بقصص تعيد صياغة الواقع الفلسطيني، وتستعيد هامش الضوء في حكاية الوجود بكل أشكاله، تقدم مؤسسة الفيلم الفلسطيني للعام الخامس على التوالي الأفلام الفلسطينية المشاركة في برنامج Cannes Docs، ولقد ضمت المشاركة أربعة أفلام وثائقية تمتد على أسئلة جديدة لجيل جديد يحاول أن يضيء على مضمون سينمائي يمكن من خلاله الحديث عن تجارب وأسئلة تحدد هوية الشتات في العلاقة بين الداخل والخارج الفلسطيني، كونه شكل من أشكال الحياة التي فرضها الاحتلال، لذلك جاءت الأفلام جميعها من مواقع جغرافية مختلفة، لترى من الهامش صورة أكبر يمكن من خلالها تأمل سينما تجمع الوجود الفلسطينية في مضمون واحد، يعيد من خلال الصورة الحكايات المتناثرة من كل أنحاء العالم، إلى شاشة واحدة تمتد فيها الحياة الفلسطينية كونها حكاية يمكننا أن نرويها ونعيد صياغتها وتأملها من جديد. كما ترى مؤسسة الفيلم الفلسطيني أن الشتات المفتوح بكامل هشاشته على الوجود الفلسطيني يمكن التعبير عنه بصورة بعيدة عن الطريقة التقليدية، لأن هذا التنوع يمكنه أن يرسم فلسطين في إطار أكبر من الجغرافيا والسياسة، لذلك القبض على الجغرافيا في شكله السينمائي يؤكد على فكرة فلسطين الحلم، التي يمكن من خلالها العمل على جمع كل الخبرات والقصص والحكايات لتأكيد الرواية الفلسطينية، وحول الجهود التي قدمتها المؤسسة للمشاركين أكدت أنها تعمل على تحديد الطريق الذي يمكن من خلاله أن يطور المشارك مشروعه، من خلال تناقل الخبرات وتطوير الموهبة بشكل يسمح بالمشاركة في مهرجان كان.
Out of place
يحاول المخرج الفلسطيني محمد مجدلاوي في فيلمه out of place أن يعيد رواية الزمن، في علاقة متداخلة بين العيش في قطاع غزة والخروج منه، وثق المخرج محمد مجدلاوي حياة فرقة رقص شعبي في قطاع غزة منذ عام 2006 حتى اليوم، هذا التوثيق الذي يبحث في وجوه قطاع غزة المختلفة، لا يتوقف على لحظة واحدة بل يركز على لحظات يتقاطع فيها الشخصي مع العام، وتتحول المادة الأرشيفية الشخصية إلى ذاكرة جماعية، نرى فيها كيف يختفي مع الوقت أعضاء فرقة الرقص الشعبي واحداً واحداً، بسبب الحروب والهجرة، لنرى كيف يحول المخرج محمد ذاكرته الشخصية وعلاقاته المتداخلة في قطاع غزة إلى تاريخ جمعي يمكنه أن يعرض وجهاً جديداً من وجوه غزة، هذا الوجه يمتد على أسئلة المكان، ليس فقط في جدوى العيش فيه، بل حدود هذا العيش وما الذي يمكن أن تمثله محاولة القبض على الزمن ضمن صور تأرشف سيرة كاملة لشباب من القطاع، منهم من استمر في الرقص الشعبي وجزء منهم سافر إلى أوروبا مهاجراً من القطاع.
تتبلور فكرة الشتات في فيلم out of place في رحلة الفيلم الوثائقي، حيث انتقل المخرج محمد من التصوير داخل القطاع حتى أوروبا، ليتبع سيرة الزمن خارج المكان الذي هو القطاع، يتبع محمد مجدلاوي سيرة الزمن في التقاطعات التي يفرضها كل مكان وما الذي يتبقى منه، لنرصد الاختلافات التي تبدو كجوهر رئيسي في الفيلم، يستمر الفيلم في رصد الاحتمالات التي ترافق هوية الشتات، ليس الشتات في معناه القديم في عام 1948 بل الشتات التي يعيشه أهل القطاع الآن الذي فيه عنصر الداخل وعنصر الخارج الذي شكله شباب غزة بعد عام 2006 الذين خلقوا حالة شتات جديدة مختلفة.
donkey boys
يعبر فيلم donkey boys للمخرج أحمد البظ في تفاصيل الحياة التي يعيشها أصدقاء تخرجوا من الجامعة وقرروا العمل في تشغيل الحمير للسياح الذين يذهبون إلى بلدة سبسطية شمال غرب نابلس، الكوميديا السوداء التي يحتويها الفيلم تعرض مضمون الحياة في الداخل الفلسطيني، التي لا تخلو من الجماليات، ولكنها تحوي الكثير من الكوميديا السوداء التي تعكس جوهر الحياة في نظرة جديدة، لنرى فيها الخيال وهو يتجاوز الواقع، بل وينقده ليعيد تصويره كونه حكاية لا يمكن تجاوزها عن المحاولات المستمرة في الحياة، وتقول مؤسسة الفيلم الفلسطيني “إن الفيلم نوعاً ما مصنوع بطريقة جديدة على السينما الفلسطينية وهي التي تقوم على voice over الشخصي التي ما بين الكوميدي والتراجيدي وهذا لا نراه كثيراً في الوثائقي، الفيلم كلاسيك بلاك كوميدي، أميركان كات”.
