان دون عمق يبقى سطحيًّا ويفصل الشخصية عن مكانها، وأعتقد أنه لا يوجد مكان للفصل بين الشخصية والمكان في السينما، على المكان أن يلعب دورًا. استغرقت الكتابة أكثر من ثلاث سنوات، أول عمل يتطلّب مدّة كهذه، تحتاج إلى بناء الخبرة ولا تريد أن تتنازل لنفسك وفي نفس الوقت أنت محاط بشكوك تراودك.
في العقود الأخيرة سيطر البطل المضادّ شخصيّةً رئيسيّةً على السرديات المقدّمة مثلا في السينما الفلسطينية وتحديدا لدى المخرجين الرجال، في “الغريب” لمست مساحات رجولة هشة ومقموعة على أكثر من مستوى وتداخل درجات القمع فيما بينها. اختيارك لهذا النوع من البطل هل هو خيار تعبيري صعب أم كان موجودًا بشكل تلقائي في شخصية عدنان ووالده؟ أين تقع الرجولة فيما تقدّم؟
علينا أن نضع مكان الرجولة بالذات تحت المجهر، نحن كمجتمع عربي وذكوري، نرث الحروب ونورّثها لمن بعدنا، نخون مهمّاتنا كأجيال حتّى لا نواجه ذواتنا، وكذلك في شريطي القصير “بين موتين” أول ما أردت الحديث عنه هو الرجولة الهشّة، على السطح يبان الكبرياء ولا يريد الأب (محمد بكري) أن يتحدث مع زوجته (إلهام عرّاف) في الحقل المفتوح وأصوات الحرب تتوالى من خلف التلال وهما نفس الأم والأب في الغريب، قد يكون لديه انزعاج وغضب مما يحصل على صعيد الوطن… هذه الشخصيّات منّا وفينا وظاهرة في الشريط، واستطيع القول إنّ هنالك شيئًا في رتابة الشخصيات أو أحاديّتهن على مستوى بنائهن، مثل كميل الأب في “بين موتين”، اهتممت بأن يكون مونوتون… أن يبدأ من نفس المكان الذي ينتهي به وأن لا يمرّ بتغيير وهذا بالضبط ما أراه في العِند الموجود في الرجولة، فعندما تضعها أمام المشاهد وترى شخصية كهذه في السينما تنكشف فورا هشاشتها، عندما يظهر عنيدا ولا تعالجه أو تجعله يصل إلى غايات معينة ينكشف ضعفه، خاطر بشخصية رتيبة مونوتون ولكن الجمهور بهذا المفهوم يلمس هشاشاتها، هنالك مثلث علاقة بين الفكرة والإطار والمشاهد وهذا مثلث برأيي فيه معادلات رهيبة وأحاول دائما أن أفهم كيف يمكن ان استخدمه بأفضل الطرق.
في فيلم وجداني من هذا القبيل لا بدّ أنك استوحيت بعض الأحداث من شخصيات حقيقية أو من أحداث من الطفولة…
لا أحبّذ أن أفسر وأعطي تأويلات للفيلم لكن طفولتي في الفيلم موجودة مثلا في مشهد حوار يدور بين عدنان وزوجته حين يتحدّثان عن الهجرة وتركّز الكاميرا على الطفلة، أستطيع القول إن طفولتي موجودة في هذا المشهد، أذكر أهلي وهم يتحدّثون عن الهجرة لكندا، وكان ما بينهم اختلاف حول الفكرة، أشعر الآن أنّني أتطرق لأوّل مرّة لهذا المشهد بهذه المشاعر، يوم صنعت المشهد لم أكن أحمل هذه الوعي تجاهه. أحاول أن أصنع أفلاما محرّكها المخاوف المستقبلية وامتنع عن عكس تجربة شخصية، أفضّل خلق عالم خاصّ تقودني فيه الثيمة ومخاوفي المستقبلية وليس تجاربي السابقة، بالتأكيد من الممكن إيجاد طفولة ما، بنت عدنان بشكل ما هي طفولتي في الصمت والتأمل بعلاقة الوالدين.
