إن الحديث عن فيودور دوستويفسكي يتطلب منا القيام برحلة إلى أعماق هذا الكاتب الكبير الذي شغل العالم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الآن، والذي يعدّ بلا جدال من أبرز الروائيين في العالم. وقد تتلمذت على كتبه وأدبه وأفكاره ورواياته أجيال من الروائيين وعلماء النفس في الشرق والغرب. وليس هذا القول مبالغة، ولا مستغرباً، فقد صرح مؤسس التحليل النفسي زيغموند فرويد بأن دوستويفسكي هو الوحيد الذي سبقه إلى اكتشاف أعماق النفس الإنسانية في بحثه للاشعور ودوافعه والآليات النفسية المختلفة. وانطلاقاً من أن مؤلفات الكاتب المبدع هي مفتاح شخصيته، كما أن شخصيته تعد مفتاحاً لمؤلفاته، لذلك سنستعرض بإيجاز سيرة حياة دوستويفسكي المليئة بالتطورات والأحداث الجسيمة، من خلال أعماله ومؤلفاته التي أنجزها ( كتب دوستويفسكي 14 رواية كبيرة و17 قصة طويلة وقصة وأقصوصة، وقصة قصيرة، ومجموعة ضخمة من المقالات والدراسات والخواطر التي نشرها في الصحف والمجلات، وترجم مجموعة من الأعمال الأدبية عن الفرنسية، كما أسس ثلاث مجلات هي “الوقت” و”العصر” و”يوميات كاتب”، وقد خصص المجلة الأخيرة لنشر مؤلفاته وآرائه). تعكس مؤلفاته التطورات والحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعبر عن النفس الإنسانية ودوافعها وآلياتها الشعورية واللاشعورية. وقد تُرجم عدد كبير من مؤلفاته إلى 170 لغة. وكتب دوستويفسكي هذه المؤلفات والأعمال الضخمة خلال فترة قصيرة نسبياً.
دوستويفسكي هو روائي ومترجم وكاتب قصة، وقصة قصيرة، وصحفي، وفيلسوف، وعالم نفس روسي . وهو من أعظم المجددين على صعيد الشكل الفني للرواية، فهو مبدع الرواية متعددة الأصوات، وقد خلق جنساً روائياً جديداً.
ولدَ دوستويفسكي في 30/10/1821 في موسكو، وتوفي في 31/1/1881. وهو الابن الثاني من ثمانية أبناء. ولم يعش سوى تسع وخمسين عاماً وثلاثة أشهر، تخللت حياته آلام السجن والمرض، والحكم بالإعدام، والمنفى والأشغال الشاقة، وأبدع من المؤلفات الأدبية الرائعة ما يفوق من عاش ثمانين عاماً وأكثر. والده ميخائيل أندريفيتش دوستويفسكي، طبيب، اشتهر باستقامته وتدّينه وقسوته في معاملة أولاده ومرؤوسيه وفلاحيه في أرضه. ووالدتهُ ماريا فيدورفنا دوستويفسكايا.
– في عام 1833، انتسب إلى المدرسة الثانوية مع أخيه الأكبر ميخائيل، وفي عام 1838 انتسب فيودور إلى كلية الهندسة العسكرية.
– في عامي 1839- 1840 بعث فيودور برسائل إلى أخيه ميخائيل يحدثه عن رأيه في أعمال شيللر وهوميروس، وكتاب التراجيديا الفرنسيين، وعن آرائه عموماً، ومنها الرسالة التالية: “الإنسان سر، يجب اكتشافه، وإذا ما حاولت اكتشافه طيلة حياتك، فلا تقل إنك أضعت وقتك، إنني أحاول اكتشاف هذا السر، لأنني أريد ان أكون إنساناً”.
– في عام 1843 أنهى الدراسة في الكلية وفُرز إلى الفيلق الهندسي وبدأ الخدمة في مديرية الرسم الهندسي بمدينة بطرسبورغ. وفي عطلة أعياد الميلاد ترجم رواية بلزاك “أوجين غرانديه”.
– في عام 1844 قدم طلباً باستقالته من الخدمة العسكرية، حيث أُعفي من الخدمة وهو ضابط برتبة ملازم أول، كما تخلى عن حقوقه الوراثية في ملكية الأرض والفلاحين الأقنان لقاء مبلغ ليس كبيراً. وعكف على ترجمة قصة جورج ساند “ألديني الأخيرة” وبدأ بكتابة روايته “المساكين”.
– في عام 1846 صدرت روايته “المساكين” التي قدرها النقاد تقديراً رفيعاً، كما صدرت قصة “المثل” وقصة “السيد بروخارتشين”. وبدأ بكتابة قصة “الجارة” ورواية “نيتوتشكا نيزفانوفا”.
