“معارك خاسرة”… شهادة عن ممارسات الدولة البوليسية

عماد الدين موسى

كاتب من سوريا

 ما الذي فعلته الدولة البوليسية بالناس حتى يخافوا ويجبنوا، كيف سيتم استدعاء التاريخ وقد تلطَّخ بدماء الضحايا، وأبو بهاء يذهب من الخوف من بطش النظام بوصفه ضحية إلى التعامل مع ضحايا الثورة بوصفهم بضاعة، فقد طلب من بهاء أن يأمر مساعده بأن يرفع سعر شاهدات القبور فالموتى سيزدادون. بل عليه أن يعمل بوتيرة أسرع ويوظّف مساعداً آخر، الموتُ سيكثر، قال.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/08/2022

تصوير: اسماء الغول

عماد الدين موسى

كاتب من سوريا

عماد الدين موسى

شال أحمر ورخام أبيض وكرة سوداء: ثلاث حكايات في رواية “معارك خاسرة” الصادرة عن دار هاشيت أنطوان/نوفل في بيروت 2022، للكاتبة السورية نغم حيدر، تصوِّر فيها الحياة الاجتماعية والسياسية لما جرى لشخصياتها: مَيّْ وأختها يمنى وأمُّهما هدى أو هدهد في “شال أحمر”، وبهاء الدين حفَّار أسماء شاهدات القبور الرخامية ومساعده في الحفر، وصراعه مع والده الذي ورث عنه هذه المهنة، وعزمَ أمه على تزويجه باللمز والغمز على زوجته سمية التي لا تنجب أولاداً في “رخام أبيض”، وفاضل ابن سهيل لاعب البلياردو ورفيقه درويش في مدينة السلمية، وعداءه لوالده سهيل الذي قضى ثلاثة عشر سنة سجيناً في أقبية النظام بصفته شيوعياً مُعارضاً في “كرة سوداء”.

 الكاتبة نغم حيدر في قصصها هذه، التي صُنّفت كـ “رواية”، تقوم بإجراء بحثٍ تقشِّر فيه العواطف عن شخصياتها، نحو الكشف عن حقيقة المصائر التي راحت إليها هذه الشخصيات، فتحاول في سردٍ طبيعي أن تبلِّغنا شعور كائناتها من خلال ما جرى لها من أحداث في المأساة السورية التي بدأت عام 2011 ولم تنته.

 الروائية نغم حيدر في “معارك خاسرة” تسرد كيف احتال القتَلَةُ على القتيل، على الفكر وقد خدعوه، على الحدس الأولي عند الإنسان. بل تكتب، تسرد، تحكي، تصوِّر ذاك الانطباع الذي تتركه حلوى هدى-هدهد أمُّ ميّْ عند تذوقه، انطباعٌ مطلق، ولكنه ليس كالانطباع الذي صاد فيه رجال المخابرات ميّْ حين استدرجوها من بيت عمَّتها زبيدة الذي لجأت إليه هرباً من نقِّ أمِّها كي لا تشارك في المظاهرات حين أرسلوا لها رسالة من جوَّال أمها هدهد أواخر شهر حزيران بعدما كانت تتجاهلها طوال الوقت: “تعالي إلى البيت حالاً، أحتاج إليك” أمُّها التي كانت قد أمضت مرّةً أسبوعًا كاملاً لم تكلّم فيه ميّْ فقط لأنّها ألقت بعض النكات عن الرئيس في زيارةٍ لصديقاتِ الشغل في البيت، ميّْ المتظاهرة ضد نظام حوَّل البلد إلى مزبلة وليس مزرعة، وهدهد الأم التي لمَّا الحكي ما عاد يجدي نفعاً مع ميّْ شكَّلت بجسدها حاجزاً كي تحول بينها وبين خروجها للالتحاق بالمظاهرات المناهضة للنظام ذلك كما الذئبة تدافع عن أولادها، وهي المرأة التي التاعت وذاقت ألم فراق زوجها الشيوعي والد ميّْ الذي اعتقل في كمين وغاب في ظلمات السجن، ومن ثم خرج ومات بحادث سير على دراجته النارية. هدى الأم والزوجة البسيطة الساذجة التي احترقت أحلامها، كانت تعرف وهي صانعة الحلوى المنزلية أنَّ الأنظمة الديكتاتورية جلدها قاسٍ وقد تسمح لمواطنيها بالانزلاق عليه، ولكن لا تسمح في النوم فوقه أو تحويله إلى ممسحة.