قدّمت مشاهد طويلة دون قطع مثل مشهد السيارة التي يستقلّها عدنان مخمورًا مع صديقه حين يوقفهم جنود إسرائيليون والذي بنيت فيه عالمًا كاملًا متخيلًّا من وراء زجاج ضبابي وأطياف خارج السيارة حيث صوّر كل المشهد من خلف ظهري الشخصيتين المظلمتين، وصنعت كذلك مشاهد تأمّلية معتمدة على حركة ممثل ولو محدودة ضمن ميزانسين معيّن، تتطلّب هذه الأنماط من المخرج حسابًا دقيقًا في توجيه الممثلين كي تنساب مع الإيقاع الشاعري للشريط ولا تفسد روحه. كيف تعاملت مع ممثّلين هم “غيلان” ومتمرّسين؟ تحديدا أشرف برهوم بطل الرواية الذي قدّم واحدًا من أجمل أدواره وبلا شك محمد بكري في دور شبه صامت لكن ذو حضور راسخ ونوعي في الذاكرة بعد المشاهدة.
بإمكاني القول إنّ هذه اللغة كانت متطرفة بالنسبة لهم نوعا ما وأقصد المشاهد الطويلة وعدم القطع، دار بيننا نقاش حول هذا الأمر… كنت أقرّبهم من هذا العالم. الأمر أشبه بأن تضعهم على خشبة مسرح وكان حظّي وافرًا بالعمل مع ممثلين مسرحيين محترفين يستطيع كل منهم أن يأخذ دور بطولة لوحده. اعتمدت هذه الخامات المسرحيّة لكنّ الأمر أشبه بأن تحضر إيقاع المسرح إلى السينما وتختزل منه كل “الأوفر” الذي يحتاجه الممثل المسرحي للتواصل مع الجمهور. أهم نقطة في الفيلم لم تكن ماذا نُظهر بل ماذا نخبّئ، وكانت هذه إحدى التقنيات التي طالما ناقشناها، ماذا لن نفعل في هذا المشهد وهذا يعطيك مساحة من الحرية والمسؤولية في نفس الوقت… أريد أن أبقي مجالا للسحر يكون فيه الممثل متداخلًا مع الشخصية ومرتاحًا فيها لأنه بحاجة إلى هذا الشعور في مشهد طويل ولا يجدر به أن يكون تقنيا فقط، قد تناسب التقنية مشاهد ذات خاصية معيّنة وميزانسين مختلف، لكن في مشهد ديناميكي مثل مشهد السيارة فيه ثلاث ممثلين في الداخل وفي الخارج خمسة عشر كومبارس مع سيارة جيب جيش ويمتد نحو الأربع دقائق ونصف فالأمر معقّد جدا، أنا حذر من عملية القطع وهذا يعود بي إلى شخصيّة المكان وأهمية الزمن نفسه. أنت مخطئ إن تصوّرت أنّ الأنسب عمل مراجعات كاملة قبل التصوير، لم نقم بمراجعة لمشهد كامل قبل التصوير لكن يدور نقاش ليس فقط حول المشهد بل حول الشخصيات نفسها…لأنّنا لو دخلنا إلى غرفة وتدرّبنا، أين شخصية المكان؟ أنت بحاجة أن تعيش اللحظة ذاتها وأن تعيد نحت الحالة الزمانية والمكانية .
يقول عدنان للبقرة في بداية الفيلم اهربي ولا تكوني مثلي… بقرة تعاني في الفيلم وحليبها مخضّب بالدماء، كلب عدنان مبتور الرجل ويسير على ثلاثة أرجل. التقاء الحيوانات مع شخصية عدنان فيه جانب آخر من تماهي الغرباء أليس كذلك؟
يجسّد الكلب والبقرة بالتأكيد ميتافور معيّنا، خاصّة عندما لا تدرّ البقرة حليبًا وتخذل الأب الذي لا يقتنع أن البقرة مريضة ويتّهم البرد القارس، نعود هنا مرّة أخرى إلى هشاشة الرجل الذكوري عندما تنظر إليه زوجته وتطلب منه بكلّ حنان أن يكفّ عن حلبها، هنا تكمن نظرتي لدور المرأة في المجتمع، كم هنّ حسّاسات وأقوى منّا بكثير، رؤيتهنّ أبعد، تقول لزوجها أن يكفّ عن هذه القسوة لأنّها لا تجلب سوى الدمّ، إن كانت أصوات الحرب البعيدة تقريب للحرب الداخلية لدى عدنان، فأصوات الكلاب الأخرى كذلك بعيدة ولا نرى كلبا سوى كلب عدنان، ويدافع الأخير عن كلبه ويقول ” هو تمام، المشكلة بالكلاب الثانية”…تتحول الأصوات البعيدة بمرحلة ما إلى محاكاة لمشاعره المهشّمة.
