كلَّمني سيف في الهاتف وقال لي : تعالَ، خلاص، لقد طرأ طارئٌ جديد.
كنت على مقربة من فندق بوبورغ الذي سيتركهُ بعد أن حجز فيه ليومين فقط، دون أن يقدر على حجز أيام أخرى فيه، فلقد كانت باريس تضجُّ بالسُّيَّاح الهاربين من زمن الكورونا في شكلِ الذين هُرِعوا إلى الجبال من طوفان نوح، لدرجة انَّه لم يعد في باريس متَّسع للبقاء.
استطعنا بصعوبة حجز غرفة بهذا الفندق، الذي صادف عند مجيئنا إلغاء زبونٍ إقامته فيها، بعد أن شقينا لمدَّة يومٍ كامل بحثًا عن غرفة شاغرةٍ بفندقٍ ما بباريس. تخبرنا امرأة تجاوزت السِّبعين من عمرها بدهشتها من كثرة السُّيَّاح هذا العام، فلم تشأ الصُّدف ولا الأقدار أن رأت -منذ تسلَّمها فندق عائلتها قبل أكثر من خمسين سنة- فنادق تكدَّست عن آخرها بهذا الشَّكل.
على الدَّوام، كانت باريس تتَّسعُ بنفسها لزوَّارِها ربيعًا كان أو صيفا. لكنَّ هذا العام بالذَّات، انقلبت باريس إلى ملجإٍ للنَّاجين من الطَّاعون، الباحثين عن خلاصٍ لأنفسهم خارج بلدانهم. هكذا أوحت إلينا صاحبة الفندق، وهي تتعجَّب، إنَّهم يوافقون على دفع مستحقَّات باهضة لقاءَ الإقامة بباريس، فالغرف تضاعف سعرها إلى أكثر من ألف وألفين وأحيانا ثلاثة آلاف يورو لليلة الواحدة. لا يهمُّهم أبدًا دفعُ ما ادَّخروه خلال السَّنتين أمام الموت اللَّعين الذي أخذ منهم أرواحهم وألقاها في مقابر جماعيَّة دون أدنى التِفاتٍ إلى واجب التَّأبين وإقامة الجنائز وتوفير ظروف تلقِّي التَّعازي.
هذا اليوم من 21 جوان، هو يوم الموسيقى التي ستُعزَف بالشَّوارع ليلاً، سيأتي العازفون من كلِّ مكان والمغنُّون والرَّاقصون والمحتفلون لينشدوا أغاني الحياة. ستضيق الغرف بالآلات الموسيقيَّة، بكبيرتِها وصغيرتِها، ستبيضُّ سماء باريس اللَّيليَّة، وسينطلق الصَّخب في كلِّ مكان باحثاً عن ثغرةٍ ما في البنايات الباريسيَّة عشَّشَ فيها الصَّمت وتراكم بها الحزنُ لسنتين من الطَّاعون. ستنتقمُ باريس من وحشِ الطَّاعون، وستخلِّدُ بهذه البهجة انتصارها الطبِّي والسِّياسي عليه.
أمَّا سيف، فلقد قرَّر التَّخلي عن كلِّ شيء، قال لي: خلاص، سأعود إلى عُمان لأرتاح، لم تعد لي رغبة بالبقاء في هذا الانفجار الكوني. فقلتُ له: لا بأس، يمكننا أن نعود إلى أونـﮔان لي بان (Enghien les bains) حيث أقمت فيها لأسبوع. سنجد شقَّة هناك تجنِّبُك تعب العود إلى عمان ثمَّ الذَّهاب مجدَّدًا إلى لندن.
هزَّ رأسه قليلا معترضًا على الفكرة، وامسك هاتفه بعزمٍ، وقال لي: لا يهمّ، قضى القدرُ بهذا وعليَّ أن أعود.
في غمرة هذا الجنون الصَّيفي الباريسيّ، قادنا صاحب الطاكسي التُّونسي إلى مطار شارل ديغول، ليستقلَّ سيف -على السَّاعة الرَّابعة عصرًا- طائرةً قطريَّةً نحو مسقط. غادر وهو يحمل في داخله خيبة كبيرة، خيبة من ذلك الانسان العائد من الموت، إنَّه إنسانٌ أحاطت به همجيَّة الخلاص من الفناء، وما أعقدها من همجيَّة!!.
