كان صيف 1956 الحارّ مفتوحًا على احتمالات شتّى، وكان زمني يشي بمفاجآت.
ولم تكن علاقات الحبّ بين الشابّ والفتاة ممكنة في قريتي، وفي كلّ قرى فلسطين ومدنها ومخيّماتها؛ إلّا بالتكتّم الشديد وبالسرّيّة البالغة، ولم يكن الاختلاط متيسّرًا بين الجنسين.
حين كنت طالبًا في الصفوف الإعداديّة في المدرسة الرشيديّة، لفتت انتباهي فتاة تتلقّى العلم في مدرسة شميدت للبنات، الواقعة قريبًا من باب العمود.
أبهجني جمالها وهي في قميصها الأبيض الذي يحرس نهديها الصغيرين، ومريولها الأزرق الذي ينتهي عند حدود ركبتيها تاركًا لبياض الساقين حرّيّة التألّق برشاقة وبهاء.
امتدّت مطارداتي لها ثلاثة أشهر أو أربعة من دون أن تعيرني أيّ انتباه، ربّما لأنّها كانت صغيرة على الحبّ أو ربّما لأنّني لست الفتى الذي تتمنّاه، ثمّ غابت من فضاء المدرسة والمدينة إلى حيثُ لا أدري ولا أعلم تاركةً في قلبي جرحًا نازفًا.
في ما بعد؛ حين كتبت رواية للفتيات والفتيان موسومة بـ«أحلام الفتى النحيل» أكملتُ ما ظلّ ناقصًا في الواقع وحقّقته في الخيال، إذ جعلتُ الفتى «مهنّد» يلتقي حبيبته «نادية» بعد خروجها من المدرسة، ويذهب معها إلى بيت أهلها، ترحّب به أمّها جورجيت، ويرحّب به أبوها حين يعود من متجره، وينام مهنّد في غرفة مجاورة لغرفة نادية، في البيت الهادئ الواقع في أحد أحياء القدس القديمة؛ داخل السور.
بعد ذلك؛ أحببتُ وأنا في السابعة عشرة من العمر فتاة في مثل سنّي أو ربّما أصغر منّي بسنة، وقد بادلتني حبًّا بحبّ، ولم يكن اللقاء معها أو الاقتراب منها سهلًا. ثمّ انتهت العلاقة بيني وبينها من جرّاء استحالة الزواج بيننا، وأنا ما زلت طالبًا في المدرسة.
ومنذ أن نشرت مجلّة «الأفق الجديد» المقدسيّة قصّتي الأولى في عام 1962، انفتح باب الخزّان، وتعدّدت القصص التي نشرتها في المجلّة، وغدوت كاتبًا للقصّة القصيرة وللرواية للصغار وللكبار، واستمددتُ كثيرًا من وقائع قصصي ورواياتي ممّا شاهدته وعشته ولاحظته وتأثّرت به من وقائع وقضايا وأحداث، وممّن عرفتُ من رجال ونساء في قرية طفولتي وفي قرى أخرى، ومن ثمّ في مدن كان لها كلّها فضلٌ كبيرٌ عليّ.
قبل هزيمة حزيران 1967 كنت معنيًّا بالأدب وبالكتابة الإبداعيّة إلى جانب اهتمامي بالنشاط السياسي الذي ظلّ يتّسم بسرّيّة تامّة وبحذر شديد؛ من جرّاء حظر الأحزاب السياسيّة، وبسبب أجواء القمع التي سادت في الأردن بعد الانقلاب على حكومة النابلسي عام 1957 (كانت الضفّة الغربيّة الفلسطينيّة آنذاك جزءًا من المملكة الأردنيّة).
داومت على كتابة القصص التي جسّدتُ فيها القرية الفلسطينيّة ومعاناة أهلها من الرجال والنساء على نحو لافت للانتباه في النصف الأوّل من ستينيّات القرن العشرين، ثمّ عملت محرّرًا ثقافيًّا في صحيفة «الجهاد» المقدسيّة مدّة سنتين، ونشرتُ قصصًا وقصائد ومقالات لكاتبات وكتّاب أصبحوا اليوم نجومًا في عالم الكتابة.
التحقتُ بعد الهزيمة بهيئة تحرير جريدة «الوطن» السرّيّة التي كان يشرف على تحريرها الرفيق سليمان النجّاب. أعجبتني فكرة الكتابة في جريدة سرّيّة مناوئة للاحتلال، وكنت مأخوذًا بتجربة جريدة «الإيسكرا» (الشرارة) التي أصدرها البلاشفة قبل ثورة أكتوبر 1917 بإشراف لينين؛ وكان لها دور بارز في تعبئة الجماهير الروسيّة وفي التحضير للثورة. وكم حلمت بأن تؤدّي جريدة «الوطن» دورًا مشابهًا للدور الذي أدّته «الإيسكرا»! نمَّ حلمي هذا عن قدر زائد من حماسة الشباب وغرورهم، غيرَ أنّني لا أنكر أنّ الكتابة في صحيفة سرّيّة لها جدواها، وإنْ لم تشكّل بديلًا للكتابة الإبداعية، ولم تكن لتتناقضَ معها.
