“ستبقى صغيري على الدوام”: رسائل عادية بين لوي جيرمان وألبير كامو

ريم غنايم

شاعرة ومترجمة فلسطينيّة

لكنّ هذه الرسائل، والتي تعتبر من أطول رسائل الكتاب، شكل من أشكال اعتراف المعلّم بفضله على ما وصل إليه تلميذه اليتيم، وهي حدوديّة الاعتراف الحسّاس المنغمس بعاطفة الذكريات:

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

11/11/2022

تصوير: اسماء الغول

ريم غنايم

شاعرة ومترجمة فلسطينيّة

ريم غنايم

وباحثة، حاصلة على لقب الدكتوراة من جامعة حيفا في مجال الأدب المسرحيّ. عملت محرّرة مشاركة في مواقع أدبيّة ثقافيّة فلسطينيّة، وتكتب باستمرار في الملاحق الأدبيّة والثقافيّة العربيّة. صدرت باكورة أعمالها الشعريّة باسم “ماغ: سيرة المنافي” عام 2011، ومجموعتها الشعريّة الثانية “نبوءات” عام 2014. صدرت لها “أشعار”- ترجمة أشعار لجيمس جويس إلى العربيّة عام 2013. أشرفت على اعداد وتحرير كتاب “السؤالان: مقالات في الشعر والنثر” عام 2014. صدرت لها ترجمة رواية للأديب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي بعُنوان «مكتب البَريد» عام 2014، ومجموعته القصصية ” أجمل نساء المدينة” عام 2015. في نفس العام صدرت لها مجموعتها الشعرية الثانية “نبوءات”، ومختارات من الشعر الزنوجيّ الأمريكيّ بعُنوان “الموت في أرضٍ حرّة”. صدرت لها ترجمة “المدمن” للكاتب الأمريكي وليام س. بوروز (2017)، وترجمة رواية “مانديلا” للروائيّة تمار فيريتي زهافي (2017). في عام 2018 صدرت لها ترجمة قصائد هايكو للكاتب الأمريكيّ ريتشارد رايت بعنوان “هذا العالم الآخر”، وهي ترجمة لـ 817 قصيدة هايكو للكاتب. تصدر لها قريبًا ترجمة رواية “الغداء العاري” للكاتب وليام س. بوروز.

يشكّل الفيلسوف الفرنسيّ ألبير كامو (1913-1960) واحدًا من أهمّ وأشهر الفلاسفة في تاريخ الوجودية الفرنسيّة الحديثة. كان روائيًا وناشطًا سياسيًا وكاتب مقالات ومحررًا، وكذلك صحفيًا وكاتبًا مسرحيًا، وقد ركز على مسائل الوجودية، وجانب مصير الإنسان، والمعنى في الحياة والموت والانتحار.

وُلد كامو في 7 تشرين الثني 1913 في الجزائر وعاش مع والدته في ظروف أسرية سيئة وقد توفي والده لوسيان كامو، عامل زراعي، في الحرب العالمية الأولى عام 1914. أمضى كامو سنواته الأولى في الجزائر العاصمة وكان من الجيل الثاني من المهاجرين الفرنسيين إلى الجزائر. أثرت ظروفه المعيشية السيئة في الجزائر خلال طفولته وسنوات مراهقته وصغر سنه وتجربته كمهاجر في الجزائر على حياته بشدة. في سن الحادية عشرة (عام 1924)، تلقى كامو رعاية لحضور مدرسة ثانوية مرموقة بالقرب من الجزائر العاصمة من أحد أساتذته المتميزين، لوي جيرمان، الذي دعم مساعيه التعليمية. في عام 1930، أصيب كامو بمرض السل وعاش مع عمه لفترة قصيرة، قبل أن يعيش بمفرده. منذ ذلك الحين، كان على كامو أن يتعامل مع حياة مليئة بالمعاناة والألم والصعوبات. 

في عام 1936، التحق كامو بجامعة الجزائر وحصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة بينما كان لا يزال يتعافى من مرض السل. كتب أطروحته عن أفلوطين وتأثر بشدة بفلاسفة نيتشه وشوبنهاور والفلاسفة المسيحيين. خلال الثلاثينيات من عمره (1943-1953)، كتب كامو العديد من المؤلفات التي نُقلت إلى العربية، الأكثر شهرة منها: “الغريب”، “أسطورة سيزيف”، “السقوط”، “الإنسان المتمرد”، “الطاعون”، في إشارة إلى إلى موضوعات العبثية والاتصال الإنساني والمعنى والموت. كان كتاب Le Mythe de Sisyphe (أسطورة سيزيف)، وفقًا لكامو، موجهًا ضد الوجوديين الفرنسيين. رأى أن للعبث دورًا أساسيًا في الوجودية الفرنسية. ومع ذلك، لم يصنف كامو نفسه على أنه وجودي لأنه رفض أفكار الوجوديين الآخرين، مثل ادعاء سارتر بوجود علمانية في الحياة بينما اعتبرها عبثية. رأى كامو العالم على أنه غير منطقي والعبثية تكمن في مواجهة اللاعقلانية وتوق الجنس البشري الشديد وسعيه إلى الوضوح. الجنس البشري والعالم مرتبطان فقط من خلال العبثية. 

