كتاب “تاريخ الفلسطينيين وحركتهم الوطنية“، الصادر عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” بتأليف مشترك بين ماهر الشريف، رئيس قسم الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وعصام نصار، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في معهد الدوحة للدراسات العليا، يعالج تاريخ فلسطين الحديث، بدايةً من العقد الثاني من القرن السادس عشر، بوقوع بلاد الشام، وضمنها فلسطين، في قبضة الحكم العثماني، انطلاقًا من أن تطور تاريخ الشعب الفلسطيني لا يمكن استيعابه من دون التركيز على هذه المرحلة التي أمست فيها فلسطين جزءًا من إمبراطورية واسعة تشمل معظم المناطق العربية ومناطق في أوروبا الشرقية وأفريقيا الشمالية، فضلًا عن أن هذه المرحلة شهدت تطورات مهمة كان لها أثر كبير في تبلور معالم الفلسطينيين بصفتهم شعبًا عربيًا بات يواجه، وتحديدًا في أواخر العهد العثماني، قضية وطنية نشأت بفعل ولادة مشروع الحركة الصهيونية في إطار المشاريع الأوروبية الاستعمارية التي استهدفت المشرق العربي.
وينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين: يتناول القسم الأول تاريخ فلسطين في العهد العثماني منذ سقوطها على يد العثمانيين في سنة 1516، مرورًا بما شهدته من أحداث خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تميزت بوقوع مناطقها في قبضة حكام محليين، وتطور دورها الاقتصادي على مستوى بلاد الشام، ثم بروز دور العائلات المتنفذة وشيوخ النواحي فيها، وصولًا إلى القرن التاسع عشر الذي كان أكثر القرون تأثيرًا في تاريخ فلسطين العثماني، إذ شهد خضوعها للاحتلال المصري، وإلحاقها بسياسة “التنظيمات” الإصلاحية، وتحوّل مدنها إلى مدن رئيسة تؤدي دورًا بارزًا في المنطقة، وتصاعد الاهتمام الأوروبي بها وتبلور المشاريع الاستعمارية التي استهدفتها وتسارع اندماجها في الاقتصاد العالمي، وبروز بواكير النهضة العربية ودخول الابتكارات والاختراعات الحديثة إليها.
وفي هذا القسم، وضع المؤلفان الفلسطينيين، من دون أن يغفلا دور الصهيونية أو الدول الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر، في قلب تاريخ بلادهم عبر سرد تواريخ محلية، وإن كانت في سياقها العثماني، وحاولا أن يتجاوزا المقاربات التي اعتمدتها بعض الدراسات التاريخية، ومنها: أولًا، المقاربة الاستشراقية التي تضع الدور الأوروبي في قلب الحدث التاريخي عبر التركيز على دور أوروبا وعلاقتها بفلسطين، وتقدّر أن تاريخها الحديث يبدأ بالاحتلال الفرنسي لمصر وفلسطين في العام الأخير من القرن الثامن عشر، متجاهلة تاريخ البلد الاجتماعي والثقافي وحيويته السياسية والاقتصادية.
ثانيًا، المقاربة الصهيونية التي ابتكرت تأريخها الخاص الذي يقوم على ربط تاريخ فلسطين بتاريخ اليهودية، مغيّبًا تاريخ سكان البلد الأصليين طوال قرون عديدة، ومعتبرًا أن تاريخ فلسطين الحديث يبدأ بوصول أول موجة من الهجرة اليهودية إليها وإقامة أولى المستعمرات اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، ثالثًا، المقاربة الإسلامية التي تنظر إلى فلسطين باعتبارها أرضًا إسلامية، وتضع تاريخها في سياق التاريخ الإسلامي العام، مغفلة خصوصيتها وتنوعها دينيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا منذ أقدم العصور.
بينما يغطي القسم الثاني من الكتاب الفترة التاريخية الممتدة من الاحتلال البريطاني لفلسطين حتى يومنا هذا، ويتوزع على فصول تسعة: يتناول الفصل الأول منها بروز فكرة الدولة اليهودية لدى الدوائر الاستعمارية الأوروبية ومشاريع توطين اليهود في فلسطين، ونشوء الحركة الصهيونية والمساعي الدبلوماسية التي بذلها تيودور هيرتسل للحصول على تعهد دولي بإقامة “الوطن القومي اليهودي” في فلسطين، وأشكال المقاومة العربية الأولى للمشروع الصهيوني، ووقوع فلسطين، خلال الحرب العالمية الأولى، في إطار مشاريع السيطرة الأوروبية على المشرق العربي.
