الدورة التاسعة لمهرجان “أيام فلسطين السينمائية” الدولي 2022 الذي تنظمه مؤسسة “فيلم لاب فلسطين” منذ عام 2014 بالشراكة مع بلدية رام الله تعيد طرح هذه الأسئلة ليس للبحث عن إجابات تحديداً بل لنتأمل التجربة كلها، ولنعيد صياغة أنفسنا وعلاقتنا بما نبحث عنه غالباً في السينما، وكأن الحكايات والقضايا التي تطرحها الأفلام الـ 59 المشاركة في المهرجان هي مساحة مفتوحة لإدراك العلاقة بين الأسئلة الكبيرة التي تخلقها السينما، وسؤالنا الشخصي عن جدوى انتباهنا لما نراه، وهذه العلاقة تتضح في السردية التي يمكن من خلالها، فهم ما ننتجه اليوم من أفلام، وكيف نمارس اختيارنا لما نشاهده ونتأمله، رغم تحديات الواقع والتمويل والعمل الجماعي التي غالباً ما تحد من التجربة، لذلك تحديداً لم يذهب مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” بعيداً عندما نظم برنامجاً موازياً لمسابقاته وعروضه الرئيسية، تحت عنوان “حديث لذاكرة بصرية” بمناسبة الذكرى الأربعين لخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وكأن المسافة المتروكة من الوقت بين الماضي والحاضر تسمح لنا ولو بشيء الجرأة أن نستعيد أنفسنا في اللحظات الكبيرة، وفهم تجاربنا في سياقات مختلفة، شكلتها السينما في مرحلة من التحولات السياسية.
يتنافس في المهرجان 9 أفلام في مسابقة طائر الشمس الفلسطيني للأفلام القصيرة، فيلم “ع البحر” للمخرج وسام الجعفري، “ضيف من ذهب” للمخرج سعيد زاغة، “فلسطين 87” للمخرج بلال الخطيب، “بحث” للمخرجة آلاء الداية، “براديسو،xxxl،١٠٨” للمخرج كمال الجعفري، “جواز أحمر” للمخرج عبده الأسدي، “في العودة إلى هبة أيار” للمخرج ربيع عيد، “الجدار” إخراج ميرا صيداوي، “صيف، مدينة وكاميرا” للمخرج أنس زواهري.
“صيف، مدينة وكاميرا”
قد يبدو السؤال منطقياً عندما ننطلق من محاولات القبض على المكان، ما الذي تشكله الصور في إطار البحث عن العادي، في مدينة متداخلة ومعقدة مثل دمشق؟ أن أكثر أفكارنا براءة لن تخرج من سياق الذاكرة، ليس لما فيها من شاعرية بل لشدة ما تملكه من تصورات عن هوية المكان، وهذا السياق الذي يدخل فيه فيلم “صيف، ومدينة وكاميرا” عميقاً، ليس للوصول إلى ما ننتجه اليوم من إشكاليات حول ماهية دمشق بل لنكتشف أنفسنا من جديد ونحن نرى المدينة في رتابة تنساق نسبياً إلى العادي والمكرر، لكن أكثر ما يدهشنا في الفيلم أن المدينة حتى في تكرارها تخلق شيئاً من الألفة يمكن أن نستعيد من خلاله أسئلتنا حول كل الذي تركته المدينة بداخلنا وهي تذهب يومياً نحو أكثر أفكارنا رعباً.
نقول عن الأشياء أنها بعيدة عندما لا نستطيع القبض عليها، أو حين تستطيع أن تضع فروقات واضحة بيننا، ولكن الفيلم يعيد صياغة هذه الفكرة، وكأنه يقول في مدينة مثل دمشق حتى أكثر الأشياء حميميةً لن تستطيع القبض عليها، حتى لو كانت جزءاً منا وتعيش بداخلنا، لربما هذا التداخل بين ما نراه وما نبحث عنه في دمشق يتشكل ببطء في الفيلم، فالهدف ليس أن ترى دمشق كما تتخيلها ولا كما تريدها، بل الهدف أن تتأمل الرتابة المريبة التي تنكمش بداخلك وأنت ترى المشاهد المتتالية التي يحاول الفيلم عرضها، ولربما هذا هو الانتصار، أن تخلق عالماً من الأسئلة في سياق ضيق، يحدده الجو العام للفيلم، من خلال اختيارات فنية تضع المشاهد أمام غواية الفهم والتقصي والبحث، خاصة أن خيارات الفيلم ليست جمالية، بل الخيارات تبحث عن محاولات القبض على المساحات العامة في المدينة وهي تذهب عميقاً في الحاضر وكأنه لحظة مستمرة يمكن من خلالها محاكمة الماضي وفهم المستقبل، وفي هذه الاستعارة من الزمن، علاقة متناقضة بين كل الاحتمالات التي تجيب عن سؤال ما الذي نراه في دمشق اليوم ؟ وهذا التعدد هو واحدة من الاحتمالات التي حاول أنس زواهري مخرج الفيلم الإجابة عنها بشكل غير مباشر، من خلال الانتقال من ما هو حميمي وضيق، إلى أماكن أكثر اتساعاً تملك في انسجامها مساحات أكبر للتأويل.
