صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب لمختار زواوي بعنوان “مسائل في اللسانيات وعلم العلامات: قراءة في نصوص فردينان دو سوسور”. ويشتمل هذا الكتاب على 239 صفحة، ويضمّ قائمة ببليوغرافية وفهرسًا عامًّا.
الكتاب دراسةٌ في مجموعات خمس من نصوص فردينان دو سوسور الجديدة في اللسانيات العامة التي عُثر عليها في عام 1996 ونُشرت في عام 2002. ويتألّف هذا الكتاب من قسمين. وفي القسم الأوّل، عالج الباحث عددًا من المسائل المرتبطة بإبستيمولوجيات اللسانيات ونَسَق دو سوسور الفكري؛ مثل مسألة ترتيب مقولاته اللسانية في نسق، وطبيعته، وتصورات دو سوسور في فلسفة اللسانيات، وميتافيزيقا العلامة، والتجريد، والثنائيات، ومبدأ المخالفة. أما في القسم الثاني، فقد أفرد الباحث لكل مجموعة من مجموعات النصوص الخمس فصلًا خاصًّا، قصد التعريف بمضامينها والمسائل التي نظر فيها دو سوسور، وهي: مسائل في سؤال البدايات، ونقد النحو المقارن والطريقة المقارنة، والمنهج واللغة الواصفة، والسيميولوجيات والتوزيع الجغرافي للألسن، والخطاب.
نسقية اللسان
كثيرًا ما يرتبط مفهوم النسق في تلقّي فكر دو سوسور اللغوي باللسان، ويكاد لا يختلف اليوم اثنان في أمر هذه الحقيقة؛ حقيقة أن الألسن جميعها أنساق من العلامات. لكن الحديث عن هذا المفهوم ليس لكونه مؤسِّسًا لطبيعة الألسن فحسب، بل لكونه مؤسِّسًا للفكر اللساني السوسوري أيضًا، بدليل قول دو سوسور وهو يصف مجهودات أوغست شلايشر المُقارنِة: “إن النسق، حتى وإن جرى من بعدُ التخلي عنه، أحسن من جملة من المفاهيم الغامضة”، وهو الموقف الذي عقّب عليه إنغلر قائلًا: “إن النسق، أو النزوع نحو النسق، ليس سوى مطلب إنساني للمعنى، وللنظام الذي يُمارَس على المادة، ويمكّن من إجراء التصحيحات اللازمة. إنه مبدأ منهجي”. وكثيرًا ما تداول الفلاسفة مفهوم النسق منذ عصور مضت، بل إنهم اتخذوه عنوانًا لمؤلفاتهم أو أجزاء منها؛ كما هو الشأن، مثلًا، عند كارل فون لِيني، أو عند إيتيان كوندياك، أو غيرهما، حتى جاء أندريه لالاند فأحصى له دلالتين، ترتبط أولاهما بطبيعة المجموعة من العناصر، أو الأشياء، حيث قال: “إن النسق هو مجموعة من العناصر، مادية كانت أو غير مادية، تتعلق إحداها بالأخرى”، ومثّل له بعبارات Système solaire وSystème nerveux، وSystème à trois équations، وهي الدلالة التي عبّر عنها الباحثون المحدثون العرب بكلمة “النظام” فقالوا: النظام الشمسي، وكلمة “الجهاز” فقالوا: الجهاز العصبي، وكلمة “النسق” فقالوا: نسق من ثلاث معادلات. أما الدلالة الأخرى فترتبط بطبيعة الأفكار، وقد قال بشأنها: يدلّ مصطلح النسق خصوصًا على “مجموعة من الأفكار العلمية أو الفلسفية المتصلة في ما بينها اتصالًا منطقيًا؛ لا من حيث صدقُها، بل من حيث التجانس القائم بينها”، مستقيًا هذه الدلالة من تعريفٍ لمفهوم النسق قدّمه كوندياك بالقول: “إن النسق ليس سوى انتظام مختلف أجزاء فن ما أو علم ما، وفق نظام يستند بموجبه كل جزء إلى الأجزاء الأخرى، فيفسّر آخرها أولها”.
ولئن دأب الباحثون المحدثون على التمييز بين الدلالتين بترجمة كلمة Système تارة بالنظام وتارة أخرى بالنسق، لاعتقادهم أن الدلالة الأولى ترتبط بعالم الأشياء في حين ترتبط الأخرى بعالم الأفكار، ففي اعتقادنا أنه يجب ألَّا يُفهَم من مفهوم النسق أنه مؤسِّس لطبيعة انتظام الأشياء في ذاتها، إنما هي تصوّراتنا، أو تمثّلاتنا لهذا الانتظام. صحيح أن الآلات والأجهزة التي ابتكرها الإنسان مكّنته، أكثر من ذي قبل، من ملامسة طبيعة الأشياء وصور انتظامها، إلا أن التصورات هذه ليست في حقيقة أمرها سوى تمثيل للواقع وتمثّل له، وهي – والحال هذه – تنتمي إلى عالم الأفكار، شأنها شأن الأفكار الفلسفية أو العلمية التي يعبّر عنها المفهوم الثاني للنسق.
والظاهر أنّ هاتين الدلالتين هما اللتان استفاد منهما دو سوسور من أجل التأسيس لمفهوم النسق اللساني ومفهوم النسق النظري؛ فقد كان دو سوسور قارئًا لـ معجم لالاند الفلسفي، منذ أن بدأ لالاند نشر محتوياته الأولى عام 1902، في منشورات الجمعية الفرنسية للفلسفة.