مع ذلك؛ قلَّ اهتمامي بالكتابة الإبداعيّة من جرّاء قرار خاطئ اتّخذته من دون مبرّر معقول؛ فلم أكتب سوى عدد قليل من القصص؛ نشرت اثنتين منها بالاسم المستعار: ربحي حافظ، ثمّ انقطعت عن كتابة القصص ستّ سنوات، وانصرفت إلى النشاط السياسي المباشر ضدّ الاحتلال، وإلى كتابة مقالات سياسيّة في الصحافة المحلّيّة بالاسم المستعار: فارس أبو بكر، ومقالات أخرى من دون التوقيع بأيّ اسم في الصحيفة السرّيّة المنوّه عنها آنفًا التي أصدرها فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفّة الغربيّة؛ هذا الفرع الذي سيصبح في ما بعد الحزب الشيوعي الفلسطيني ثمّ حزب الشعب. كنت ناشطًا في صفوف الحزب، ولم يتجاوز عمري السنة الثامنة والعشرين حين اعتقلتني سلطات الاحتلال الإسرائيلي أوّل مرّة في عام 1969.
كنت في الدقائق التي تفصل بين تحقيق وآخر أستعرض في ذهني كتبًا قرأتها مثل: «تحت أعواد المشانق» ليوليوس فوتشيك؛ أحد قادة الحزب الشيوعي التشيكي، و«العسف.. معذّبو الحرّاش» للجزائري بشير الحاج علي، أحد قادة الحزب الشيوعي الجزائري، وأستعرض كذلك مواقف مناضلين صمدوا أمام المحقّقين فلم يضعفوا مثل سلام عادل، الأمين العامّ للحزب الشيوعي العراقي (اسمه الحقيقي: حسين أحمد الرضي) الذي قُتل تحت التعذيب، والمناضل الشيوعي الأردني عبد الفتّاح تولستان، الذي قُتل تحت التعذيب كذلك.
وكنت أسلّي نفسي بتذكّر أبطال روايات قرأتها من قبل؛ تذكّرت بافل وأمّه في رواية «الأم» لمكسيم غوركي، واستمددت منهما تفاؤلًا ما.
طوال فترة بقائي في سجن «الدامون» داومتُ على قراءة بعض الكتب المتوفّرة في مكتبة السجن (من أهمّها كتاب أنجلز «أصل العائلة؛ الملكيّة الخاصّة والدولة»)، وكنت أهجس بكتابة قصص، تتشكّل في ذهني بعض مشاهدها، إلّا أنّني لم أتمكّن من كتابة قصّة واحدة، ولم تظهر تجربة السجن في قصصي إلّا بعد سنوات حين استأنفت الكتابة الإبداعيّة من جديد.
بعد سنتين من الإفراج عنّي خضعت في عام 1972 للإقامة الجبريّة في القدس مدّة سنة، حرصت في تلك الأثناء على تعزيز صلتي بالحركة المسرحيّة من خلال فرقة «بلالين» التي جعلتْ مركزها الرئيس في القدس، وحين قامت هذه الحركة بتنظيم مهرجان للمسرح في رام الله، جازفت بالذهاب سرًّا إلى هناك لمشاهدة عروض المهرجان التي استمرّت شهرًا بأكمله.
وحين اعتُقلت مرّة ثانية في عام 1974؛ نُقلت بعد سجن المسكوبيّة ثمّ سجن رام الله ثمّ سجن الجَلَمة إلى سجن بيت ليد القريب من طولكرم، وداومت آنذاك على قراءة ما وقع تحت يدي من قصص وروايات، ورحتُ أفكّر من جديد في الكتابة الإبداعيّة بعد سنوات من الانقطاع. وفي الأثناء تهيّأتُ للشروع في كتابة رواية لم أنجزها إلّا بعد مغادرتي للسجن، ولم أنشرها في كتاب لأنّني لم أعد مقتنعًا بمستواها، وفي ما بعد ظهرت تجربة السجن في عدد من كتبي للكبار وللأطفال.
عدت إلى كتابة القصص في بيروت التي وصلت إليها مبعدًا من السجن.
ابتدأتُ ذلك بقصّة جاءت على غرار قصص مجموعتي «خبز الآخرين»، ولم أقتنع بها بعد إنهاء كتابتها، ثمّ كتبت قصّة «الوطن»، التي بدت فيها علامات التجديد؛ حيث اللغة التي توحي أكثر ممّا تخبر، وحيث المشاهد المتعاقبة ذات الإيقاع السريع، وحيث الاستفادة من تقنيّة التقطيع والمونتاج السينمائي.
بعد بيروت التي عطّلت نيران الحرب الأهليّة حياتها المعتادة؛ أقمتُ في عمّان المستقرّة إحدى عشرة سنة، ثمّ انتقلت إلى براغ المدهشة وعشت فيها ثلاث سنوات، غادرتُها بعد ذلك إثرَ انهيار حُكم الشيوعيّين إلى عمّان لأقيم فيها ثلاث سنوات قبل العودة إلى القدس. عملت أثناء ذلك في الصحافة وفي كتابة الرواية المنوّه عنها أعلاه، وفي تأليف القصص والمسلسلات التلفزيونيّة (وردت تفاصيل أوفى عن تلك الفترة من حياتي التي خضعت لشتّى التقلّبات في كتابي «ظلّ آخر للمدينة»).
وهكذا عدت إلى الكتابة بمثابرة، ومن دون التفكير في اعتزالها إلّا في بعض الحالات.
«تلك الأزمنة» لمحمود شقير، صدرت أخيراً في بيروت عن دار “نوفل”، دمغة الناشر “هاشيت أنطوان”.