[ذِكرٌ]:
وَبُعِثْتُ أقْتَفِي هجرَتِي لِلقَيْروَانِ وَقَد سَبَتْنِي في لَظَاهَا أغْبرَا
قَرَّتْ بهَا الأعْيَانُ مُنْقَلَبًا وَجَادَتْ في زَوَاياهَا الولايَةُ عَنْبَرَا
وطَوَى المَغِيبُ ثِيابَهُ خَوْفًا عَلَيْهَا، من قَنَادِيلِ الصَّبَاحٍ أنْ تُنْشَرَا
وتَآلَفَتْ وتَخَالَفَتْ حَتَّى اشْتَهَتْ نَفْسِي بِهَا قَدَحًا وَخَمْرًا مُحْضَرَا
النَّاسُ في غَفْوِ الدُّجَى تِطْوَافُهُم، وأنَا بِرَابِعَةٍ أطُوفُ تَحَسُّرَا
ثَمِلُ المَسَاكِنِ أَشْتَكِي أطْلالَهَا، قَدْ ضَلَّ مَنْ أمْسَى يَهِيمُ تَذَكُّرَا
فلكَمْ أصَاخَ لِصَوْتِهَا وَجْدِي ولَيسَ له شِفاءٌ بِالعَزَائِمِ لوْ بَرى
قدْ عَرَّفَتْنِي بالهَوى حتَّى رَمَتْنِي فوقَ نَارٍ، شَقِيًّا مُنْكَرَا
فَوَلِجْتُ قلبي حِينَها أسْتَوقِفُ الأسرَارَ : مَهْلًا يا نَدِيمًا مُخْبِرَا
قَدْ نُبْتَ في أسْوَارهَا حَسَنَ الشَّذَا وأَتَيْتَ قَلْبًا مُغرَمَا مُتَأخِّرَا
هَذَا المُدَامُ يُضَمِّخُ الأروَاحَ وَالأشْوَاقَ ما لِي لا أراهُ أَحْمَرَا
كانَ في صَهْبَائِهِ عِتْقٌ عَلَى مَا لاحَ لي بِبُثَيْنَةٍ يَا مَعْمَرَا
فأجَابَنِي بِالصَّمتِ يُشْفِقُ في الهَوى: لا عِلْمَ لِي، فانْظُرْ إذًا؛ ماذَا تَرى ؟
فَتملَّكَ الأوْصَالَ نَزْعٌ من مَهِيبِ مُرَادِهِ لمَّا دَنَا وَتَفَكَّرا
فَعَدَوْتُ صَوبَ العَارِفِين كأنَّنِي شُهُبٌ تُطَارِدُ فِي عَفارِيتِ الثَّرى
وقرَأْتُ مِنْ تَارِيخِهِمْ هَجَرَاتِنَا، وسَمِعْتُ في أذْكَارِهِمْ مِمَّا جَرَى
لكِنَّني لَمْ أعْثُرْ فِي رَصَدِ الهَوَى ما ضلَّ صاحِبُكُمْ عَلَيْهِ ومَا دَرَى
فإذَا بِصومَعَةٍ عَليْنَا أذَّنَتْ، تَالله ما أخْطَأْتَ نجْمًا في السُّرَى
فَذُرَاكَ تَغْبِطُهَا جِبَالٌ صُرَّ فيهَا من طُيُورِ أَرْبَعٍ كَيْ تحْضُرَا
حُلِّيتَ ثَوبَ الشَّاهِدِين علَيَّ إذْ أنْسَتْهُمُ الأَزْمَانُ مِنْ أنْ أذْكَرَا
فأنَا لمكَّةَ غِبْطَةٌ، زَيْتونَةٌ وُسطَى، ومِشْكَاةٌ أضاءَ بها الوَرى
وأنَا لِيَثْربَ هِجْرَةٌ أخْرَى، فَأُوتِي الأولِيَاءَ مَثَابَةً كَيْ أُنْصَرَا
وأنَا لِقُدْسِ في شِعَابِ الحُزْنِ صُلْبُ التَّائِهينَ إذَا أقَاموا في الكَرى
وأنَا مَدائنُ صِالِحٍ، خِصْرٌ لأنْدَلُسٍ على رِيحٍ، أنَا أمُّ القرى
[حَضْرَة]:
القيروان أمّ المدن، وهندساتُها صلبُ العمران، وما تجاوزت مدينةٌ في المغرب أقصاه وأدناهُ أو في الأندلسِ أقدمِها وأحدثِها مَعْمَرَةً إلا وفيها ما تدين به لها. والدَّاخل إليها مثلي كمن يدخل إلى مدينة شهريار، بسماءٍ لا تضيق أبدا، بشمسٍ مصنوعة من زيت الأحلام القديم، بألوان تصطبغ بها جدرانات بيوت سندباد، بصنيعٍ من اليدِ يبهرُ الرّائين وهم يستفتون في الأسعار، برائحةِ القوافل التِّجارية الواردة من صحراء إفريقيا، وبزوايا الأولياء وأضرحة العلماء مستقرًّا وافيًا للشُّهود.
