صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب لعاطف عطية بعنوان من “أحوال الثقافة والسياسة في لبنان زمن الحرب (1975–1990)”، في 292 صفحة.
يتناول فيه المؤلف إشكالية العلاقة بين الثقافة والدين والسياسة في لبنان، من خلال المؤتمرات والندوات التي عقدت على هامش الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان وتداعياتها على مدى خمسة عشر عامًا (1975-1990). وكانت الغاية من عقد هذه المؤتمرات والندوات التفكّر في كيفية التخلّص من هذه التوتّرات والمواجهات التي حصلت – ولا تزال تحصل – بين اللبنانيين على امتداد تاريخ بلدهم الحديث، والنابعة من نظام حكم سياسي اجتماعي مولّد للأزمات، بحكم تشكّله، باعتباره نظامًا طائفيًا يحمل بذور أزماته في بنيته الداخلية.
اعتمد المؤلف، في إظهار جوانب الخلل في هذا النظام، على ما جاء في تلك المؤتمرات، انطلاقًا من البحث في إشكالية العلاقة هذه، مع التركيز على الأسباب المؤدية إلى ذلك. ويرى أن ما حصل ويحصل هو نتيجة ما نشأ عن العلاقة بين الثقافة، باعتبارها الوعاء الحاضن لكل عناصرها، والدين محفّزًا للمنتمين إليه في تطلّعاتهم السياسية والاجتماعية، من جهة، والسياسة في تعاملها مع قضايا المجتمع والناس، وتسيير حياتهم بما يتلاءم مع توجّهاتهم ومع ما يدعم هذه التوجهات، من جهة أخرى.
وقد تمحورت إشكالية الدراسة حول العلاقة بين الثقافة والدين والسياسة، من خلال تمفصل هذه المتغيرات الثلاثة في علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض، وتأثير أو تأثر متغيّرات هذه الإشكالية بعضها مع بعض؛ أي علاقة الثقافة بكلٍّ من الدين والسياسة، وعلاقة الدين بكلٍّ من الثقافة والسياسة، وعلاقة السياسة بكلٍّ من الثقافة والدين، للوصول في النهاية إلى معرفة التأثير الأقوى الذي أوصل لبنان إلى أزمات وحروب وفتن وقلاقل لم يسلم منها، بل إنها عرقلت تنفيذ مشروع الدولة الحديثة، وأوصلت البلاد إلى مخانق سياسية واقتصادية، وحروب دموية، منعته من التقدم والتطور.
حكمت مسيرةَ الدراسة وتوجّهَها تساؤلاتٌ تبيّن اهتماماتها، وما تروم الوصول إليه، وبنت عليها افتراضات تشكّل أجوبة محتملة عن هذه التساؤلات، وتركت تفصيلات الإجابة لما تراكم لدى الباحث من معطيات ودراسات وبحوث ظهرت في أوقات متزامنة يحصرها عقد واحد من السنين أنتجتها مؤتمرات وندوات، كانت قد أفرزتها تداعيات الحرب الأهلية التي امتدّت خمس عشرة عامًا بحموتها وبرودتها (1975-1990). وبدأت بالانحسار والخفوت، في إثر اتفاق الطائف الذي نجح في وقف الحرب (1989)، ومن ثم اتفاق الدوحة وتداعياته (2008).
ثنائية المجتمع اللبناني بين الاختلاف والائتلاف
تظهر نظرة “المجتمع المسيحي”، الذي تعبّر عنه الجبهة اللبنانية في “بيت المستقبل”، صنيعة رئيس الجمهورية “الكتائبي” أمين الجميل، من خلال عقد “خلوة الفكر المقاوم” التي أبرزت شكل المجتمع اللبناني الذي تريده الجبهة اللبنانية، وهو المجتمع المتعدد ثقافيًّا بقيادة الموارنة. وتبيّن أهمية الاضطرابات والفوضى، وخصوصًا ما له علاقة بالطائفية، لشدّ عصب المسيحيين ليكونوا أشد تماسكًا وأكثر قوة في وجه الطامعين في القضاء على المجتمع المسيحي، ومن ثمّ على لبنان، كما يراه ويعيشه المسيحيون بقيادة الموارنة. وانبنى توجّه هذه الندوة على الثنائية الثقافية اللبنانية المبنيّة على أساس الثنائية الدينية، مع استحالة أن يكون لبنان على غير ذلك.