يظهر المكان الذي يلتقطه المخرج بشيء من البراءة، هذه الخيارات للأماكن لا نراها عادةً في شاشات التلفاز، وحتى لو ظهرت تظهر سريعاً وعلى عجل وكأنها مشهد طارئ وغير ضروري، لربما الخيارات التي تشاركنا شيئاً من الخسارة تتضح مع نهاية الفيلم، نحن لا نرى ما يمكن أن نشاركه فقط، بل نرى الزوايا الضيقة التي لم نعد نسمع عنها في دمشق، وهذه ملاحظة تستحق أن نقف عندها، كون المخرج يملك ما يقوله، وما يحاول أن يعيد صياغته مع المدينة، لا يذهب إلى حد الإدهاش، وكأنه ليس من أهدافه، بل الهدف الحقيقي من الفيلم، هو الاستعادة الضمنية لسؤال من نحن وماذا نفعل؟ وهذا لا يحتمل المفاجأة بقدر ما يتسع لكل احتمالات التأويل، حتى في الموسيقى التي يختارها الفيلم تتضح محاولات التمسك بالأسئلة عندما تصبح جميع الأجوبة أكثر ريبة مما نتوقع، من نحن؟ يبدو السؤال ساذجاً، ولكن عندما ترى الوجوه التي تلتقطها الكاميرا في الفيلم تستطيع أن تقبض على هذا الجواب الضمني الذي ينجرف فيه الفيلم، عندما يتطلب الأمر الجمع بين الكسور والصمت، يظهر هذا الفيلم وكأنه محاولة ضمنية لنشرح أشياءنا الجديدة دون أن نكسر حاجز الخوف.
“ع البحر”
قد يبدو سؤال المخرج وسام الجعفري في الفيلم ضمنياً وشفافاً جداً، “هل تستطيع ناهد أن تحتفل في عيد ميلاد زوجها المطارد من قبل جنود الاحتلال؟” فعلياً نحن لا ننتظر الإجابة، بل ما نبجث عنه في الفيلم هو ما وراء هذه الإجابة، وكيف يستطيع المخرج أن يخلق شخصيات تبحث عن العادي جداً في حياة ممتلئة بالتوتر والخوف، هذا البحث لا يلغي الإجابة ولكن يفرض بشيء من الخسارة حاجتنا لفهم الانتصارات الصغيرة التي تبحث عنها الشخصيات في الفيلم لكن تصل ولو بشيء من الخوف والريبة للحياة الطبيعية التي تتمنى الوصول إليها، لذلك كان بديهياً أن لا يكون أي شيء طبيعياً في الفيلم، لأن ما يجتمع في الفيلم هو جنود الاحتلال وإغلاق كامل بسبب انتشار فيروس كوفيدـ19، وهذا التقييد الضمني للشخصيات يضعنا أمام سؤال الأمل، ليس الأمل الساذج الذي يدفعنا بشيء من الإيمان لتصديق فكرة أن كل شيء سوف ينتهي يوماً ما، بل أمل أكثر خفة وأقل تصديقاً يدفع “ناهد” للبحث عميقاً في تفاصيل الحياة للوصول للحظة التي تركض فيها هي وزوجها في اتجاهين مختلفين وكأنها قالت ما كانت تريد أن تقوله منذ بداية الفيلم، وهو الركض المستمر في اتجاهات أكثر وحشة ينساق فيها الإنسان للوصول إلى نفسه من جديد، هذا الوصول هو الهدف الحقيقي للفيلم، الذي يدرك فيه المشاهد أن الهدف ليس الاحتفال في عيد الميلاد، بل الهدف أكثر تعقيداً وهو البحث عميقاً في ما تحاول قوله “ناهد” وهي تتأمل نفسها أمام المرآة قبل أن ترى زوجها، وما تحاول الوصول إليه من خلال الصمت حين يقول لها طفلها لماذا تصنعين الحلوى بينما اليوم ليس عيد ميلادي؟ وأخيراً عندما تبحث عن مكونات الحلوى في عالم مغلق لا يتسع لأبسط أحلامنا انسجاماً، ماذا يعني الوقوف ولو للحظة واحدة في مشهد حقيقي تعود فيه الشخصيات إلى نفسها بعيداً عن الفوضى التي تحيط بها ؟ إنه يعني كل شيء، وهذه الكل شيء هي حتماً ميزة الفيلم، ليس لأن ناهد احتفلت في النهاية مع زوجها لثواني في الجهة التي اتفقوا عليها، بل لأن المخرج استطاع أن يقول لنا كيف يفتت الفلسطيني أحلامه الكبيرة إلى آمال صغيرة، قد تبدو بسيطة، ولكن في الواقع هي حتماً تعني لهم كل شيء.