إبستيمولوجيات اللسانيات وفلسفتها
باتت إبستيمولوجيات دو سوسور، منذ نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن، موضوع بحث ونظر من الباحثين المحدثين. وعلى الرغم من اختلاف تأويلات هؤلاء الباحثين وتنوّع تفسيراتهم، فإنهم اشتركوا في وضع كتاب محاضرات في اللسانيات العامة المنسوب إليه جانبًا، وأقبلوا على نصوصه المنشورة عام 2002، ومخطوطاته التي كانت، أو ما زالت، مودعة في مكتبتَي جنيف وهارفرد، يستخرجون منها ما بدا لهم منها خليقًا بأن يصنَّف في دائرة الإبستيمولوجيات. صحيح أن الكتابات أو المخطوطات لا تشتمل على كلمة الإبستيمولوجيات، لكن تأملات دو سوسور وأفكاره التي عبّر بها في هذه النصوص عن منهجه وموضوع العلم الذي أسست له، أو تلك التي أودع فيها نقوده للنحو المقارن، كلّها أفكار من شأنها أن تُنزَّل منزلة الأفكار الإبستيمولوجية؛ إنها أفكار في فلسفة العلم والمعرفة.
ولئن كانت نصوص دو سوسور الإبستيمولوجية اتخذت منحى النقد تارة ومنحى التأسيس تارة أخرى، فإن سوسور أودع الاثنين معًا في عدد من نصوصه، وقد نقل عنه إنغلر قوله: “إن الأميركي ويتني […] الذي أُجلّه لم يقل قط شيئًا لم يكن صحيحًا، لكنّه، شأنه شأن الآخرين، لم يفكّر في أن اللسان يحتاج إلى نسقية Systématique. إذًا، يُعتبر البحث النسقي شيئًا جديدًا، وهو يعبّر عن اجتهاد فردي، مستقل وطويل الأمد، لكن لا يمكن تحقيقه إلا إذا توافر للمعارف اللسانية فكرٌ فلسفي أصيل”.
في اللسان والمجتمع
احتفظ مخطوط دو سوسور، في جوهري اللغة، بتصور أصيل لهذا المشروع، لا يقيم بين اللسان والكلام حدودًا فاصلة. وفي هذا المخطوط، يكشف دو سوسور عن تصور سيميولوجي لا نجد له مثيلًا في كتاب محاضرات في اللسانيات العامة، وهو في شكل معادلة على النحو الذي يلي: “السيميولوجيات = المورفولوجيات، النحو، التركيبيات، الترادف، البلاغة، الأسلوبيات، المعجميات … إلخ، الكل متصل”، وهي معادلة تؤسس لوحدة لا انفصام لها، في إطار السيميولوجيات اللسانية، بين فروع اللسانيات المعهودة من مثل المورفولوجيات والمفرداتيات والتركيبيات والدلاليات، وهي علوم تُعنى بدراسة اللسان، وعلوم أخرى تتصل بدراسة الكلام؛ مثل البلاغة، والأسلوبيات، وغيرها. وهذا التصور ينسجم غاية الانسجام مع تصور دو سوسور للسانيات، على نحو لا يمكن الفصل فيه بين لسانياتٍ للسان ولسانياتٍ للكلام، خلافًا لِما روّج له كتاب محاضرات في اللسانيات العامة المنسوب إلى دو سوسور.
فلئن كان من اليسير ردّ المقولة التي انتهى بها كتاب محاضرات في اللسانيات العامة، استنادًا إلى هذه المعادلة وإلى نصوص دو سوسور الأخرى، فإنه ليس من العسير كذلك التعرف في هذه النصوص إلى وعي دو سوسور بالجانب الاجتماعي للّسان، بل في تصور أشمل، بالجانب الاجتماعي لكل نسق من العلامات؛ إذ يقول: “ليس النسق من العلامات نسقًا من العلامات، ولا جديرًا بأن يسمى كذلك، إلا إذا أصبح ملكًا للمجموعة: لأن مجموع ظروف حياته سيغدو مستقلًا حينئذ عن كل ما يمكن أن يؤسسه خارج هذه المجموعة إلى درجة يجعل ما دون ذلك غير مهم. ويمكننا حينئذ أن نضيف أن محيط المجموعة إذا أحدث تغييرًا في كل شيء في نسق العلامات، فإن هذا المحيط يغدو أيضًا، منذ أول وهلة، المحل الحقيقي للتطور الذي يرنو إليه نسق العلامات منذ نشأته: إن شأن نسق العلامات بالنسبة إلى المجموعة هو شأن الباخرة بالنسبة إلى البحر، ولا يمكنه أن يكون كذلك بالنسبة إلى ذاته، بل إلى عدد قليل أو كثير من الأفراد. لذا، فإن الظاهرة السيميولوجية، مهما تكن، وفي كل لحظة، لا تنفصم عن المجموعة الاجتماعية: إن المجموعة الاجتماعية وقوانينها تُعتبران من العناصر الداخلية وليست عناصر خارجية، وهذه هي وجهة نظرنا. ويتبين لنا حينئذ كيف يتضح أفق السيميولوجيات ويتحدد، لأننا نرفض أن يكون للعلامة طبيعة قاعدتها مودعة في الظروف الفردية، وإن نحن أردنا الدقة قلنا إننا لا نعترف بما هو سيميولوجي إلا الجزء من الظواهر الذي يبدو تخصيصًا كنتاج اجتماعي”.