وإذ نلج البهو الكبير، تتهافت إليك الأصوات تهافتَ الطُّيور على أوَّل ما نضج من تين الصَّبيحة البكور؛ ضجيج من الأرواح تترك ظلَّها أمامك لتسرع إلى الغيب باحثة عمن سبقتها إليه، تترامى في دواخلك أطيافُها الزَّائرة وهي تتجه نحو الزَّاوية اليمنى أقصى البهو، لتعلن تسليمها بقدرها أمام الله.
وكما عادة السَّائحين بالنَّظر، أنهمر كمطر اللَّيل في هدوء مقتفيا أثرَ الأرواح فأجد نفسي داخل غرفة الضَّريح أين يرقد سيدي الصَّحبي. والصَّحبي هو صياغة أخرى لمفردة الصَّحابي، والمقصود به أبو زمعة البلوي؛ الذي يعد مأثرة القيروان ودليلَ تاريخها القديم، وهو رجل حضر بيعة الشَّجرة التي جمع فيها نبيُّ الاسلام رجالَه لتقديم العهد الجماعي بالوفاء للدَّعوة وبالصَّبر على الموت أمام القتلة من قبيلة قريش، وذلك شهر فيفري من عام 628 الموافق لذي القعدة للسَّنة الهجرية السَّادسة. ولقد توفِّـي أبو زمعة البلوي بعد 28 عامًا من بيعة الشَّجرة، سنة 654 للميلاد إثر معركة خاضها مع جيوش المسلمين ضدَّ البيزنطيين في عين جلولة الواقعة على نحو ثلاثين كيلومتر غرب القيروان.
ولقد بنى هذا المعلم الديني المهيب حمُّودة باشا المرادي سنة 1663م، فجعله أقساما؛ كعادة البنايات العثمانية؛ فجزء منه للتَّدريس، وجزء منه للضِّيافة وتوفير الظُّروف للاقامة، وجزء لتخزين الجبايات والموارد، وجزء آخر للضَّريح الذي تتجلَّى فيه كفاءةُ اليد الأندلسيَّة وقد وجدت على ظاهرها ما يزيد من ولعها بمنفاها الرَّحيم وفي باطنها ما يشدُّها بحنين العاشق السيِّء الحظِّ للأندلس.
أدخل حيث الضَّريح، أقرأ الفاتحة على روح صاحبه وعلى روح من عظّم بناءً منزله الأخير، وأتابع في سلسلة التَّاريخ راجعا من إشبيلية إلى نفسي مشهدَ الزِّليج الذي تختلط ألوانُه بالظِّلال، أين تجتلي الزَّخرفةَ النّجميةَ العيون، والنَّقشَ الجصّيَّ للأكوان، أمَّا خشب الباب الأحمر اليانع فهو الوحيد الذي يمتزجُ بشعاعات الضَّوء المتسرِّبة من بعيد.
ما عدا تلك القبُّة التي تتوِّجنا بشكلها الدَّائري كملوكٍ ونحن تحتها، فإنَّنا ندخل المربَّعات، الواحدة داخل الأخرى، فمربَّع المدينة القديمة للقيروان، ثم مربَّع المزار، ثم مربَّع البهو الذي يحيط بالغرفة، فمربَّع غرفة الضَّريح، فمربَّع الشبَّاك المحيط به، ثم مربَّع الضَّريح نفسه، وأمَّا أنا، فقد كنت أتجوَّل في مربَّع أقلَّ حجما من كل هذه المربَّعات، إنَّه مربَّع الزلِّيج، الذي تنصهر فيه ألوان الجنان الفردوسية، من خضراء الهدهد إلى حمراء الدِّيك وزرقاء الطَّاووس.
الزِّليج في تونس هو مربَّعها العالي ورُبعها الغالي، ولقد لقيت فيه وحده عالما يسيح فيه النَّاظر المبتهج بالفنون والأشكال، وهو ذكرُ الروح لعشقٍ يحتفي لوصاله بالعين. وتمتلك تونس مصانعَ للزلِّيج بنابل، وتغطي بهذه الصِّناعة كاملَ متطلَّبات عمرانِـها التَّقليدي المقصودِ بالتَّجديد، فهي تسعى به لسياحتها أن يكون مشهدُها في العين رائقًا وسحرُها عند المتأمِّل فائقًا، فلا تصير الجدران بالزِّليج إلا على هيئة ما كانت عليه قبل بلائها، فتطرب النَّفس المنبهرة بما هو بين القديم البالي والجديد التَّالي.