– في عام 1847، صدرت قصته “رواية في تسع رسائل”، وبرز خلاف كبير في الآراء بينه وبين الناقد الكبير بيلينسكي انتهى إلى القطيعة. كما صدرت رواية “المساكين” في طبعة مستقلة ، وقصة “الجارة” في مجلة أخرى.
– في عام 1848، نشر قصة “زوجة آخر والزوج تحت السرير”، وقصة “قلب ضعيف”، كما نشر أقصوصة “بولزونكوف” (المهرج). وفي الخريف، جرى تقارب بين دوستويفسكي وجماعة بتروشيفسكي الثورية السرية، واطلع دوستويفسكي عن كثب على أفكار الاشتراكية الطوباوية. وفي شهر أيلول/سبتمبر، نشر قصة “شجرة عيد الميلاد والعرس”، وقصة ” الليالي البيضاء”.
– في عام 1849، نشر الجزأين الأول والثاني من قصة “نيتشكا نيزفانوفا”، وشارك في جماعة بتروشيفسكي السرية، وفي نيسان/أبريل وبعد عودته من أحد الاجتماعات دهمت شقته ثلة من رجال الشرطة واعتقلوه بتهمة مشاركته في نشاطات جمعية ثورية تسعى لتغيير نظام الحكم، ونُقل إلى السجن في قلعة بطرس وبولس. وبعد التحقيق، بدأت محاكمته وصدر الحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص. لكن القيصر قام بتخفيف الحكم في اللحظة الأخيرة قبل الإعدام، واقتصر الحكم على تجريده من رتبة ضابط ومن كافة حقوقه الوضعية، وإرساله إلى المنفى مع الأشغال الشاقة لمدة ثماني سنوات، لكن قرار القيصر قضى بأن تكون مدة النفي 4 سنوات، ثم يخدم جندياً عادياً لمدة أربع سنوات.
– في عام 1850، غادر القلعة ليلاً بعد تقييد قدميه بالسلاسل، ونقل إلى مدينة توبولسك في جو صقيعي. وفي 9 كانون ثاني تم إيصاله وزملائه إلى توبولسك، واحتُجزوه في سجن المعتقل الانتقالي. ثم نُقل دوستويفسكي إلى سجن الأشغال الشاقة في قلعة أومسك وبقي فيها حتى شهر شباط من عام 1854.
– في عام 1854، نقل دوستويفسكي إلى منفاه في مدينة سيميبلاتينسك السيبيرية في كازاخستان، وألحق بصفة جندي في السرية الأولى من الكتيبة المحلية. في تشرين الثاني/ نوفمبر وصل إلى سميميبلاتينسك النائب العام الجديد للمدينة البارون الشاب فرانغل فدعاه لزيارته، وزوده بالمال وبرسائل من ذويه، وارتبط معه بصداقة متينة. في هذا العام كتب دوستويفسكي رسالة إلى السيدة فون فيزونا قال فيها: “سأحدثك عن نفسي، أنا ابن القرن، ابن الشك وانعدام الإيمان، حتى الآن (وحتى الكفن). كم كلفني ، ويكلفني هذا الظمأ إلى الإيمان الآن. وكلما كان هذا الظمأ أقوى في روحي، كانت الحجج المضادة له أقوى”.
– في الأعوام 1855- 1860 بدأ دوستويفسكي بكتابة روايته “ذكريات من بيت الموتى”، وبعد صدور الأمر بترفيعه إلى رتبة ضابط، سُمح له بالزواج من الأرملة إيسايفا؛ وبعد تكليلهما أصيب بنوبة صرع شديدة، ورفع طبيب الكتيبة تقريراً بأن الضابط دوستويفسكي مصاب بالصرع منذ عام 1850، وأن نوبة الصرع تتكرر عنده شهرياً بحيث لا يمكن بقاءه في الخدمة العسكرية؛ بدأ بكتابة قصتين: “حلم العم” و”قرية ستيباشينكو”؛ صدر الأمر بقبول استقالته من الخدمة العسكرية؛ صدرت مؤلفاته في مجلدين.
– في الأعوام 1861- 1870 بدأت مجلة “الوقت” بنشر روايته “مذلون ومهانون”؛ سافر إلى باريس ولندن وألمانيا وإيطاليا والتقى بالكتاب والمفكرين الروس المقيمين هناك مثل هيرتسن وباكونين ثم عاد إلى بطرسبورغ ونشرت مجلة الوقت قصته “حادثة شنيعة”؛ أصدر مجلة “العصر” وبدأ بنشر روايته “الجريمة والعقاب”. تزوج من آنا سنيتكينا بعد مرور أكثر من خمس سنوات على وفاة زوجته الأولى، وقاما برحلة إلى الخارج استمرت أربع سنوات؛ بدأت مجلة “البشير الروسي” بنشر روايته “الأبله”، ثم رواية “الشياطين”.