في إطار الثنائية ذاتها، ظهرت ثنائيتان مؤتلفتان تعبّران عن انقسام اللبنانيين ضمن المجتمع الواحد الذي لا وجود له في وحدته المطلقة في أي مكان من العالم؛ لأن ناموس الحياة المجتمعية قائم على الانقسام، الأولى هي ثنائية الريف والمدينة التي ناقشها جورج قرم، بما فيها من اختلاف بينهما في نمط العيش، والثانية هي ثنائية التقليد والحداثة التي أثارها أحمد بيضون ضمن المجتمع الواحد، وهي الموجودة مُذ وُجِد المجتمع حتى في حالته القديمة.
ويُظهر المؤلف، تحت هذا العنوان الذي وضعه للفصل الأول من كتابه من أحوال الثقافة والسياسة في لبنان زمن الحرب، تهافت القائلين بثنائية المجتمع الناشئة عن ثنائية الدين أو تعدد الطوائف. لذلك تناول في الفصل الثاني “مقولات وحدة المجتمع اللبناني”.
لبنان والذاكرة الثقافية
عرض المؤلف تحت هذا العنوان (وهو عنوان الفصل الثالث في الكتاب) أعمال المؤتمرَين اللذَين أقامتهما الحركة الثقافية – أنطلياس ومؤسسة السلم الأهلي الدائم، وهما على توجهين مغايرين؛ ذلك أن الحركة جنّدت نفسها للقول والعمل من أجل وحدة لبنان أرضًا وشعبًا ومؤسسات من خلال الفعل الثقافي الذي تكّبدته، وخصوصًا المؤتمرات الثقافية الثلاثة التي كانت قد عقدتها في الثمانينيات: “لبنان، الذاكرة الثقافية” (1983)، موضوع هذا الفصل؛ “الثقافة والدين والسياسة وإعادة بناء لبنان” (1985)؛ “لبنان، الثقافة والتغيير” (1988)، موضوع الفصل الرابع. أما مؤسسة السلم الأهلي الدائم، فقد عقدت مؤتمرها الأول في قبرص (1988)، وكان همّها الأساس الحفاظ على استقلال لبنان ووحدته بنظامه المعمول به، وبتوجهه المبني على المشاركة الطائفية التي من الممكن المحافظة عليها بالإفادة من دروس الماضي وويلات الحرب والابتعاد عن التغيير القسري.
ويظهر الكتاب على نحوٍ واضح غاية الحركة من خلال نشاطها وإيمانها بضرورة تغيير النظام السياسي الطائفي في لبنان بأي وسيلة من الوسائل. وما زاد أهمية هذه المؤتمرات، واحتمال تأثيرها الثقافي، أنها عُقِدَت في قلب “المجتمع المسيحي”، وفي الوقت الذي كانت الحرب لا تزال تفعل فعلها في برودتها وحموّتها.
الثقافة والعقيدة
عاين المؤلف نظرة العقيدة القومية الاجتماعية الممثلة بالحزب السوري القومي الاجتماعي، والعقيدة الشيوعية من خلال نظرة الحزب الشيوعي اللبناني، وذلك في ندوتين شارك فيهما مثقفون من خارج الصف الحزبي. اعتبرت الندوة الأولى بما قاله المنتدون، وخصوصًا من ينتمي منهم إلى الحزب القومي، أن أصل البلاء في لبنان ناشئ عن النظام الطائفي الذي ينظر إلى اللبنانيين باعتبارهم طوائف لا أفرادًا أو مواطنين. واعتبروا أن الطائفية في جميع أشكالها هي التي تمنع قيام المجتمع اللبناني الحديث القائم على المواطَنة، والمتّصف بصفته المدنية بقيادة الدولة الحديثة المتحررة من القيد الطائفي. ويتمثّل الحل، في نظر هؤلاء، في إلغاء الطائفية واعتماد نظام يفصل بين الدين والسياسة، وصولًا إلى النظام العلماني الذي لا يتعارض مع الدين.