أرقب من النَّافذة إلى الدَّاخل، فإذا صراخ حادٌّ وبكاء لألم فاجع يمتزجان في منعةٍ من التريّث بالزَّغاريد العالية، تتلوهما همهماتٌ وقد ضمّ إيقاعَها تهليلٌ وتبريك، أدرك لتوّي أنَّني أشرف من هذه الطَّاقة على أطفال في عمر السَّادسة مبطوحين على ظهورهم، وهم يشهدون الختّان بمقصّه يوفي الأدوار بحق الله. المختونون حينها قد خرجوا بدمعهم النَّازف وقد أوفوا ولاءهم للختّان وأمدّوا له بالبقاء على عهد البيعة تحت الشَّجرة.
[سُلُوك]:
أمام دَرَجِ بئر برّوطة الذي يتوسَّط مدينة القيروان العتيقة غير بعيد عن سُرادِقُها الطَّويل، وقفتُ والكنزي في طابور ننتظرُ الدُّخول إليه تحت غضب الشَّمس التِّي بدأت ترسل لفحاتِها تباعًا على رؤوس الوالهين، أتحسَّس -أنا القادم من باريس- مشهدَ المدن الأوروبية التي بُنيت بمحاذاة الأنـْهر، وأقول لله درُّ الـمَغاربيِّين؛ يبنون كذلك مدنا في الصَّحراء على أنهرٍ لا تظهر للعيان؛ أنهرٍ باطنيةٍ تقضي للحواسِّ كاملَ يفاعتها. وكذلك رأيت بالقنادسة ببشَّار في عزِّ مَصِيفِ رمضان، سنواتٍ خلت، نافورةً قرب الجامع ينسكبُ منها الماء انسكابًا، كما لو أنَّ الماء ينبعُ من أرضٍ تليَّةٍ، بينما يتعذَّرُ على مستكشف القنادسة وهو يلجُها الايمان بأقلِّ قطرةِ يمكن أن يستعين بها من ماءٍ شروب. كانت نافورتها الصَّامدة تتقدَّم إلينا كامرأةٍ تزفُّ لك بأسباب يديها عروسَ الضِّيافة والكرم، فالطَّريق من بشَّار إلى القنادسة زمنَ القيظِ أكثرُ قساوةً ممَّا يتقدَّمها من طرقِ الشَّمال، لكنَّ الوقوف على تلك الرَّبوة حيثُ الزَّاوية تعتليها وصومعتها الكبيرة ستجعلُكَ تشتمُّ رائحة الرُّطوبة وتتجسَّس بشعيراتِ ظاهرِ اليدِ برودةً عجيبة بفضل ما يتركُه الماءُ المنعِشُ الذي يغتسلُ به المسفرون عن قلوبهم بالوصول.
ولقد بتُّ في كثيرٍ ممَّا رأيت أنعمُ حين ولوجي مدن الصَّحراء بمنبع الماء الذي لا يكون إلاَّ على بوَّاباتها القديمة،كأنَّه فاصلٌ زمَنِيٌّ بين أيَّام السَّفر ويوم الدُّخول، إنَّه عهدٌ يُقضى بين الضَّيفِ والـمُضيف، فمن شرب ماءَ المدينة، سلمَ أهلُها منه، فإنْ ألحقَ بهم الأذى، اِنتقمَتْ منه بَركةُ ذلك الماء.
وللماء الباطنِ ذي الخفاءِ العجيب، في القيروان، أساطيرُ وخرافاتٌ؛ فمن مغاربِيِّي تونس من يقول إنَّه ماءٌ يفيض بمجراه من حيث منبعُ زمزم بمكّة، وقد سمعت أنّ رجلا فقد خاتمه في حجّه بهذا البئر المقدّس ثم ما لبث أن وجده وهو يستسقي من بئر برّوطة، فانظر كيف ينتقل خاتم الولاية ولو مجازا من مكّة إلى القيروان؛ فعلى هذا من أوجب على نفسه النَّظر فيها كما ينظر إلى مكّة أو يأخذ بها رابعة الثَّلاث كما جرت عليها عادة تسمياتها.
