أمامي طريقٌ مزدهرٌ بالأشواك، المشي فيه ليسَ من بين الخَيارات الأسهل توقعًا، هذا إن كانَ خيارًا في البداية، لكن الشوكَ يصيرُ أكثر لينًا حين نقصُّ عليه ما عشنا من خطواتٍ أودتنا إليه.
لا.
هذا كذبٌ وهراء، فلن تلينَ أيّ قسوة كانت لمجرد سماعها قصّة تافهة، ولن يصيرَ الطريق أسهل لأننا نعتقد أننا من الفئة الجيدة من البشر.
سنأكل الشوك على قسوته ومرارته، وسنتذكره بعد أن نصل إلى نهاية هذا الدرب.
وقفتُنا على الجهة الأخرى أحياء، دليلٌ على تحققينا ما كنّا نعتقدُ أنه مستحيل، وإثباتٌ آخرٌ على أن كل الدعوات التي رفعناها للسماء لنصل إلى نومتنا الأخيرة، لم تجد من ينفذها.
حين يغدو الموت طموحًا، تقررُ الحياة أن تختار أبسط شكل لها، لكنّه الأكثر تعقيدًا واستنزافًا.
…
تمشي الساعات على سككٍ محددة، باردة وصامتة، لا تأبه بتأثير حرارة السماء المكشوفة على قلوبنا، كرهنا الصباحات الرمادية في الخريف، وتمنيناها في الشتاء الطويل.
تعلّمنا شتاءً بعدَ شتاء، أن الغيم قد يكون السبب في ابتسامة عابرة حين نراه يحاولُ حمايتنا من حروقِ البرد، وتعلّمنا أن نقدّر الفرق بين مكانين يفصلُ بينهما خشبٌ قديم ومقبضٌ معدني بارد.
علّمتنا غُيوم الشتاء المعنى الحقيقي الذي تغنّى به كل الشعراء حين حاولوا وصف دفئ حضنٍ نحتاجه، ونعيش لنناله، حَلمنا به طويلًا وكثيرًا، وفي اللحظة التي قرر دولابُ الحظ أن يقف عندنا؛ نسينا كلّ ما حضّرناه لنستقبله وعُدنا نتعلمُّ ترتيب الحروف من جديد.
في تلك اللحظة، كانت أمنيتنا الوحيدة أن تأكلنا الشمعة التي وضعناها في زاوية المكان كشاهد يحترق ولا يعرف أثره أحد، ارتبكنا فحركّنا هواء الصمت، عشنا اللحظة التي كان فيها قلبنا يُحضَنُ، وحَضّنا فيها قلبًا حقيقيًا للمرّة الأولى.
لحظّات أولّ كلِّ شيء، ليسَ كمثلها شيء.
حين يعترفُ العالم بأن العُمر هو ما نعيشهُ من أحضان، لكانت الحياة أجمل، وأقصر.
ما فائدةُ ثمانينَ أو تسعين عامًا جافّة تمرُّ علينا على أمل التقاء أضلاعنا بتلك التي تُكمل الجزء المفقود منها، ومنّا؟
…
حينَ واجهني السؤال الأول في استمارة تفقدِّ الحياة السنوية التي ترسلها دائرة التقاعد العام، لم أتردد في كتابة اليوم والشهر والسنة، ولو طلبوا منّي الدقيقة والساعة والثانية التي لامسَ رأسها كتفي، لوصفتها كأنها تحدث الآن، لكن ورقة الإجابة لم تحتمل كل هذه التفاصيل، كأن العالم لا يهتم بهذه التفاصيل.
نتعاملُ مع الأيام كأنها حدائقٌ تُزهرُ فرحًا، وتعاملنا، بالمقابل، كأن لا روحَ فينا ولا ضحكات تنتظرُ لحظة خروجها لتعلن للجميع أنها تستحقُ أن تُسمع.
نحن الضحكات التي غادرت صدورنا حين ضاقت أنفاسنا، ونحنُ كلّ ابتسامة حقيقية لم نستطع ربطَ أطرافَ شفاهنا لنمنعها.