– في الأعوام 1870- 1882 ترأس تحرير مجلة “المواطن”، وأسس مجلة “يوميات كاتب” وتابع نشر رواياته ومؤلفاته، فنشر رواية “المراهق” وقصة “بوبوك” (حبة الفول)، ثم أوقف مجلة “يوميات كاتب” للتفرغ لروايته الكبرى “الإخوة كارامازوف” التي أنهاها في عام 1880 بعد عمل استمر ثلاث سنوات.
– في مساء 31/1/1882 فارق دوستويفسكي الحياة. وقد دفن في بطرسبورغ في 1/ 2/ 1882، وسارت روسيا كلها في جنازته. لم يمت دوستويفسكي بدفنه في القبر، فبعد موته اتضح أكثر كم هو حيوي، وملحّ، وابن الساعة، فقد عبر بحماسة وحرارة عن جميع المسائل التي كان يدور حولها الصراع الاجتماعي والسياسي والروحي في روسيا وفي العالم أجمع.
في أوائل شباط/ فبراير عام 1882 كتب عنه الكاتب والمفكر الكبير ليف تولستوي قائلا: “كم كنت أتمنى لو استطعت أن أقول عن دوستويفسكي كل ما أشعر به تجاهه… أنا لم أرَ هذا الشخص قط، ولم تكن لي أية علاقة مباشرة به، ولكن فجأة، عندما مات، أدركت أنه كان أقرب إنسان إليّ، وأعز إنسان لديّ، وأكثر من كنت بحاجة إليه… لقد ذُهلت، ثم اتضح لي كم كان عزيزاً عليّ وبكيت، وأنا الآن أبكي”.
لقد كان بلزاك وديكنز في الغرب ودوستويفسكي في روسيا الروائيين الكلاسيكيين للمدينة الكبيرة في القرن التاسع عشر. وقد أدركوا بعبقريتهم طابع العلاقات الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية فيها وتأثيرها على الفرد والنفس البشرية. وقد تجاوزهما دوستويفسكي بإبداعه الرواية الجدلية الأيديولوجية، الرواية المتعددة الأصوات. فأبطال دوستويفسكي جميعهم مفكرون، أصحاب أيديولوجيا. حيث تندمج شخصية البطل مع أيديولوجيته ورؤيته للعالم.
فيودور دوستويفسكي، الكاتب والروائي وعالم النفس الروسي الكبير، حظي بإعجاب شديد وإلهام وتماهي من جانب شاب سوري لم يبلغ بعد العشرين من عمره، عندما عثر بالصدفة عند أحد أصدقائه على كتاب دوستويفسكي “مذلون ومهانون”، وكانت هذه بداية تعارفه ومعايشته لدوستويفسكي التي استمرت حوالي ثلاثة عقود حتى وفاته، ترجم ونشر بعدها الأعمال الروائية الكاملة لدستويفسكي في 18 مجلدا عن الفرنسية في عام 1970، في أروع وأبلغ وأصدق وأكمل ترجمة حتى الآن، وبلغة عربية جميلة ومعبرة ورائعة، واستطاع أن يعبر أصدق تعبير عن هذا الكاتب فكراً وروحاً. فمن هو هذا الشاب؟ إنه الأستاذ الدكتور، السياسي، والدبلوماسي، والسفير، والأديب والمترجم الكبير سامي الدروبي.
ولد سامي الدروبي في مدينة حمص بسورية في 27/4/1921، وتوفي في 12/2/1976، فعاش أقل من 55 عاماً. أوفد للدراسة لتحضير الدكتوراه في علم النفس إلى باريس خلال الأعوام 1949-1952. وعين مدرساً ثم أستاذاً في كلية التربية بجامعة دمشق؛ أوفد إلى مصر كمدير للثقافة خلال عامي 1959-1960، ثم عين مستشاراً ثقافياً في البرازيل. وبعد الانفصال، طلب إعادته إلى دمشق فعين وزيراً للتربية عام 1963. وخلال الأعوام من 1963- 1971 عين سفيراً لسورية في المغرب، ثم في يوغسلافيا، ثم مندوباً دائماً لسورية في الجامعة العربية ثم سفيراً في إسبانيا. في عام 1975 طلب إعادته إلى دمشق لأسباب صحية. وظل يعمل في مشاريعه الثقافية والترجمية حتى اللحظات الأخيرة من عمره، وشرع بترجمة الأعمال الكاملة لتولستوي لكن الموت عاجله فلم يكمل مشروعه وأنجز المجلدات الخمسة الأولى منها. وقد بلغ مجموع ما خطته يده من تأليف وترجمة 360.000 صفحة في ثمانين كتاباً.