 في قصتها “رخام أبيض” تسرد نغم حيدر حكاية بهاء الدين الذي كان يعمل منذ طفولته على نحت الشواهد. فقد حفر أسماءً وآياتٍ لا تُحصى على شاهدات قبور الموتى بحروفٍ ما زالت تفتنه، كأنّها كائناتٌ تشعل في داخله جذوة فنٍّ لم يستطع إخمادها. جذوة فوتت عليه فرصة الدراسة فيمشي وراء أبيه إلى الدكّان مُجرجراً آماله الخاصة كلّها كمن يقبر نفسه في الحياة، متخيّلاً أنّ جهنّم موجودةٌ عند باب الدكّان، وما إن يخطو بعيداً عنه مخالفاً رغبات ورضا والده حتى تتلقفه النيرانُ وينتهي خالداً فيها. بهاء الدين كان يدرك أن بعض شاهدات القبور تخفي حفرة يُرمى فيها المحكوم عليهم بالموت لمَّا ثاروا على السلطة. وها هو مُساعِدُه هو الآخر مفتونٌ بالثورة يجري نحو بهاء ويفرجيه شاشة تلفونه كي يتفرَّج على تظاهرات الجمعة الماضية في حارتهم وهو يقول لبهاء: تخيَّل! مشهد الناس وهم يهتفون محتشدين. لقد كان وقع الهتاف عظيماً، يقول بهاء، ولطالما كانت الحروف في بالي شعراً أو آياتٍ أو أسماءً لكنَّني في تلك اللحظة عرفتُ أنّها أصبحت ثورة. نطقتها الحناجر ثمَّ جابت فضاء السوق ورفرفت في سوق المدينة بين هامات الناس وواجهات الدكاكين. شهدتُ تحرُّر الحروف من مكمنها في الصدور. ضرب مساعدي كفّيه ببعضهما مبتسماً ثمَّ أشار بإصبعه على الشاشة. انظر يا معلّمي. هنا فلان. وهنا دكَّان فلان. الكلُّ كان، حتى التمثال الذي نحته ها هو يهمس همساً ناعماً قرب أذني بهاء: بهاء، يا بهاء، قُمْ لنصرخ معاً!. فيلتفت إلى يمينه ليرى امرأةَ الهتاف مستلقية قربه وقد حلّت الشال فبان وجهُها منحوتاً ببراعة. بدت تفاصيله متقنة برغم العتم، شفتاها رقيقتان وأنفها مدبّب وصغير. نظرَ إليها بهاء غير مُصدِّقٍ، وتأمَّلها لوهلة، ثمَّ لمس وجنتها بيده ووضع كفَّه على جبهتها. فابتسمت له ثمّ أمسكت كفَّه قائلةً: أهذه هي الأصابع الحارَّةُ التي صَهرَتِ الرخام؟ ما أحلى ما تصنعه. 

قاسيةٌ نغم حيدر تمدُّ نفقاً بين الأحياء والأموات، نفقاً تعبر منه الأرواح لتمرَّ من تحت قوس نصرٍ- ولكنَّها لا تمر، لقد استهلكنا المعرفة وبعد لم نمسك بالأعماق السحيقة للحياة، من جلادٍ إلى جلاد، والأكثر بؤساً يصير حمالاً يحمل الفرح. نغم حيدر لا تني تروِّض القصة/الرواية على تحمل آلام الوجود. فها هو أبو بهاء يخاطب ابنه: اسمع يا بهاء. الأمور متوتِّرة كما تعرف. نحن ليس لنا علاقة بأيّ شيء، أفهمت؟ إيِّاك والتدخُّل أو التفوُّه بحرف. نحن أناس لا نحبُّ المشاكل. 