لا يمكن التعامل مع “الغريب” من منظار سينمائي تأريخي بمعزل عن امتداد ما لإرث السينما السورية وتعاملها مع الجولان المحتلّ بالذات عمر أميرالاي ومحمّد ملص. هل ترى نفسك امتدادًا لهذا الإرث وأين تجد نفسك من السينما الفلسطينية، كونك معلّق سينمائيا وسياسيّا بين سوريا الوطن الأم والداخل الفلسطيني المحتلّ؟
أشعر أني أنتمي إلى أميرالاي وملص وإلى السينما السورية بالتأكيد، وهما ملهمان جدا لي خاصّة أميرالاي حتى في أفلامه الأولى، التأمل ورؤية التفاصيل التي تمرّ مرور الكرام في أي فيلم آخر كان يأخذها أميرالاي ويعطيها اهتمامًا فائقًا… أحب “طبق السردين” كثيرا. أشعر أنني متأثر بالتأكيد، السينما الفلسطينية وصلت لي، أقصد أنا وصلت إليها من بعد السينما السورية، عندما أتابع أي فيلم فلسطيني أشعر بقرب رهيب وأشعر أنه يحاكيني، الجولان هو نقطة انصهار ما فيها كل شيء معلّق، الشيء الجيد الوحيد الذي قد يخرج من حالة كهذه هو مسؤوليتك، لا تحصل على إرث فجأة، أنت مسؤول عن تكوين إرثك… انعدام الاتصال المباشر بين وطن أم ومؤسسات وسينماهات وبعدنا عن الشعب الفلسطيني جغرافيا يجعلك في هذه الحالة المحفّزة التي أتحدث عنها.
سؤال يهمّ كل صانع أفلام في عمله على شريطه الروائي الأول تحديدا في فلسطين والجولان السوري المحتلين كيف تخطّيت فخ الإنتاج الإسرائيلي وماذا تحدّثنا عن رحلة إنتاج الشريط.
كما هو معروف الخيار الأسهل اليوم هو تحصيل تمويل إسرائيلي على أنّها مستحٍقّات كونك دافع ضرائب وإلى آخره… لكن في هذا الطرح تجاهل مقصود للواقع. أن تقنع العالم أنه يحق لك هذا التمويل يبدو وكأنك تقبل المنظومة نفسها وتقبل بالاحتلال، طبيب في مستشفى يختلف عن فنان فهو لا يخاطب جماهير ولا أريد أن أدخل كثيرًا في هذه المقارنات، لكن إحدى الصعوبات هي بالتأكيد التمويل، عليك أن تعلم أن رفضك للتمويل الإسرائيلي معناه خروجك إلى رحلة غير سهلة، ولكن على الأقل تشعر أن هذا جزء من الواقع وما من حاجة لدراما… يجب أن أسعى وهنالك طرق، إسرائيل “ما بتصدّق تدعمك” لأنك عربي لتصنع بروباجاندا تخدمها، وإن كنت كفنان غير واعٍ لهذه اللعبة معناه أنّك تحاول خداع نفسك فقط كي لا تعاني وأنا لا أستطيع فعل ذلك. توجّهت لصناديق تمويل سينمائي في العالم العربي مثل “آفاق” و”المورد الثقافي” في لبنان، ومن معهد الدوحة للأفلام، ومن صندوق دعم هامبورغ للأفلام، المشكلة تكمن في المنافسة الكبيرة في هذه الأجسام حيث تتنافس مع كل العالم العربي، لكن في نظرة أخرى يجب على ذلك أن يحفّزك، ستقابل رفضًا لدى تقديمك، لكن على الإنسان أن يأخذ هذا الرفض ويتطوّر من خلاله. صُنع الفيلم بالمنح وشركتي ميتافورا وفريسكو أنتجتا الفيلم.
التفاح والكرز قابعان كعنصرين رومانسيّين في النظرة الخارجية إلى الجولان، تحديدا في المخيّلة الإسرائيلية الاستشراقية. عناصر كالأرض، والتفاح، والماء والضباب أعدت تأويلها بصريا في الفيلم. في الشريط أكسبت التفاح معنى آخر تدفن تحته جثّة!