أما الثقافة في نظر الحزب الشيوعي، فهي طبقية كما الاقتصاد؛ ثقافة الأسياد وثقافة العمال. حتى بين الأسياد، ثمة ثقافات متباينة ناشئة عن مواقع هؤلاء في علاقات الإنتاج، وكذلك بالنسبة إلى العاملين. وعلى صعيد التغيير، فإن على الثقافة أن تكون في خدمة السياسة، ولا بأس في توسّل الأساليب كلها، وحتى الناشئة عن الانتماء الديني، في سبيل نصرة الطبقة العاملة وانتصار طبقة العمال في المواجهة مع طبقة الأسياد المستغلِّين.
إن مسألة تعدّدية الثقافة، أو ثنائيّتها في أضيق الأحوال، في الفكر الشيوعي، كما ظهرت في ندوة “حوار ديمقراطي من أجل التغيير”، تختلف عن التعدّدية الثقافية المبنيّة على التعدّدية الطائفية؛ فالتعدّدية الشيوعية يحكمها الجدل والتناقض حتى ضمن ثقافة الأسياد، وضمن ثقافة المقهورين أيضًا.
والمقاربة الثقافية والسياسية وإشكالية العلاقة بينهما محكومتان بالأيديولوجيا الماركسيّة؛ ذلك أن الثقافة، ماركسيًّا، فعل سياسي قبل أي شيء آخر، إلا أنهما يلتقيان في الأخير (ثنائيتا الثقافة الطائفية والطبقية) مقابل مقولة المتّحد الاجتماعي الذي يُنتج ثقافتَه المتنوّعة العناصر.
أما على المستوى العلاقة بالدين، فقد جاء في هذه الندوة أن الوعي الديني الفردي هو وعي أيديولوجي ينظّم الفرد في الجماعة، و”يوهمه” أنه مساوٍ لهم في الانتظام الاجتماعي. ويأتي، من بعد، وعي تحليلي اجتماعي تاريخي طبقي، يجعل الفرد في تساوق تام مع مقولة الصراع الطبقي، إضافة إلى ائتلافه مع الوعي الديني. وهذا الوعي، فرديًّا أكان أم جماعيًّا، كما لدى التيارات الدينية، ما هو إلا بداية تكوّن الوعي التاريخي الاجتماعي الطبقي الذي هو بدوره نوع من الصراع الطبقي. والدين، بهذا المعنى، يمكن الاستفادة منه في التعبئة ضد الاحتلال في مواقع الاحتلال.
إذًا، حتى في المجال الديني، تتوضّح العلاقة بين الديني والسياسي؛ ذلك أنه إذا كان الدين يُتّخذ سلاحًا في يد السلطة السائدة في صراعها ضد قوى التحرر، فلمَ لا تتخذه قوى التحرر سلاحًا ضد السلطة السائدة؟ الديني، هنا، يدخل في خدمة السياسي، أي في خدمة مقولة الصراع الطبقي، من الجهتين، الحاكمين والمحكومين. من ثمّ، الديني هو أيضًا جزء من السياسي، وحقل من حقول الصراع الطبقي. وتبقى الثقافة والدين في خدمة السياسة، بما أنها التعبير العملي عن الصراع الطبقي.
لذلك ناقش كتاب “أحوال الثقافة والسياسة في لبنان زمن الحرب”، في الفصل السادس، “الثقافة في مهب السياسة والدين”، والفصل السابع، “اللقاءات الفاشلة والاتفاقيات المنقوصة”، تداعيات الحرب على الصعيد السياسي، من خلال ما توصلت إليه بنتائجها. وقد كان الهم الأساس لأصحاب الحل والربط في لبنان وخارجه أن تتوقف الحرب بأي طريقة ممكنة. فسارت عجلة السياسة، بمعزل عن الثقافة، على عكس الدين والطوائف الدينية التي ألقت بظلالها على أجواء المفاوضات التي بدأت وأطالت في حواراتها في الطائف، المدينة المضيفة في السعودية للفرقاء اللبنانيين بمساع وجهود عربية.