وتوجد هذه البئرُ بطابق علويٍّ في بيتٍ بُني كأنَّه زاويةٌ أو مقام؛ فإذا عزمتَ على دخوله للسّقيا وجبَ عليك الصّعود إليه أوّلا؛ كأن الماءَ في هذي البلادِ قد أحيطَ بما تحاطُ به مرتفعاتُ المعابدِ ومناوئُ الأديارِ من تقديسٍ وتبجيل.
ومن العجيب أيضا، أن ترى، وأنت تغْمُرُ بروحك هذه الدَّار، ناقةً تدور حول البئر وسط البهو، لا يمسَّها أحدٌ بسوء، يستتبِعُها دَيْرَانيٌّ ناشئٌ، فتدور مع دائرتها عجلتان؛ إحداهما تنبعث والأخرى تطغى، فينهلُّ الماء باردا في جرارٍ نُذرت للوافدين، معقُودٌ بفخَّارها وشاحُ أروَى التي قامت بها بغدادُ، وتُؤتَى إلى النَّاس موضوعةً بالشُّرب السَّائغ المهلِ لا دسٌّ ولا تكذيب، فيغلبُ عليّ الظَّنُّ بالمدائن وأحداثها؛ فأنظر في المشهد، فيُلقى في سرّي أنَّ القيروان إنما هي شِقٌّ لأمّ القرى، على التُّخوم الأخيرة من حاضرة الحجاز وقراها، وأن بها ما يكفي الانسان من شرّ العقار وتأثيم النَّفس بمخالفة الوعود؛ وما جاء على ناقة صالح من ثمود؛ فلم أر مشهدًا صالحيًّا قد تكرَّر في ثوبِ المؤمنين إلا بناقة القيروان، إذ أنَّ في جدبها تُعطي النوقُ الماء، حين تعفّ بصبرها، وتستعجلُ العطشى برجزها الدؤوب، وثمودُ في خيرها، قد جيئ لناقتها بالسّقيا فوَدَجَتْ وتينَ العهود.
ولقد أخبرَنَا قيس عمري وهو رجل عارف بخبايا هذه المدينة وزواياها أن برّوطة كلمة أطلقها الأندلسيون على هذه البئر، وهي مفردة مركَّبة من بئر وروطة، وروطة تعني بالموريسكية الاسبانية العجلة، ويوجد في مناطق أخرى من شمال إفريقيا من لا يزال حتى الآن ينطق العجلة باسمها الفرنسي رودة. ولعل في هذه القصَّة ما يجعلنا نستنتج احتمالاً أن من قام بإدخال العجلة واستحداث تقنية استخراج الماء سريعا من البئر هم الأندلسيون.
ولقد جرت بنا الدُّروب سريعًا، بعدما غابت في المكان عيناي، إلى حيث جامع عقبة، فاستقام بنا الموطيءُ عند الأعراس واستقَرَّت بنا مسامعُنا عند جلبة النَّاس بأفراحها، فكثيرٌ من عائلات القيروان من يعقد أبناؤها قرانَهم هذه الأيام تبرّكًا بالمولد النَّبوي؛ فتكون لهم الزِّيارةُ للزَّوايا والجوامع وقبور الأولياء. وتبتهج هذه العائلاتُ كعادة ما توجبه الأعراس، بثياب تقليدية يُستحدث طرازُها حسب ما تقرُّ به الأعين في العام؛ فترى الولدانَ والبناتِ وقد تحلَّوا بها في الثنيَّات، والثَّنيَّة مفردة يستخدمها مغاربيّو تونس للدَّلالة على الطَّريق، وهي مفردة يثربيَّةٌ تغنَّى بها الأنصارُ عند استقبالهم لنبيِّ الإسلام وهو راجعٌ إليها.
وَإذا لم تكن في تونسَ ثنيَّةٌ للوداعٍ، فالثَّنيَّات التي عرفتُها قد جُعلت للقاء قلبي فيها. ولقد سرّ عيني بهذا لباسُ بناتٍ يُضيء بمجيءِ الشَّمس، تثنَّى عودُهُنَّ لها وانثنى قلبهنُّ إليها، فإذا توارت عنهُنَّ خلف الغمام، خفّت نصاعةُ الثَّوبِ فتحوَّل إلى القتامة قليلا، بينما شعَّت على وجوههنَّ معكوسُ الجدران المدهونة بماء الجِير. فأيُّ لقاءٍ هذا للضَّوءِ عندما تستوي على صدريَّة اللِّباس زركشاتٌ مذهبَّةٌ، لتدلَّ على فَيْئ القيروان الذي كان من التِّجارة وما أُجْزِلَ على أبنائها من العطاءِ والأرزاق والنِّعمِ. (يُتْبَع).