 ما الذي فعلته الدولة البوليسية بالناس حتى يخافوا ويجبنوا، كيف سيتم استدعاء التاريخ وقد تلطَّخ بدماء الضحايا، وأبو بهاء يذهب من الخوف من بطش النظام بوصفه ضحية إلى التعامل مع ضحايا الثورة بوصفهم بضاعة، فقد طلب من بهاء أن يأمر مساعده بأن يرفع سعر شاهدات القبور فالموتى سيزدادون. بل عليه أن يعمل بوتيرة أسرع ويوظّف مساعداً آخر، الموتُ سيكثر، قال.

 لكن بهاء وبعد أن حملت زوجته سمية بولد، ها هو يجلس إلى طاولة الشغل ويبدأ بطرقِ الرخام. لقد كان صوت الحفر عالياً وهو يدق على الشاهدة اسم أبيه بعمق، وبصلابة وبدقّة: الحاج أبو بهاء الدين. الفاتحة. لقد كانت أجمل شاهدة نقشها بهاء في حياته كلّها. فوضع عليها قطعة قماشٍ سميكة مغطّياً إيَّاها، ثمَّ خبَّأها في أخفض رفٍّ بعيداً عن الأنظار. وجلس وهو يفكّر في تلك الشاهدة التي ينقصها التاريخ فقط… يوم. شهر. سنة. 

 الكاتبة نغم حيدر في قصتها الأخيرة “كرة سوداء” تتابع شغلها وحفرها في الواقع الاجتماعي والسياسي السوري محمِّلة الآباء مسؤولية عسر وإخفاق وسقوط المشروع النهضوي. طبعاً هي روائية وليست فيلسوفة لكنها تحاول قراءة ما آل إليه السوريون خاصة في الخمسين سنة الأخيرة وهي تنتقل في القراءة بين الأسباب المادية والصورية والغائية، تُشرِّح الوعي الزائف الذي تتم مأسسته ليدمِّر المعرفة بالحرية ويدفعها نحو التلاشي. هي عملية اغتيال؟ ربَّما.

 فالكرة السوداء الثامنة في منتصف طاولة البلياردو وفاضل ابن سهيل يربح بضربة ودرويش أخذ يصفّر ويصرخ فاضل، فاضل! فاضل الذي ينتقم من أبيه سهيل فيسرق موتوره، ويتمنّى أن يأخذ منه كلَّ أشيائه ويجرِّده من ممتلكاته. فهي بالنسبة لفاضل مثل غنيمة ذهبية برَّاقة. وهذا ما أثار غضب والدته التي سألته: أتريد أباً على مزاجك؟ هذا ما جادت لك به الحياة. فيردُّ فاضل عليها قائلاً: بأنّ سهيل فضَّل النضال السياسي عليه. غاب في السجن من أجل أمرٍ لا يعنيه ولا يفهمه. لماذا لا أكون أنا القضيَّة يسأل فاضل؟ ويجيب: سأستهزئ بالفكر بقوَّتي العضلية وأصرعُ قضاياه كلّها بجسمي الفتيّْ. وأبرهن له أنَّ الفكر هراءٌ وأنّ العضلات هي الأبقى. غير أنَّ فاضل يستمر في حقده على والده سهيل وبحسٍّ انتقامي حين تخبره أمُّه أنَّ (الأمن! أخذ أباك اليوم صباحاً). لكنَّه وبكل برودة يتساءل: أما شبع منه لثلاث عشرة سنة؟ لكنَّ الأم ترى أنَّهم اعتقلوه لأنَّ لديهم مع سهيل حقد قديم. ما هذه الأقدار يا الله؟. 

 الروائية نغم حيدر (من مواليد دمشق عام 1987) في روايتها هذه، تقدم شهادة عن لامعقولية ممارسات الدولة البوليسية وشفافيتها الزائفة، فتكتب بالقوَّة القانونَ- قانونها، مُلغية، بعد المصادرة العقلَ الفلسفي كما العقل العملي، فلا مُجابهة، بالتالي يبطل التحدي وتبقى المعركة مستمرة.

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع