ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نُشر كتاب “النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت” في أيلول / سبتمبر عام 2018 لأستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت الدكتور شفيق الغبرا (1953-2021). يحتوي الكتاب على مقدمة وعشرة فصول بالإضافة إلى خاتمة وببليوغرافية ضمن صفحاته البالغة 342.
يعود أصل الكتاب إلى كتاب مؤلفه الصادر باللغة الإنجليزية عام 1987 بعنوان “الفلسطينيون في الكويت: العائلة وسياسات البقاء”، لكنه يضيف في المقدمة أن ما يميز هذه النسخة عن تلك هو الإضافات التي أجراها ما بين الأعوام 1990-1991 وهي الفترة التي شهدت نكبات جديدة في الكويت والخليج. وباستعراض فصول الكتاب العشرة، نقرأ في الأول مراجعة أدبية عن الاقتلاع والشتات، حيث يذكر الكاتب أن دراسته تركز على دور الروابط على مستوى العائلة بالتحديد، وعلى مستوى علاقات القرية والبلدة في الحفاظ على النسيج الاجتماعي الفلسطيني في بلدان جديدة (ص14).
يؤكد الغبرا على أن الفلسطينيين الذين وفدوا إلى الكويت لم يصلوها كلاجئين باحثين عن مأوى مباشر أو هربًا من المجازر الصهيونية، بل كانت بمثابة محطة ثانية في رحلة لجوء الفلسطينيين بعد النكبة عام 1948. جاء هذا الكتاب نتيجة مقابلات عديدة بلغت حوالي 250 ساعة تسجيل أجراها الكاتب مع الرواد الأوائل والمؤسسين والمثقفين الذين وفدوا إلى الكويت، كما أجرى مقابلات مع مجموعة من الفلاحين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى الكويت من العراق كما كان هناك مقابلات أخرى مع فئات مختلفة من الفلسطينيين المتواجدين في الكويت. يوضح الكاتب أن دراسته هذه جاءت لتسد ثغرة في الكتابات عن موضوع الهجرة والشتات وذلك بتركيزها على الأسرة وروابط التضامن الصغرى بين اللاجئين الفلسطينيين.
لماذا الكويت؟
يركّز الغبرا في الفصلين الثالث والرابع من الكتاب على النخبة الفلسطينية المهجرة ودورها في الحفاظ على التماسك العائلي، كما يوضح أحد أهم أسباب اختيار الكويت كمكان لاستقرار اللاجئين الفلسطينيين فيه، حيث كانت الأكثر انفتاحًا والأكثر قومية وعروبة في منطقة الخليج، كما أن الفلسطينيين وجدوا فيها استعدادًا للنهوض والتقدم الأمر الذي شجعهم على التوجه إليها. كما أن النُخب الكويتية رأت في قدوم الفلسطينيين مساهمةً كبيرة في الحفاظ على عروبة الكويت إبّان استعدادها للاستقلال عن بريطانيا، بالإضافة إلى أنها كانت ترغب بالاستفادة من الخبرات الفلسطينية المختلفة ولو بشكل مؤقت لحين تأمين عودتهم إلى بلادهم، كما كان الجميع يتوقع حينها.
يرى الكاتب أن وصول هذه النخبة إلى الكويت أدّت إلى تكوين مجتمع فلسطيني جديد، فيذكر أسماء العديد من الذين أسسوا وساهموا في نهوض دولة الكويت في شتى المجالات، كالتعليم والشرطة والأحوال المدنية والجيش والقطاعات الأخرى، فنقرأ عن مساهمات خيري الدين أبو الجبين وهاني القدومي وعبد الكريم الشوا وعبد المحسن القطان وناظم الغبرا ووجيه المدني وغيرهم الكثير.
يستنتج الغبرا أن الفلسطينيين الأوائل الذين أتوا إلى الكويت قد شاركوا بصورة أو بأخرى، عن قصد أم عن غير قصد في تحوّل اجتماعي واسع شمل طبقات المجتمع الفلسطيني التقليدي وتشكيلاته (ص 114)، وأن هذه الشريحة الجديدة من الفلسطينيين قد وجدت أن التعليم والاجتهاد في العمل هما الوسيلتين الوحيدتين للبقاء وليس العائلات المتنفذة والأملاك والامتيازات العائلية.