عندما تكتب شعرًا تنتقي الكلمات والوزن. ليس بالضرورة المقفّى، تبحث عن الإحساس والقيمة وليس فقط عن النغمة، أعتقد أن الصورة تمرّ في حالة شبيهة. لماذا أحب السينما؟ أنا لست متكلّمًا، ولا أعتبر نفسي كاتبًا… أعطني ورقة وقلمًا لن أعرف أن أكتب مشاعري، إنما أكتب للفيلم لأن معالجة الصورة والصوت في بالي… لا أحب أن أعطي تأويلات لمشاهد، أفترق عن الصورة بعد صنعها والمفروض أن تنشرخ عنها لأنها ليست لك بل للجمهور وأعتبر هذا نوع من الاحترام. التفاح والأرض والماء المتساقط على التربة في لقطات معينة ذات مساحة صغيرة مصورة من فوق top shot مع حركة كاميرا مبتعدة تدريجية، تكشف الصورة الأكبر… تلك هي الشاعرية، لا يكفي أن تكون رؤية رمزية بل يجب أن تدعمها بلغة سينمائية يتكون فيها نمط معيّن متكرر بشكل يبحث ويشجّع المشاهد على بناء سردية ما.
في خياراتك البصرية والسمعية صهر للفنون الأقدم كالشعر والرسم. اقتباس بيت شعر للمتنبّي في بداية الفيلم ونص الخاتمة الذي يلقيه عدنان بأداء وجودي مؤثر لأشرف برهوم فيه فلسفة وإيقاع يكمل فهم الفيلم، ماذا تقول عن هذه الاقتباسات؟
النص الأخير كتبت أغلبه واقتبست من جبران خليل جبران ومن شاب سوري يدرس في ألمانيا أبهرني خصوصا أنه خاطب فتاة اسمها ليلى. كتب جبران عن الغريب، وأرى أنّه لم ينل حقّه من التقدير وهو ملك الأبسورد والوجودية وفي النهاية تنسب هذه الألقاب لكتاب من الغرب مثل كامو جاءوا بعده بخمسين عاما، انا كمستهلك للأدب فخور عندما أقرأ لجبران أو للمتنبّي…لدينا كنوز وفي فيلمي قدّمت لهم تحيّة كتخليد وإعجاب، وكذلك تأكيد على أنّ حالة الغريب حالة إنسانيّة قديمة.
“الغريب” جزء من ثلاثية قادمة، ما هو تصورك للأفلام المستقبلية؟
إن كان هذا الفيلم عن الغريب بين أهله وناسه، فالقادم سيكون عن غريب بين غرباء. عدنان شخصية لا تغادر مكانها مثل معنى اسمه وكما جاء في الفيلم شجرة التفاح التي تغرس في غير تربتها تفقد طعمها، يواجه معاناته من خلال هذا الطرح الفلسفي ويفضّل أن يظلّ جزءًا من المعاناة على أن يهجر بيته. سيتناول الفيلم القادم الشخص غير القادر على العودة من المنفى أو المهجر… سأطرحه عليك بسؤال شاعري: ماذا يحدث إن قام الماضي بنسياننا؟ أما الجزء الثالث فأنا متشوّق له جدا، ستكون شخصيته الرئيسية امرأة وأختتم بها لأنها في اعتباري الأمل والقدرة على التحمّل والشجاعة. هنالك لوحة من عصر النهضة أثّرت في وجعلتني أفكر بهذه الثلاثية، وهي لوحة “مشهد من الطوفان الكبير” للفرنسي جوزيف ديزيريه، ترى فيها رجلا عاريًا على صخرة وتحته في الماء رجلا عجوزا يشرف على الموت غرقًا وما من أمل في إنقاذه، ومن ناحية أخرى تتكئ امرأة على غصن زيتون رافعةً طفلها إلى الرجل كي ينتشله، وبعكس كل الإضاءة في اللوحة يظهر وجه البطل مظلّلًا صوب زوجته والطفل ويحاول جاهدًا إنقاذ العجوز الميت وبجانبه وشاح أحمر في تلميح إلى الدين، يحاول بطل اللوحة أن ينقذ الماضي والتراث والدين ولا يفكر بالمستقبل والإنسان، رأيتها مناسبة جدا لأي شعب أو مجتمع وبالتحديد مجتمعنا المتعلق بالإرث الذكوري والتقاليد والمشوّش عن أي نظرة نحو المستقبل والسلام.
“وفي أرضنا حيث تختفي الشمس لم يعد لنا وجوه
وقد كان ذنبنا أنّنا حاولنا رسم بعض الملامح لوجودنا
قد تثمر غراسنا يومًا
ويبلغ أطفالنا المغنم
ويفوزوا بضالّتنا
ولكن ألا تخشين يا ليلى أن تفقد شجرة التفّاح طعمها إن نمت في غير تربتها؟”
من نصّ الخاتمة لفيلم “الغريب”