كان الدروبي واحداً من أعلام المفكرين الذين آمنوا بدور الترجمة في بناء الثقافة العربية الجديدة، وكان شديد الاقتناع بأننا بحاجة إلى مجهود كبير لكي نلاحق العصر الحديث في مستواه العقلي. وهو أول من ترجم إلى العربية أعمال الفيلسوف الفرنسي هتري برغسون، ومؤلفات الفيلسوف الفرنسي غويو، والفيلسوف الإيطالي كروتشه. وقد وصفه عميد الأدب العربي طه حسين فقال “إن سامي الدروبي هو مؤسسة كاملة، أنجز ما تعجز عنه الدول والمؤسسات”. وقد قال المستشرق الروسي أستاذ اللغة العربية بجامعة موسكو لطه حسين حين زاره: “حين قرأت ترجمة الدكتور سامي الدروبي لدوستويفسكي قلت لو كان دوستويفسكي عربياً لما كتب أجمل من هذا”.
من خلال اطلاعه لأول مرة منذ الأربعينيات من القرن الماضي على مؤلفات دوستويفسكي، أدرك سامي الدروبي أن هناك ما يجمعه مع دوستويفسكي. فما الذي كان يجمعهما؟ في حديث شخصي مع د. سامي دروبي قال في لقاء له مع وفد من اتحاد الكتاب السوفييت في دمشق في أوائل السبعينيات، إنه كان يعيش دوستويفسكي في نفسه، حتى أن زوجته السيدة إحسان كانت تعتبر دوستويفسكي ضرّتها الثانية. لنلاحظ الأشياء المشتركة بين الكاتب الكبير والمترجم الكبير: كلاهما لم يكمل الستين من عمره: فقد عاش دوستويفسكي تسعة وخمسين عاماً وعاش الدروبي خمسة وخمسين عاماً؛ كلاهما كانا متعمقين في علم النفس وتغلغلا في أعماق النفس البشرية. فالدروبي هو أستاذ في علم النفس، وله كتب كثيرة من تأليفه، أهمها “علم النفس والأدب”، و”علم النفس والتربية”، “علم الطباع”؛ كما جمع بينهما المرض فدوستويفسكي كان يعاني من الصرع الذي رافقه عقدين كاملين، والدروبي كان يعاني من مرض القلب، الذي رافقه أكثر من عقد.
بالإضافة إلى ترجمته للأعمال الكاملة لدستويفسكي وشروعه بترجمة الأعمال الكاملة لتولستوي، كان الدروبي قد ترجم أعمالاً ومؤلفات للشاعر الروسيين بوشكين “ابنة الضابط” وليرمنتوف “بطل من زماننا”، وللكاتب الروسيين كورولنكو “الموسيقي الأعمى”، وتورغينيف “مياه الربيع”. عدا عن ترجماته العديدة الشهيرة من الآداب الأخرى (“جسر على نهر أندرينا” و”أخبار مدينة سترافنك” للكاتب اليوغسلافي أيفو أندرييفيتش الذي فاز بجائزة نوبل، رواية “كونكاس بوربا” للكاتب البرازيلي ميشيلو دوآسي).
كلمة أخيرة: يعد دوستويفسكي الأب الروحي لجميع أبطال رواياته الرئيسيين، بمعنى أنه كان يشكل نموذجاً بالنسبة لهم. إن عظمة دوستويفسكي ليست في تنبؤاته، بل في رؤاه الثاقبة التي تجلت في رواياته الخالدة؛ وليست في أن التاريخ سار في الطريق الذي تنبأ به، بل في أن أفكاره تجسدت في مدارس واتجاهات نفسية وفلسفية وأدبية، كمدرسة التحليل النفسي والفلسفة الوجودية والرواية المتعددة الأصوات وغيرها. إنه عظيم لأنه كان يرى رسالة الإنسان في خدمة الحقيقة، والخير والجمال، حتى وإن كان هذا الإنسان أكثر الناس بعداً عن الروح العملية. يقول دوستويفسكي في “يوميات كاتب”: أنا أعرف أنني لست إنساناً عملياً… بالطبع، وبسبب الأمور المهمة الجارية… لا وقت، بل ومن السخافة التفكير بما سيحصل بعد عشر سنوات أو في نهاية القرن… إن شعار الإنسان العملي الحقيقي في عصرنا هو ” أنا ومن بعدي الطوفان”، ولكن يحق للناس غير العمليين أن يحلموا أحياناً بالمستقبل…
هذا ما قاله دوستويفسكي قبل مائة وخمسين عاماً، فهل هناك قول أكثر معاصرة وانطباقاً على عصرنا هذا من هذا القول؟