في الفصل الخامس نقرأ عن قصص وصول الفلاحين الفلسطينيين إلى الكويت عبر التهريب، حيث كان إصدار تأشيرة دخول رسمية أمرًا بالغ الصعوبة لمن لا يحمل المؤهلات الكافية، أو أوراقًا ثبوتية لتقديمها. ومثلما كانت النخبة المهاجرة إلى الكويت، كان معظم المهاجرين من أبناء القرى من فئة الشباب، في العقد الثالث من أعمارهم ومنهم من كان أصغر، وهم الذين أنقذوا عائلاتهم من تبعات كارثة النكبة عام 1948. يؤكد الكاتب على أن البعد الأهم في تجربة الريفيين الفلسطينيين في الكويت قد ارتبط بقدرتهم على التكيف والتفاعل وطنيًا مع النخبة الفلسطينية التي سبقتهم هناك، والتي أدّت في نهاية الأمر إلى نشوء بنيان اجتماعي اقتصادي وطني فلسطيني متين، وهو ما يعتبر أساسًا في تطور الشتات الفلسطيني.
في الفصول التالية، يبرز الغبرا دور العائلة وأهمتيه في إعادة تأسيس هذا الكيان الاجتماعي بعد التهجير، ويقدم ثلاثة أمثلة لعائلات قدمت واستقرت في الكويت وهي عائلة قمر، وسمّور وأبو الجبين، كما يبين مقدار التشتت في كل منها من حيث أوراقهم الثبوتية والجنسيات المختلفة التي يحملونها. لعبت العائلة دورًا مهمًا في إعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني بعد النكبة، وقد أثّرت الأزمات والتحديات في بيئة جديدة عليهم على زيادة تماسك الشبكات والروابط العائلية الفلسطينية وهي التي كان لها أثر كبير لاحقًا في تشكيل وتأسيس جزء من الهوية وحركة التحرر الوطني الفلسطيني.
غزو الكويت، ورد الفعل الفلسطيني
يخصص الكاتب الفصل التاسع لبيان أثر غزو الكويت على الفلسطينيين هناك، وينطلق من الأحداث التي سبقت الغزو وأثرها على علاقة الفلسطينيين مع السلطات الكويتية، فلا يغفل عن أثر حرب عام 1973 والمخاوف التي أثارتها نتائجها من احتمالية التوصل إلى اتفاق عربي – “إسرائيلي” يُفضي إلى توطين الجاليات الفلسطينية في أماكن إقامتهم، فيتضح من ذلك مخاوف اختلال التوازنات الديموغرافية التي أثرت بشكل كبير على الوضع القانوني للاجئين / المهاجرين الفلسطينيين في الدول العربية.
لم تكن أحداث أيلول عام 1970 في الأردن ولا الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت عام 1976 وما تلاها من أحداث لغاية خروج الفلسطينيين من لبنان عام 1982 سهلة المرور على فلسطينيي الكويت، بل خلقت رهابًا لدى حكومة الكويت أجبرتها على تشديد الخناق على نشاط الجالية الفلسطينية هناك، الأمر الذي أدّى إلى تعزيز الشعور بالاغتراب لديهم بحلول العام 1990.