…
الفرقُ بين التواريخ المكتوبة على الشهادات الرسمية ليست إلاّ أرقامًا تُستخدمُ في الدراسات الاكتوارية لنصبح جزءًا من تقرير سنوي لن يقرأه أحد.
فرقُ الزمنِ بين فرحٍ نعيشه وسنعيشه ستسهّله الآلهة، لأنها تتفهم معنى أن نقضي أعمارنا وحدنا، نبحثُ عن كل هذه التفاصيل التي ستشكلّنا.
الوقتُ الذي نقضيه ونحنُ نفكرُ بما نرغب ولحظة شعورنا به هو محاولاتٌ بائسة لفهم خوارزمية التكرار، التكرار الجديد الذي لا يأتي بشيء مختلف سوى شطب يوم آخر من التقويم السنوي، التقويم الذي نشتريه لنمزق أيامه ونلقيها في السلّة السوداء المخصصة لإعادة تدوير الكرتون، والأيام، والأحلام… إلخ.
في النهاية سنحضنُ الدقائق التي عشناها، لا تلك التي مرّت علينا بعاديّة تامّة.
…
طريقي مزينٌ بأشواك تضيء.
تضيء كل عتمةٍ حاصرتني وجففت حلقي.
لم نكن نعلم أثر الأشواك التي ذقناها إلاّ حين عشنا ما أردنا في لحظتها.
كسحبة السيجارة الأولى، أولُ عضوٍ أنثويّ رأيناه، ذقناه، أولُ كَفٍ تركَ أثرًا على وجهنا، أولُّ حادث سير، اعتقال، ظلم، قُبلة، راتب شهري، بيانٌ ضريبي، بطاقة ائتمان، حضن، أولُّ موتٍ وعينا عليه، ذهابنا للمدرسة مشيًا، أولُّ ظلمٍ تعرضنا له، بقاؤنا في البيت وحدنا، أولُّ الأحلام، طعمُ الكحول، أولّ عودة إلى البيت بعد منتصف الليل، سؤال المحقق المفاجئ، أول حقيقة، مواجهة النظام على أرضٍ باردة، أولُّ اعتراض، مذاق النهد الأول، أن تُرفض، أن تُقبل، أن تُشتَهى، أن تُخذل، أن تخون، أن تُخان، أن تراهن على كل ما تبقى لك من أيام على هذه الأرض لتكونَ راضٍ عن دينِ الحب الذي تعيشه لمن تحب، لكن شوكةً صغيرة دغدغت حلقَ المنطق، فصرتَ خارجه، ولم تجد يدَا واحدة ممدودة لتنشلك.
الشوكُ قاسٍ بطبيعته، هو كل ما هو، مثلنا، نحنُ كما نحن، ندّعي كل ما لا نملك، نتوهمُ أننا هناك، وأن بالونَ الثقة الذي اختلقناه وعشناه، لا يملك شيئَا إن اقتربنَا من طرفِ شوكة عابرة.
حقيقتنا أضعف من مواجهة رأس مدبب متوجهٌ إلى ما نعتقدُ أننا نملك القدرة على هزمه. تذوبُ كل مهارةٍ تعلمناها للدفاع لنصد أي اعتداء نتعرض له حين تكونُ الركلة موجهةٌ لوهمٍ عشناه، وعززته مجاملات كاذبة صدقّناها.
…
يولدُ الإنسان باهتًا، وحين تتاح له فرصة الاختيار، هناك من سيختار أن يكون كالشوك، مؤذٍ، ولا فائدة له، أو محايدًا، لا دورَ له.
…
حضنُ غيمة واحدة تكفينا لتوقف السماء لعبتها الموسمية بتجميد ما تبقى فينا من كلمات.
حضنٌ واحدٌ يكفينا، لنحتفظَ بورقة الرزنامة السنوية لما تبقى من روائحٍ سنتذكرها ونشعر براحة لأننا خففنا الضغط عن ماكينات تدوير الورق.
…
حين نتمكن من إعادة تدوير الأحضان التي عشناها، سترخي الأيام حبلًا جديدًا لنتمسك به،
فنعيشُ أطول،
وستكون الحياة أجمل.