في 1851 كان قد مضى عامان منذ دخول فيودور دوستويفسكي (11 نوفمبر 1821 – 9 فبراير 1881) إلى سجن “أومسك” السيبيري بسبب انتمائه إلى “رابطة بيتراشيفسكي” التي صُنف أعضاؤها على أنهم “متآمرون”. في ذلك العام كتب دوستويفسكي إلى أخيه ميخائيل يصف الأوضاع المأساوية في السجن: “الأجواء في الصيف لا تُطاق. أما في الشتاء فالبرودة أيضًا لا تُطاق. العفن يكسو كل الأرضيات، القذارة على الأرض يصل ارتفاعها إلى بوصة كاملة، ونحن محشورون داخل هذا المكان القذر كالسردين المعبأ في برميل، لا يوجد مكان لنقصده. منذ مغيب الشمس وحتى الصباح. من المستحيل ألا نتصرف كالخنازير. البراغيث والقمل والخنافس السوداء متواجدة في كل مكان، حتى مكيال الحبوب”.
تلك النبذة السوداوية التي حكى فيها الروائي الروسي الأشهر لأخيه عن معاناته في السجن، ليست سوى عينة صغيرة من سنوات أربع قضاها مؤلف “الجريمة والعقاب” معاقبًا في أحد أسوأ السجون الروسية، بسبب حضوره لاجتماعات دائرة بيتراشيفسكي، تلك الرابطة التي كانت تضم مجموعة كبيرة من المثقفين الروس، والتي عُنيت في المقام الأول بمناقشة الكتب الممنوعة في روسية خلال القرن التاسع عشر.
ما هي “رابطة بيتراشيفسكي”؟
تأسست الرابط بداية في 1840، عندما حضر مؤسسها ميخائيل بيتراشيفسكي في جامعة بطرسبورغ مجموعة من المحاضرات التي تتناول الفكر الاشتراكي، وكان الرجل معجبًا بأطروحات الألماني فريدريش هيغل والفرنسي شارل فورييه، ولذلك دعا بيتراشيفسكي معارفه لحضور حلقة نقاشية في منزله حول تلك الأطروحات، هكذا كانت البداية، وضمت الرابطة في بداياتها مثقفين روس من أمثال أوبولون مايكوف، وتاراس شيفتشينكو، وميخائيل شقيق دوستويفسكي وسيرغي دوروف وغيرهم من الأدباء والمفكرين، وبمرور الوقت اتسعت الرابطة حتى أنها ضمت بعض أعضاء مجلس الشعب الروسي، وبعض الضباط من الجيش الروسي. وبحلول العام 1945 باتت حلقة بيتراشيفكي ذائعة الصيت، وكانت حلقاتها تعقد بشكل علني، خصوصًا وأن الانتقادات الصادرة من الدائرة، حول مسألة العبودية، كانت مطلبًا شعبيًا، حتى أن القيصر الروسي نيقولاي الأول نفسه قد صرح بأنه يميل مع هذا الطلب ولا يعترض عليه. لكن هذا لم يمنع الأمن الروسي من وضع أفراد الرابطة وأبرز أعضائها تحت المراقبة الأمنية.
في فبراير من العام 1848، اندلعت أحداث ثورة فبراير في فرنسا، والتي كانت ترمي إلى إزالة الهياكل الإقطاعية من المجتمع الفرنسي، وقادت تلك الثورة إلى تأسيس الجمهورية الفرنسية الثانية، ثم انتقل تأثيرها بطريقة “معظم النار من مستصغر الشرر” إلى دول الجوار في أوروبا. وعلى الرغم من أن التأثيرات الكبرى لتلك الثورة وعدواها قد آتت مفعولًا كبيرًا في أوروبا الوسطى، وتحديدًا في هولندا والدنمارك، إلا أن تأثير الثورة الفرنسية امتد شرقًا أيضًا ليصل إلى الدويلات الألمانية، والنمسا والمجر. ويبدو أن القيصر الروسي نيقولاي الأول قد استشعر الخطر من امتداد عدوى الثورة وزحفها شرقًا إلى حدوده، لا سيما وأن الثورات كانت تندلع بشكل عشوائي ودون تنظيم على أيدي مجاميع من الإصلاحيين والعمال وأبناء الطبقات الوسطى، حاملة سمات اشتراكية وديمقراطية. الأمر الذي دفع نيقولاي الأول إلى حظر الكثير من الكتب والمؤلفات الأوروبية ومنع تداولها في روسيا سواء بلغاتها الأصلية أو مترجمة إلى الروسية. كما حظر جميع المنظمات الفكرية الثقافية ومن ضمنها رابطة بيتراشيفسكي.