يغوص الغبرا في تفاصيل مواقف الفلسطينيين المقيمين في الكويت تجاه غزو صدّام البلد الذي يقيمون فيه، فيلخص لنا ذلك بأنهم انقسموا لثلاثة آراء، متعاطفون مع العراق، معارضون للغزو، ومحايدون تجاه ما يحدث. يحاول الكتاب تفسير كل موقف تم اتخاذه من قبل الفلسطينيين المقيمين في البلد الذي يجري احتلاله من بلدٍ شقيق، فالذين أيدوا العراق سادت فيهم القيم الوطنية والقومية ويذكر الغبرا أن أغلبهم كانوا من الطبقة الأقل حظًّا اقتصاديًا، والتعاطف الذي شعروا به حين التقوا بنقاط التفتيش التي نصبتها قوات “الاحتلال” العراقي. الذين وقفوا مع سيادة الكويت ضد الغزو العراقي، فإن معظمهم كان يُقارن بين احتلالٍ عاشه وذاق مرارته، واحتلالٌ جديد يعيشه، فكان بإمكانه استشراف نتائج هذا الفعل على مستقبله، ومستقبل الدولة التي استضافته. الفئة الثالثة التي فضّلت التزام الحياد، كان موقفها ينبع من عجز تعيشه ولا تريدُ الاعتراف به، ففضلت أن تتخذ موقفًا رماديًا لكيلا يتم احتساب رهانها على جهة ما قد تخسر.
ما يهم في مواقف فلسطينيي الكويت تجاه الغزو هو أن هذه المواقف ربطت احتلال بلادهم واستعادت كل ذكريات النكبة بالإضافة إلى الرغبة في استمرار المصالح المشتركة مع دولة الكويت وشعبها، لكن الواقع كان مغايرًا لما يرغبون، فقد دفع فلسطينيو الكويت ثمن مواقف السياسيين الذين اتخذوا طريقًا لم تتقاطع ومصالح الأغلبية المقيمة في الكويت. ومن المهم هُنا أن نتذكر أنه خلال هذه الأزمة تم تصنيف الشعوب طبقًا لمواقف حكوماتهم، بغض النظر عن الانقسامات الفعلية في صفوفهم، فاعتبر الفلسطينيون بالمجمل مؤيدون للعراق دون الالتفات لشريحة واسعة كانت تقف موقفًا صارمًا ضد الغزو.
يبرز الغبرا في الفصل التاسع من الكتاب الدور المهم الذي لعبه “علي الحسن” أبو أيمن في الحفاظ على علاقة الفلسطينيين مع الكويتيين، حيث كان ضد إقامة أي تظاهرة فلسطينية تأييدً للعراق كما أن تحركه السريع منع السلطات العراقية من إعدام اثنا عشر فلسطينيًا من أنصاره تم اعتقالهم بتهمة دعم المقاومة الكويتية.
ما بعد التحرير
بحلول النصف الأول من عام 1992، انخفض عدد الفلسطينيين من 150 ألف إلى حوالي 30 ألفًا، ويذكر الكاتب أنه خلال تلك الفترة، سيطر على القرار الرسمي في الكويت هاجس التقليل من عدد الفلسطينيين، وليس فقط الفلسطينيين، بل كل الجاليات الذين وقفت دولهم ضد قرار الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت.
لم تكن مغادرة الفلسطينيين سهلة، خصوصًا حملة الوثائق المصرية، وهي الوثيقة التي لا تخوّل حاملها العودة إلى غزّة عن طريق مصر بل ولا تعترف بها السلطات المصرية أساسًا. عاش الفلسطينيون في الكويت شتاتًا جديدًا بعد أن كانوا قد أسسوا فيها قاعدة اجتماعية واقتصادية ووطنية مهمّة جدًا، وكان لها الأثر الكبير في انطلاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني ودعمه ماديًا ومعنويًا. لقد اكتشف الفلسطينيون الذين جاؤوا إلى الكويت أنه بالإمكان التكيف مع أي بيئة جديدة اعتمادًا على قيمهم وعاداتهم ونمط الحياة الذي تعودوا عليه في قراهم ومدنهم التي تهجروا منها.
يعتبر هذا الكتاب / الدراسة ركيزة أساسية في فهم السياق التاريخي للوجود الفلسطيني في الكويت منذ النكبة عام 1948 وحتى دخول القوات الأجنبية لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ويسرد الغبرا تفاصيل مهمّة لم تُذكر من قبل حول طبيعة الحياة في الكويت وعلاقة الفلسطينيين مع الشعب الكويتي وحكومته.