ما يميز الفيلم هو السردية القائمة على التفاصيل المستمدة من الواقع، فهو مبني على الاتصال الكامل مع مضمون الحياة في صورتها العادية، ويحاول أن يبحث عن طرق التحايل على الوجود المحدد الذي لا يمكن تجاوزه، وكل محاولات التجاوز هذه لا تخلو من كوميديا تنقد وتبني وهذه نظرة جديدة شكلتها الكوميديا السوداء في نقدها للواقع، التي تتحول في العمل إلى أداة للتعبير والتوثيق، وهنا تكمن النظرة الجديدة للمخرج أحمد البظ، في رؤية دقيقة وشاملة تتجاوز حدود الممكن في إطار محدد نرى فيه نقداً جوهرياً للواقع من خلال مشاهد تبدأ في المحاولة المستمرة للتحايل على الواقع.
Bye Bye Tiberias
بهدوء تسرد المخرجة لينا سولم في فيلمها Bye Bye Tiberias سيرة عائلتها عبر أجيال تستعيد الحكايات اليومية من خلال قصص مدينة طبريا بشكل خاص، من هذه التفاصيل نرى في الفيلم رواية تاريخية تسردها نساء فلسطينيات بكل تلقائية لنعود من خلال الكلام إلى وجوه كثيرة تضيء عليها الحكايات لسيرة المدينة، كما تسرد خالات لينا سويلم ووالدتها الممثلة الفلسطينية والعالمية هيام عباس قوة الرواية في رؤية واقع المدينة، حيث تتحول الحكاية إلى صورة أكبر تعكس فلسطين في مضمون جديد في الأفلام الوثائقية، لذلك الفيلم فيه إضاءة على التاريخ الشفوي بالحديث عن البلد ومكانته وتأثير السياسة في طبريا على فلسطينيي الداخل الذين ما زالوا يتعرضون لطمس ممنهج للهوية، وكيف تتوارث هذه الرواية الشفهية عبر الأجيال من الجدة إلى الأم للبنت، ليكون الفيلم متعدد الأجيال، ويصور احتمالات وحياة كل جيل من خلال الحكاية، وما يميز الفيلم هو قدرته على تمكين هذه الرواية دون تكلف ما يجعله تلقائي وفي مضمونه مرآة كبيرة نرى فيه الرواية على تمكين الحاضر وتأمله واستعادة جذور الوجود في الداخل الفلسطيني، وسرد احتمالات الشتات في صورة الأم التي هاجرت إلى فرنسا قبل 30 عام.
The jacket
يحدد المخرج البلجيكي Mathijs Poppe معنى الشتات وصورته في مخيم شاتيلا، من خلال تطوير عمله مع فرقة مسرحية تعمل داخل المخيم إلى فيلم بعنوان The jacket يروي سيرة عرض مسرحي لم يكتمل بسبب سرقة سترة قديمة قادمة من عام 1948 ترمز إلى القضية الفلسطينية لتبدأ رحلة البحث عن السترة في الفيلم بصورة سياسية تعكس التغييرات التي طرأت على الواقع، من خلال شخصية “جمال هنداوي” الذي يعمل على تطوير مسرحه السياسي.
هذا الخروج في الفيلم من حدود المسرح إلى مساحة الفيلم الوثائقي نرى فيه مضمون الحياة في المخيم وما تمتلكه من معاني، ليتأمل الفيلم سيرة السترة في إطار ندرك فيه لماذا هذه السترة مهمة وما تعنيه سياسياً واجتماعياً، لذلك نرى في القصة رواية الشتات كذاكرة مستمرة تستمد شكلها من خلال الرموز التي ترسم مضمون الوجود من خلال هذه الاستعادة المستمرة لمعاني الأشياء، أن معنى السترة في مضمونه يعكس سياسياً رأي اللاجئ الفلسطيني المقيم في بيروت، والمتابعة المستمرة في الفيلم لحياة الممثلين خارج المسرح وتتبع حياتهم، يعكس حياة أكبر يبحث فيها اللاجئ عن جدوى الوجود في إطار ضيق يفرضه المخيم.