لقد قضى سيف عشرة أيَّام بباريس صامتًا، يردِّدُ في كيانه رؤاه ليعيد تطهيرها من جديد بعد سنوات من الغياب. تلك الرُّؤى التي نضجت فوق نار العمر، باتت في طيِّ التَّعفينات الوجوديَّة خلال زمن الكوفيد مدفونةً تحت فاجعة الموت الجماعي، فكان كما لو أنَّه -وهو بباريس- يقوم بسحق أجزائها وحرقها وتنقيتها ليعيد بعثها من جديد. فها هو يتفقَّد الحيَّ اللاتيني الذي يحبُّه كثيرا، ونهر السِّين، وشارع سان ميشال الرَّهيب ومقهى الأوديون. كان يتطلَّع للقاء الأصدقاء أيضًا، لولا الأقدار التي هبَّت رياحُها فجأة على خيمة الحسابات.
في برهةٍ من الزَّمن، أحجم سيف عن هذا التَّرديد الشِّعري للنَّفس بعد أن تطلَّع ونحن في مقهى “لوتاس” المحاذي لنافورة سان ميشال إلى النَّاس كأنَّهم يُصبُّون من السَّماء كالمطر وينحدرون من أعالي حديقة ليكسمبورغ في شكل مزاريب تتجه نحو النَّهر.
قبل خروجنا من المغرب، أين شاركنا لأكثر من أربع أيَّام فعاليَّات المعرض الدُّولي للكتاب بالرِّباط، حجز سيف شقَّة كبيرةً بمدينة أونـﮔان لي بان. إنَّها مدينةٌ معروفة بنشاطها السيَّاحي، وبحمَّاماتها المعدنيَّة، وهي فضلا عن ذلك، تشرفُ على بحيرةٍ كبيرةٍ، لا يبتعد مجرى نهر السِّين عنها كثيرا. لهذه البحيرة ضفَّتان، الأولى متنزَّهُ النَّاس وممشاهمُ بها، تقع بين فندق لاباريار والحمَّامات من جهة، والكازينو الكبير من جهة أخرى، يتمشَّى السيَّاح بها ويجتمعون كلَّما نظَّمت البلدية حفلةً موسيقيَّة جُعلت منصَّتُها على الماء وسط البحيرة. أمَّا الضِّفَّةُ الثانية فهي على الجهة المقابلة من الأولى، تفصلها البحيرة كاملة، تستطيع أن ترى السُّفن الشِّراعيَّة وهي ترسو على يسارها. على هذه الضِّفَّة، تتراصُّ المقاعد في شكلٍ يسمح للنَّاس بأخذ قسطٍ من الاستجمام، أو الاستلقاء على الأرض لتلمُّس عشبها الأخضر الرَّطب خلال الأيَّام الحارَّة.
في هذه المدينة، تنفَّس سيف كثيرًا من الرَّاحة، وظلَّ تجوالُه على البحيرة كلَّ عصر رفيقًا ملازمًا له على الدَّوام. كان يسبحُ في حالة من السَّكينة التي تجعلُ المتأمِّلين يميِّزون النَّوارس وهي تقلِّبُ جناحها على ندى خفيفٍ، وتتركُ لهم الوقت كلَّهُ ليستأنسوا بالبطَّ والإوزُّ وبالبجعات البيضِ التي تلوي عُنُقها في كلِّ اتجاهٍ تعبيرا عن رغبتها في المشي بعيدًا عن الماء. أمَّا الغروب الذي يرسمُ نفسه على صفيح الماءِ، فلا توشوشهُ موجةٌ ولا يعتريه اضطرابٌ، إنَّه يصلحُ للرَّسَّامين بالتقاط الأضواء المعكوسة على الماء، والتَّركيز على ما تمنحه أعماق البحيرة من درجة واضحة من اللَّون الغامق.
في بحيرة أونـﮔان لي بان، ترسو بعضُ الزَّوارق على الضفَّة الثَّانية، مشدودةً إلى الرَّصيف بحبالٍ معدنية، فتضيف إلى النَّفس خبرة جديدةً بما يلزمها من واجب الرُّكون إلى القدر، بهذه الطَّريقة، كان يعبِّر سيف عن جدوى البقاء بعيدًا عن الضَّوضاء والأضواء، بما ينفع الرُّوح من الامتلاء خارج الصَّخب الكوني.
اتَّجهنا بعدها إلى حديقة إيل سان دوني الضَّخمة. استلقى سيف على كرسيٍّ بربوة الانطباعيِّين التي كانوا يرسمون عليها لوحاتهم مقابل النَّهر. تنفَّس صعداء السِّنين، وتشرَّب من سماء هذه الحديقة الكثير من الواردات الرُّوحية. اغتنم سيف عبوره بها ليلقِي تحيَّة الشُّعراء على روح الانطباعيِّين، التي لا تزال تفيضُ بنفسها على هذا المكان.