ويغطي الفصل الثاني الفترة الممتدة من الاحتلال البريطاني لفلسطين حتى نكبة الشعب الفلسطيني في سنة 1948، ويعرض سياسة الاستعمار البريطاني في دعم مشروع “الوطن القومي اليهودي”، ونشوء الحركة الوطنية العربية الفلسطينية ورهان قيادتها، في العشرينيات من القرن الماضي، على إمكان تغيير مواقف بريطانيا من تصريح بلفور، والأوضاع التي أدت إلى اندلاع “هبة البراق” في أغسطس 1929.
وتصاعد النضال الوطني الفلسطيني الذي استهدف سلطات الانتداب البريطاني في الأساس خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وتكلل بالإضراب العام والثورة الكبرى، وحيثيات صدور “الكتاب الأبيض” البريطاني في أيار/مايو 1939، ودخول الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة الركود والهزيمة (1940 – 1948).
ويتناول الفصل الثالث مراحل تنفيذ خطة التطهير العرقي الصهيونية التي أدت إلى اقتلاع معظم الفلسطينيين من وطنهم، ونتائج الحرب العربية – الإسرائيلية، وتوزع الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه في أعقاب النكبة، وانخراط الناشطين الفلسطينيين في الأطر الحزبية ما فوق الوطنية في خمسينيات القرن الماضي، وتأسيس حركة “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ويتوقف الفصل الرابع عند مقدمات عدوان إسرائيل في حزيران/يونيو 167 ونتائجه، ومن أبرزها انتشار ظاهرة العمل الفدائي الفلسطيني وسيطرة الفدائيين على منظمة التحرير الفلسطينية، كما يعرض سياسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي في إسرائيل من أجل الحفاظ على هويتهم القومية، وتمدد حركة المقاومة الفلسطينية في الأردن ثم هزيمتها، ورفض قيادة منظمة التحرير المشاريع التي تصوّرت أنها تهدف إلى النيل من كفاحها المسلح وطابعها التمثيلي.
ويعالج الفصل الخامس الفترة الممتدة من بدء الانعطاف نحو تبني “المرحلية” في النضال الوطني الفلسطيني، في إثر اندلاع الحرب العربية – الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1973، ورهان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على “التسوية السياسية”، ثم خيبة هذا الرهان والأوضاع التي أدت إلى تحوّلها من منظمة فدائيين إلى جهاز عسكري و”حكومي” بيروقراطي، حتى الاجتياح الإسرائيلي وإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في سنة 1982.
ويركّز الفصل السادس على تطور وعي الفلسطينيين السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وأشكال تنظيمهم، والقاعدة الاجتماعية لمقاومتهم وتطوّر أشكالها، كما يتوقف عند أوضاع الفلسطينيين في إسرائيل، والإقرار بدور القوى السياسية التي تمثلهم.
بينما تطرق الفصل السابع إلى حيثيات انشقاق حركة “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية، بعد الخروج من بيروت، وفشل الرهان على تغيير الموقف الأمريكي من المنظمة، يعالج بالتفصيل طبيعة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة عشية انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 1987، ومقدمات هذه الانتفاضة التي شكّلت “خشبة خلاص” لمنظمة التحرير، لكنها فرضت عليها تحديًّا كبيرًا في الوقت نفسه تمثّل في التحوّل من “الإسلام التقليدي” إلى “الإسلام الجهادي”، ثم “إعلان الاستقلال” وعناصر “مبادرة السلام” الفلسطينية ووصولها إلى طريق مسدود.
ويعرض الفصل الثامن حيثيات الدعوة إلى عقد “مؤتمر السلام” في مدريد وقضية التمثيل الفلسطيني والمشاركة الفلسطينية فيه، والانتقال من مفاوضات واشنطن إلى اتفاق أوسلو ومضمون هذا الاتفاق، وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وتسببها بتهميش منظمة التحرير الفلسطينية، ثم يتوقف عند مقدمات القمة الفلسطينية – الإسرائيلية في كامب ديفيد، والأسباب التي أدت إلى فشلها، وإلى اندلاع الانتفاضة الثانية وطبيعة الجدل الذي دار حول هذه الانتفاضة، والعوامل التي تسببت بتعميق تبعية الاقتصاد الفلسطيني، في إطار السلطة الوطنية، للاقتصاد الإسرائيلي، وتفاقم ظاهرة “الإفقار التنموي” في المناطق المحتلة.
أما الفصل التاسع، والأخير، فيتركز على العوامل التي أفضت إلى وصول عملية أوسلو إلى طريق مسدود وفشل “عملية السلام”، وخصوصًا قناعة حكام إسرائيل بأن الصراع مع الفلسطينيين صراع وجودي لا حل له، وتحوّل الولايات المتحدة الأمريكية من إدارة الأزمة إلى تصفية أهم مكوّنات القضية الفلسطينية، وضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، وتكاثر النكبات العربية وتراجع الانشغال العربي بالقضية الفلسطينية، وينتهي هذا الفصل بالتساؤل عن مستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروعها في خضم الأزمة التي تواجهها.