صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمان، كتاب دينا رزق خوري “العراق في زمن الحرب: الجندية والاستشهاد وإحياء الذكرى”، وهو كتاب من ترجمة أيمن ح. حداد. ويتألف من 420 صفحة، ويتناول قصة انخراط العراقيين في الحرب على مدار ثلاثة وعشرين عامًا من حكم البعث، ويعالج مسألة مفادها أنّ الحرب قد غَدت أمرًا دائمًا، وهي مسألة وثيقة الصلة بالحاضر على نحوٍ مأساوي؛ إنه تاريخ اجتماعي لسياسات الحرب في “عراق البعث”، وليس تاريخًا عسكريًا للحرب الإيرانية – العراقية أو حرب الخليج (1990-1991)، كما أنه ليس تاريخًا سياسيًا لحزب البعث وزعيمه صدام حسين.
تهتم المؤلفة في هذا الكتاب، باعتبارها مؤرّخة اجتماعية، بتحليل الحياة اليومية للعراقيين الذين عاشوا الحرب، بوصفهم جنودًا وعائلات ومواطنين، في دولةِ حزبٍ واحدٍ، بيروقراطيةً عازمة على شنّ حروب الأمن القومي ومكافحة التمرد في الوقت ذاته. وتعتمد في كتابها على السجلات الفريدة للدولة البعثية التي كانت متوافرة لدى “مؤسسة الذاكرة العراقية”، وهي تتضمن سجلات بيانات شمال العراق (صور رقمية لأكثر من مليونين ونصف المليون وثيقة)، ومجموعة وثائق القيادة القطرية لحزب البعث (نحو ثلاثة ملايين صفحة من الوثائق). ثمّ إنها لم تغفل إجراء المقابلات مع جنود ومثقفين عراقيين ممن قاتلوا في الحروب أو شهدوا انتفاضة عام 1991، ممّن يتحدرون من قطاعات مختلفة من المجتمع العراقي، ومن مناطق عراقية مختلفة.
حروب العراق في عهد البعث
شهد سكان العراق ثلاثة أنواع من الحروب على امتداد ثلاثة وعشرين عامًا: الحرب التقليدية التي اندلعت مع إيران، والتي جرت من خلال وحدات كبيرة من المشاة بين دولتين تمتلكان موارد متكافئة؛ وحرب الخليج الأولى التي تميّزت بالاستخدام غير المتناسب للقوة وتكنولوجيات معقدة وعنيفة؛ ثم ما أطلقت عليه الباحثة جوي غوردون “الحرب الخفية” التي أدمجت استخدام العقوبات الاقتصادية مع الغارات الجوية الجراحية. لا يوفر هذا العرض الموجز للتاريخ السياسي بشأن هذه الحروب وتأثيرها في هياكل السلطة السياسية للنخبة العراقية، سوى لمحة خاطفة عن التكلفة البشرية التي نشأت عنها، والتي لا يمكن تقديرها.
تبرز في المقام الأول مسألة تحديد عدد المقاتلين الذين قُتلوا. والمصدر الوحيد المتوافر للباحثين في الوقت الحالي هو الإحصاءات التي أجراها حزب البعث للطلاب الذكور المتخرجين في المدارس في خمس عشرة محافظة من محافظات العراق الثماني عشرة بالنسبة إلى السنة الدراسية 1998-1999، وتُدرج هذه الإحصاءات عدد القتلى في أسرة كل طالب من (الطلاب في أثناء الحرب الإيرانية – العراقية، وحرب الخليج الأولى). وهي توفر تقديرًا عامًّا لنسبة القتلى في كل محافظة، إلا أنه يجب توخّي الحذر في استخدامها. فحزب البعث لم يُجرِ الإحصاءات في المدارس كلها، كما أن الإحصاء لم يتضمن عدد الجنود الجرحى والمفقودين. وتمثل الإحصاءات قائمة مشتملة على من يعتبرهم النظام “شهداء”. ومع ذلك، توفر هذه السجلات مقياسًا مفيدًا. ويتسم عدد الضحايا بأنه غير موزع بالتساوي بين مناطق العراق؛ إذ هناك عدد كبير من الضحايا من المحافظتين الجنوبيتين ذي قار والمثنى، ومن محافظتَي الوسط ديالى والتأميم، مقارنةً بسائر المحافظات. أما نسبة الخسائر بين سكان بغداد، فأقل نسبة في البلد؛ إذ بلغت 4.6 في المئة، في حين سجلت محافظة المثنى أعلى نسبة؛ إذ بلغت 10.5 في المئة. وبصفة عامة، كانت نسبة الضحايا في المناطق الريفية وفي المناطق الحضرية الفقيرة أعلى من المعدل العامّ. وعلى الصعيد الوطني، هناك ما معدله ستة وثلاثة أعشار من المقاتلين لقوا حتفهم بالنسبة إلى كل مئة طالب ذكر مسجّل. وبلغ عدد سكان المحافظات الخمس عشرة التي جرت فيها الإحصاءات نحو عشرين مليون نسمة في عام 1977. وعلى افتراض أن نصف السكان هم من الذكور، ففي وسعنا أن نقدّر عدد الخسائر في الأرواح بين المقاتلين في أثناء الحربين بنحو ستمئة وثلاثين ألف قتيل. وهذا يعادل 3.2 في المئة من مجموع السكان، وهي أعلى نسبة من الضحايا بين الجنود، مقارنة بالتعداد السكاني في أي حرب من الحروب الكبرى التي جرت في القرن العشرين.
كانت الخسائر في الأرواح بين المدنيين في هاتين الحربين كبيرة أيضًا. وأدت عمليات القصف التي شنّتها إيران وقوات التحالف، إلى خسائر في الأرواح وإصابات بين المدنيين، إلا أن عددها لم يصل إلى عدد الخسائر التي تسبب بها النظام نفسه؛ إذ أدّت سياسات الإبادة الجماعية التي انتهجها نظام البعث ضد السكان الأكراد إلى مقتل عشرات الآلاف من المواطنين.
إضافة إلى ذلك، تشير التقديرات إلى مقتل آلاف عدة من الأشخاص في أثناء قمع انتفاضة 1991، وإلى أنّ الحروب شرّدت مئات الآلاف من العراقيين.
وتشير بعض التقديرات إلى أن السلطات العراقية رحّلت نحو مئتي ألف عراقي لأنهم ذوو “تبعية إيرانية”، وأنّ مئات الآلاف غيرهم قد شُرِّدوا في أثناء حرب الخليج الأولى وفي أعقابها. وفي نهاية التسعينيات، بلغ عدد الذين غادروا العراق نحو ثلاثة ملايين مواطن.
شهد تاريخ العراق في عهد البعث سلسلة من النوائب التي نجمت عن أنواع مختلفة من الحروب. ولا يوفر التاريخ السياسي لهذه الحروب والخسائر البشرية التي نجمت عنها إلّا لمحةً خاطفة عن التأثير العميق الذي تركته هذه الحروب في الحياة اليومية للعراقيين، وكيف أنها حوّلت الأسلوب الذي انتهجته بيروقراطية الدولة والحزب لتعبئة السكان وحكمهم.
الجبهة الداخلية والحرب العادية
بعد بضعة أسابيع من انتهاء الأعمال العدائية مع إيران، أعرب كوادر الحزب عن انشغالهم العميق إزاء تبعات الحرب السياسية والأمنية والاجتماعية.
وتمثّلت أجندة الحزب السياسية في البناء على “النصر” من خلال إدماج معاني “قادسية صدام” في البرامج التعليمية لكوادر البعث وعموم السكان. وكان من المهم بالنسبة إلى الحزب أيضًا أن يبقى متيقظًا لملاحقة الفارّين من الجندية ومراقبة النشاطات العدائية. إلا أنّ تأثير الحرب الاجتماعي أثار انشغالًا عميقًا؛ فقد هدّد تسريح مئات الآلاف من الجنود، دفعة واحدة، بإقلاق السلم الاجتماعي والسياسي الذي سعى الحزب للمحافظة عليه في الوطن. لذا، عقدت الفروع المحلية والمنظمات الشعبية اجتماعات مع كوادر الحزب لمناقشة سُبل إدارة سلوك المواطنين الذكور الذين شاركوا في العمليات العسكرية. وكانت مسألة التعامل مع تأثير الحرب في البُنى العائلية على القدر نفسه من الأهمية أيضًا. وعندما أصدرت وزارة الداخلية تقريرًا في عام 1988 بشأن تزايد عدد جرائم القتل، ولا سيما جرائم الشرف، سارع قادة فروع الحزب المحلية إلى ردّ سبب هذه الزيادة إلى غياب الذكور عن عائلاتهم في أثناء الحرب. وفي نهاية الحرب العراقية – الإيرانية، تطوّرت فروع حزب البعث المحلية لتصبح أجهزة بيروقراطية صغيرة ذات أهمية حاسمة بالنسبة إلى إدارة تبعات الحرب الاجتماعية والسياسية. وكان الترهيب والمراقبة والعنف من بين الأساليب التي يستخدمها الحزب، والتي مارسها قادة الحزب لتوسيع مهمات الحزب وسلطته في حقبة الحرب. وكان دور الحزب في المناطق الشمالية والجنوبية من العراق قد عمّق الاختلافات الإثنية، وأوجد انقسامات لا يمكن رأبها في المجتمع العراقي. ومع ذلك، من المهم ألّا ننظر إلى عملية برقرطة الحزب وأمننته بوصفها، ببساطة، عملية كان الشعب ضحية فيها لدولة متجانسة ولهيكل حزبي عازم على إخضاع جوانب حياة المواطنين كلها لسيطرته.
ففي حين كان ذلك هو بالتأكيد ما تهدف إليه الأيديولوجيا الأساسية لدولة البعث، كان الرجال والنساء الذين أداروا شؤون الحياة والموت للسكان الخاضعين لسيطرتهم ماهرين في استخدام لغة الحزب، وكيّفوا هذه اللغة لتلائِم الأوضاع المحلية وتراعي القيود المحلية. إضافة إلى ذلك، كان هؤلاء الرجال والنساء ينحدرون من صفوف السكان الخاضعين لسيطرتهم، سواء أكانوا أكرادًا أم شيعة. وأدى السكان المتأثرون دورًا في المطالبة باستحقاقاتهم، وطلبوا من الحكومة والحزب تلبية حاجاتهم اليومية. وربما كان الأمر الأهم هو التحول في ما اعتبرته الدولة شأنًا سياسيًا؛ ففي أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، ما عاد النظام يُصنّف سياسات الفرد حصريًا في خانة الاختيار بين أن يكون بعثيًا أو “مخرّبًا”، بل بات ينظر إليه على نحو مطّرد بصفته جنديًا أو فارًّا من الجندية.
ذاكرة للمستقبل
أضعفت حرب الخليج الأولى المعنى البطولي للاستشهاد في سبيل الأمة؛ إذ بات الجنود والمدنيون ضحايا لقصف جوي في حرب اختلفت فيها قواعد الاشتباك اختلافًا جذريًّا عمّا كان سائدًا في الحرب العراقية – الإيرانية.
إضافة إلى ذلك، أدّى الشقاق والعنف الذي نتج من الانتفاضة، ولا سيما استخدام الجيش في قمع السكان، إلى تحطيم نظرة العراقيين إلى الجيش باعتباره مؤسسة وطنية. وأُزيح الخطاب، الذي اعتبر الجندي القتيل بطلًا يُدافع عن الأمة، لمصلحة خطاب يهتم بالمدنيين الضحايا. وقد رعَت الحكومة العراقية هذا الخطاب، إلا أنها استندت في ذلك إلى مشاعر السكان الذين عانوا الموت والحرمان بعد حرب الخليج الأولى. وعلى الرغم من التصدّعات العميقة التي نشأت بين العراقيين بسبب الانتفاضة وقمعها، فإنهم اتّحدوا بوصفهم ضحايا، وفي صمودهم في وجه العدوان الأميركي والحظر الذي فرضته الأمم المتحدة، وكانوا ضحايا لخطط عدوّ أقوى منهم كثيرًا ونظام دولي ظالم. وأتاح موضوعَا التفاوت في القوة وغياب العدالة قبولًا شعبيًّا في العراق بشأن مساعي الحكومة لتشكيل شعائر الحداد حول ملجأ العامرية. وعلى الرغم من سعي الحكومة لإيجاد خطاب وطني متعلق بمعاناة العراقيين الاضطهاد الدولي – بسبب إدارة قوات التحالف للحرب وبسبب الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة أيضًا – فإنها لم تتمكن من احتكار تحديد معنى “الاستشهاد”. وواجه هذا الخطاب تحديات كبيرة داخل العراق وخارجه من أطراف وجماعات أنشأت معنى بديلًا لوقوع العراقيين ضحايا، خصوصًا في ما يتعلق بالانتفاضة وحملة الأنفال وقصف حلبجة. وعملت هذه الأطراف والجماعات، خلال التسعينيات حتى سقوط النظام، على استخدام لغة حقوق الإنسان والأوضاع الإنسانية لاستعطاف المجتمع الدولي، والمطالبة بملاحقة النظام قضائيًا؛ بسبب ارتكابه جرائم ضد الإنسانية. وصعّدت هذه الجماعات السياسية إلى السلطة في أعقاب الاجتياح والاحتلال الأميركي، وأتاح لها تأكيد خطابها الخاص المتعلّق بالاستشهاد.