تتوفَّر هذه الحديقة التَّليَّة الطويلة التي تبلغ مساحتها 23 هكتارًا على إطلالات رائعة على نهر السِّين المحيط بها من الجهتين، أين تعبر السُّفن المتوجِّهةُ نحو المصبِّ بشكلٍ يدعو للتَّعجُّب والارتياح معًا. يجد المشاة فيها على الفور فسحةً وسط الغابات. إنَّها توفّر تنوعًا نباتيًا مثيرًا للاهتمام سمحت بوجودها كثرة أنواع التُّربات الرَّطبة، كشجر الصفصاف الأبيض، وغبيراء جار الماء، وشجيراتُ رماد الجبل، وشجر التُّوت، وشجيرات كزبرة البئر الشَّهيرة بأرض الصين وشجر الصَّمغ الأمريكي بأوراقه المتألقة في الخريف. وهي تعدُّ أمام المروج الكبيرة والتِّلال والوهاد موطنًا للثَّدييات وملاذًا مثاليًا للحشرات، كما تضمُّ حوالى خمسين نوعًا من الطُّيور على مدار السَّنة. وبفضل قرب نهر السِّين منها، فإنَّها تسمحُ بمراقبة بعض الطُّيور المائية التي يسهل التَّعرف عليها مثل البجع، والمورهان الدَّاكن وطائرُ الغرَّاء، وغيرها.
لقد باتت هذه الغابة المثيرة – منذ وجودها بالقرن التَّاسع عشر – مأوًى يأتي إليه الباريسيون للاسترخاء على حافة نهر السِّين، كما وفَّرت للرَّسامين مصدرا للبحث عن الإلهام فيها. ومن بين هؤلاء الرَّسامين نجد ألفريد سيسلي (1839-1889) الذي اهتمَّ برسم هذه الغابات، وهو فنَّان انطباعيٌّ من أصل إنجليزي، ولد بباريس وأمضى حياته كلُّها في فرنسا. تأثر بكوروت وكوربيه بعدما دخل ورشة شارل ﮔلاير عام 1862 بباريس، ويها اِلتقى مونيه وبازيل ورينوار. بعد أن لجأ إلى لندن عام 1870 أثناء الحرب الفرنسية البروسية، عاد إلى فرنسا أين وجد مصدر إلهامهِ الفنِّي في قرى إيل دو فرانس الصَّغيرة حيث رسم المناظر الطبيعيَّة التي غالبًا ما كانت هادئة ومريحة. يعدُّ ألفريد سيسلي أحد الفنَّانين الحاضرين في المعرض الانطباعي الأوَّل عام 1874، ولكن، على عكس مونيه، لم ينجح كثيرًا خلال حياته. على نحو متزايد، سيرفض الظهور مجدَّدًا لاسيما خلال المعرض الانطباعي الأخير عام 1886. ستتحوَّل أعمالُه نهاية حياته نحو الألوان الدَّافئة والسُّكون.
قبل أن نعود إلى الشِّقَّة، بالعمارة الحمراء التي تتوسَّطُ مدينة أونـﮔان لي بان، اتَّجهنا نحو مطعم فوبورغ الذي يعني بالعربيَّة الرّبضة، تناولنا عشاءنا هناك، برفقة عازف البيانو الذي يقتفي بموسيقاه أثر الموسيقيِّين الكلاسيكيِّين، نظر سيف إلى النَّادل، وقال له لا بدَّ أن تكون جزائريًّا. أخذتُ الأمر على محمل الهزل، فهذا الرجل الوسيم في أوروبيَّته مستحيلٌ أن يكون جزائريًّا، وبينما أنا أستبعد بيقينٍ فرضية سيف، ارتسمت في الوقت نفسه ضحكةٌ عريضةٌ على وجه الشَّاب، فقال له: صحيح، أنت محقٌّ، جدَّتي قبائليَّةٌ. احتضن الشاب سيف كأنَّه أخرجه من بئر عميق. أمَّا أنا، الجزائريُّ العارف بخبايا القوم، فتملَّكني السُّكون من فراسة سيف العجيبة. كان النَّادل، كلَّما مررنا بالمطعم، يلقي التَّحيَّة على سيف بضحكةٍ منبسطةٍ كزرعٍ ناضج، فهو الوحيد الذي أعاد له هويَّته المنسيَّة في تفاصيل الحياة الأوروبيَّة.
فتحنا النَّوافذ للنَّسيم المنعش، استلقى سيف على الأريكة باحثًا عن سكينةٍ ليليَّةٍ، ضحكنا قليلا من هذا الاكتشاف العجيب حقًّا، ثم غاردته لأتركه يخلدُ للنَّوم.