“الجدار”
لقد استطاعت المخرجة ميرا صيداوي أن تكسر في فيلم “الجدار” حاجز الحلم، وأن تستعيد بشيء من الجرأة هذه القدرة الرهيبة على فهم عالم المخيم، إن الضوابط التي يضعها الفيلم تدفعنا لنفكر من نحن في هذا العالم، إننا بكل بساطة حالمون، لربما هذا ما يجعلنا جديرين بالحياة، وهذا ما يصنع حدود واقعنا في حياة معقدة مثل حياة المخيم، لذلك بكل بساطة يمكننا أن نفهم الاقتباسات القصيرة التي يتركها الفيلم على لسان أبطاله، “نحن هنا في المخيم نخلق الإيجابية”، “لا يوجد شجرة في المخيم” قد تمر هذه الجمل سريعاً وكأنها تحتوي كل ما نحاول قوله، وكأننا نتجرد بعفوية من فهم ما نملكه في هذا العالم، ومن المؤسف أن الإجابة تتضح بالفيلم بهدوء، لا شيء تقريباً، وكأن هذه اللاشيء التي نؤمن بها هي دافعنا لنرى عالمنا من جديد بدون أن يصيبنا الإحباط ونحن نحاول من جديد أن نستعيد قدرتنا على قول ما نريد، لذلك لا يبدو مهماً أن ننتصر في نهاية الفيلم، المهم أننا تجرأنا على الحلم، واستطعنا أن نعيد بناء قدرتنا على خلق المساحات التي يمكن من خلالها استعياب حدود الممكن في عالم ضيق مثل المخيم، حتى في أبسط المشاهد، لا يتوقف الفيلم عن قول كل ما في الحلم من قوة، هؤلاء الشباب الحالمون، هم مرآة كبيرة لـجدران المخيم، لصوته وأبوابه، وأهله، أنهم بطريقة ما الصوت البعيد والهامس، الذي نستطيع أن نرى من خلاله ما تركه الخوف والفوضى والفقر وراءه، لذلك تستوقفني كثيراً الجمل التي يقولها أبطال الفيلم، كأنهم لا يجملون صورة المخيم، بل يستعيدون من خلال النقد، مفهوم وجودهم في مكان يستحق الكثير من النقد، “نحن محتلين حالنا” تبدو الجملة للوهلة الأولى ساذجة وكأنها تستنبط شاعرية غير موجودة في خطاب مثالي عن حياة المخيم، ولكن عندما ترى الفيلم في السياق الذي يبحث فيه، تدرك مدى أهمية هذه الجملة، وكيف استطاعت المخرجة أن تبحث جيداً في حياة الشباب الحالمين، استطاعت ميرا صيداوي أن تقدم لنا حياة كاملة لأكثر هواجسنا قلقاً، حيث عندما تصبح سائر الأفعال عديمة الجدوى، يتبقى لنا الإلهام وكانه أداة أخيرة لفهم جدوى الحلم، فماذا يعني أن نكون حالمين في مخيم مثل مخيم شاتيلا في بيروت ؟ يبدو السؤال منطقياً في الفيلم على لسان أبطاله، لأن الحياة تعلمنا في مرحلة ما، أن العالم لا يتسع لكل ما نملكه من فضول، ولكن نهاية الفيلم وجدت الجواب النهائي، إنه الاستمرار، الفيلم انتهى بالنسبة للمشاهدين بعد الشاشة السوداء، ولكن بالنسبة لأبطال الفيلم هو مستمر حتى الآن، إنهم يواجهون لليوم قدرتهم على استنباط المعنى من وجودهم في المخيم، إنه السعي المستمر، هذه هي الخاتمة التي تليق بفيلم تبحث أكثر أحلامه جرأة، على حياة أقل ألماً، ولربما هذه هي انتصاراتنا الصغيرة التي لا نراها أبداً على نشرات الأخبار، أننا مستمرون بطريقة ما لاستيعاب العالم، وفهم حدود أحلامنا، والعمل من أجلها.
أخيراً، يضيء الفضول جانباً جديداً من الأسئلة التي تتكون بداخلنا ونحن نشاهد الأفلام القصيرة التي اختارها مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” في دورته التاسعة، أنه يرسخ احتمالات الممكن في عالم اختبرناه كثيراً حتى صار من الجدير لنا فهم ما يمكن قوله من خلال السينما، ربما هذه هي الميزة التي أضافتها الأفلام القصيرة، أنها تربط المسافات في سياق مفتوح على جميع خيارات التجريب، لا تجريب ما نريد قوله فقط بل كيف نقوله أيضاً، وهكذا جاء كل فيلم بأسئلة ومساحة تخلق عالمها الخاص، لنبدأ نحن المشاهدين بإدراك ما ينقصنا من سياقات لندرك حدود حكاياتنا ورتابتها، وليس غريباً أن أسمي ما يحدث انتصاراً، ليس لأن الأفلام جيدة ولا لأن المهرجان واجه الكثير من التحديات، بل لأننا ما زلنا نحاول امتلاك ما نريد قوله وأن نفتح لكل حكاية نافذة تتسع للتأويل، حتى في أكثر أحلامنا جرأةً نحاول جمع الأجزاء المتناثرة لنقول لمرة واحدة كل هذا نحن، وكل ما نراه هو عالمنا المربك الذي نحاول دائماً النجاة منه.