وبهذا الحظر، بل وقبله بفترة، بدأت اجتماعات الرابطة تأخذ صفة السرية، وراح الأمن يحاول تشديد الرقابة على أعضاء الرابطة، إلى أن جاء التقرير الأمني الذي رفعه الدبلوماسي والقائد العسكري السابقي أليسكي أورلوف، والذي كان يحظى بثقة كبيرة من القيصر، والذي وصف أنشطة الرابطة وأعضائها بأنهم “ينتقدون السياسة الروسية، وينتقدون الدين” وكان ذلك بعدما ناقشت الرابطة كتاب “رسالة إلى غوغول” لفيساريون بلينسكي، لتبدأ عمليات اعتقال أعضاء الرابطة في 22 أبريل 1849، وقد طالت 60 فردًا من أعضاء الرابطة وفي اليوم التالي، 23 من الشهر جرى اعتقال دوستويفسكي نفسه.
وهكذا بدأت التحقيقات مع المعتقلين، وكان على رأس ذلك التحقيق رئيس الشرطة السرية وكذلك مجموعة من الجنرالات الروس، واستمر التحقيق والمحاكمة مدة أربعة أشهر وفقًا للقوانين العسكرية لا المدنية، انتهت بإصدار حكم بالإعدام على ربع عدد المعتقلين، بينما حُكِم البقية إما بالسجن أو بالنفي. وقد كان حكم الإعدام من نصيب دوستويفسكي.
وعلى الرغم من أن القيصر نيقولاي الأول وافق على طلب بالتماس الرحمة للمحكومين بالإعدام، فإنه أصدر أوامر باستكمال صوري لمراسم تنفيذ الحكم، حتى أن السجناء المحكومين بالإعدام قد اقتيدوا إلى ساحة تنفيذ الأحكام في 23 ديسمبر من العام 1849 مصفدين بالأغلال، ورُفعت عليهم البنادق، وأطلق نفير تنفيذ الحكم، وبقي هؤلاء معصوبي العيون في انتظار الطلقات التي ستنهي حياتهم، لكن بعد انقضاء دقيقة من مراسم تنفيذ الحكم، أُعلن أن القيصر قد رأف بحالهم وخفف الإعدام إلى أحكام بالسجن لفترات تتراوح بين 4 و 8 سنوات، على أن يجري إرسال المحكومين بعد انقضاء تلك المدة إما إلى الخدمة العسكرية، أو النفي.
سجن أومسك
قضى دوستويفسكي 4 سنوات في سجن أومسك، عانى فيها ويلات ذلك المكان القاسي، وكان الرجل أصلًا يعاني من الصرع، فزادت عليه النوبات وباتت أكثر سوءًا، وأصيب إلى جانب ذلك بعدة أمراض، مثل البواسير وبعض الأمراض الجلدية بسبب قذارة المكان، فقد كان هناك حمام واحد يخدم 200 سجين. وهناك حُرِم دوستويفسكي من قراءة أية كتب عدا الكتاب المقدس (العهد الجديد)، وبقي مقيد اليدين والقدمين منذ تاريخ دخوله إلى السجن وحتى تاريخ خروجه منه، وفقد الكثير من الوزن وشحب وأصيب بالهزال، وقد كان يجري نقله من حين لآخر إلى المستشفى ليتلقى العلاج ومن ثم يعود إلى السجن ليواصل محكوميته.
ولعل أكثر مآسي دويستوفسكي في السجن، تمثلت في حالة العداء والكراهية التي كنّها له الكثير من السجناء، بسبب انتمائه لطبقة اجتماعية أعلى منهم، وكذلك عانى الرجل من ضيق أفق وضحالة غالبية المحكومين، وبذلك تحول السجن إلى نوع من العذاب المعنوي، بخلاف العذاب الجسدي الذي عايشه بسبب قذارة المكان وبسبب تفاقم نوبات الصرع التي كان يتعرض لها.
وبعد 4 سنوات من الحبس والمعاناة، وتحديدًا في 14 فبراير 1854، أُطلق سراح دوستويفسكي، ليتم إرساله على الفور للخدمة ضمن الجيش الروسي في سيبيريا، مواصلًا رحلة العذاب التي بدأت بسبب انتمائه لرابطة بيتراشيفسكي، واستمرت خدمته في الجيش الروسي ضمن فيلق الجيش السيبيري كتيبة الخط السابع مدة 5 سنوات، انتهت في 1859، وذلك بسبب تدهور صحته بشكل يمنع تأديته واجب الخدمة العسكرية.
ويبدو أن الانعتاق من ذلك العذاب المتواصل، وبداية تحرر صاحب “الإخوة كرامازوف” كان فرصة جيدة له وأخيرًا، ليخرج إلى النور ما عاينه وقاساه في السجن، فنشر دوستويفسكي روايته “بيت الموتى” التي تناولت عالم السجن، والتي نُشرت مسلسلة في مجلة “فيرميا” بداية من 1861 (صدرت من المركز الثقافي العربي بعنوان مذكرات من البيت الميت)، وكان يكتبها أثناء فترات زياراته لمستشفى سيبيريا إثر قدومه من السجن، واحتفظ بمخطوطها لدى أحد موظفي المستشفى من المعجبين بكتاباته. لينسدل الستار، عن تلك المأساة الرهيبة التي بدأت في 1848 واستمرت مدة 11 عامًا بين المحاكمة والسجن وحكم الإعدام ثم السجن مجددًا وانتهاءً بالخدمة العسكرية.