كان كامو أوّل من استخدم المصطلح “عبث-Absurd” في مؤلّفه المذكور “أسطورة سيزيف” الصادر عام 1943، حيث حاول أن يصف العلاقة بين كينونة الإنسان وبين الوجود من خلال بحثه لظاهرة الانتحار، وعلاقة الإنسان الحديث بالزّمن والحريّة، حيث يرى أنّ عالمًا قابلاً للتفسير بمعايير عقلية يحكمها المنطق يمكن أن يكون عالمًا يبعث الألفة في النّفس، في حين أنّ عالمًا انتفت منه المعايير يشعر الإنسان فيه بالغرب ويصبح العالم منفى وهذا المنفى يسبّب الإحساس بالعبثيّة. حدّد كامو معضلة الإنسان الرئيسية في سَعي الإنسان نحو حرّيته ووعيه بلا جدوى الوجود أو عبثيّته، ومن هنا اختار الحديث عن أشكال مواجهة الإنسان للا جدوى الحياة من خلال إقراره بلا معناها ولا معقوليّتها. قدّم كامو نموذج سيزيف من الأسطورة الإغريقيّة الذي حكمت عليه الآلهة برفع الصّخرة ودحرجتها عن الجبل، وهذا عمله إلى الأبد عقابًا على تمرّده على حُكم الآلهة. يرى كامو أن سيزيف يؤكّد بوضعه هذا عبثيّة الحياة ولا معناها من خلال حركته الدائريّة التي لا تنتهي بين صعود الجبل ونزوله، ولكنّه يشعر بالسّعادة رغم هذه العبثيّة:

كلُّ السعادة الصامتة لسيزيف تكمن هنا. إنّه يمتلك مصيره. وصخرته ملكه. وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان العبثيّ، حين يتأمل في عذابه، ويُسكت كل الأصنام. في عالم عاد فجأةً إلى صمته، تنبثق من الأرض آلاف الأصوات الصغيرة المتسائلة. نداءات خفية وغير واعية، ودعوات من كلِّ الوجوه، فهي تمثل النقيض الضروري وثمن الانتصار[…] وفي هذه اللحظة الحذقة التي يعود الإنسان فيها ليستعرض حياته، يتأمل سيزيف، الذي عاد إلى صخرته، تلك السلسلة غير المترابطة من الأفعال التي أصبحت مصيره، ذلك المصير الذي خلقه بنفسه، والمترابط في نظر ذاكرته، والذي سينتهي بموته. وهكذا، مقتنعًا بالأصول الإنسانية لكل ما هو إنساني، كالأعمى الذي يريد أن يرى وهو يعلم في الوقت نفسه أن الليل لا ينتهي، يتابع المسير دومًا. فالصخرة ما زالت تتدحرج.

أولى كامو الأولوية لفكرة أن البشر لا يمكنهم ولا يجب أن يعزوا معنى للموت أكثر من الحياة. ينعكس هذا الموقف أيضًا في رفض الانتحار كحل لتجربة الحياة التي لا معنى لها وفكرة الحياة الآخرة التي، وفقًا لكامو، تصرف الانتباه عن قبول اللامعنى للحياة ومتعة الحياة خلال هذه الحياة. مع ذلك، فإن الموت هو في النهاية ما يبقي البشر متصلين، لأن الحياة تنتهي بالجميع إلى الموت. يقود هذا الخوف من الموت البشر إلى الإيمان بخلق حياة ذات معنى يصرف انتباههم عن قلقهم من الموت. ومع ذلك، يرفض كامو هذه الفكرة ويؤمن بدلاً من ذلك بقبول حياة عبثية لا معنى لها والاستمتاع بالحياة لسبب بسيط هو العيش، حتى بدون معنى.

بالنسبة لكامو، كانت “النزاهة الفكرية” مهمة للغاية في سياق التساؤل حول طريقة عيش الحياة وجعلها ذات مغزى. يتأمل في مستويين من الأخلاق، وهما المعياري والأخلاق الفوقية. تتعامل الأخلاقيات المعيارية مع الأسئلة المتعلقة بالمبادئ والقواعد التي يجب أن يعيشها الناس، بالاعتماد على أفكار حول الصواب والخطأ. التمسك بالأشياء الصحيحة في الحياة يعطي معنى للحياة. تتعامل الأخلاق الفوقية مع “أخلاقيات المكانة العامة للمشروع الأخلاقي نفسه”، مثل طبيعتها الأساسية وقابليتها للبقاء وتبريرها. لذا، من منظور كامو، يجب النظر إلى الحياة على أنها مسعى أخلاقي على مستويات مختلفة. في سياق مسألة الحياة ومعناها ، يفكر كامو على نطاق واسع في العبث والصمت والتمرد والإخلاص، باعتبارها جوانب متصلة من الخطابات الوجودية، ولا عجب أن يسلط سلط جان بول سارتر في جنازته الضوء على “إنسانيته العنيدة” وعبثية موته المفاجئ الذي يظهر في نفس الوقت إنسانيته ووحشية الحياة.

في عام 1957، حصل ألبير كامو على جائزة نوبل للآداب كأحد أصغر الفائزين بها على الإطلاق، وقد انتهت حياته بشكل مأساوي في 4 كانون الثاني عام 1960، عن عمر يناهز 46 عامًا. في ذلك التاريخ انحرفت سيارة ميشيل غاليمار عن مسارها واصطدمت بشجرة. أصيب غاليمار، الناشر الفرنسي وصديق كامو، بجروح قاتلة، وزوجته وابنته بجروح طفيفة. أما ألبير كامو الذي رافقهم فقد كُسر معصمه وتوفي على الفور.

كانت هناك تكهنات بأن KGB متورط في وفاة كامو ، بسبب آرائه المناهضة للشيوعية وتشير كانتيللي (2020) إلى أن المخابرات السوفيتية أسكتت كامو بسبب حملته ضد السحق السوفيتي للثورة المجرية عام 1956. 

عُثر في جيب كامو على تذكرة القطار إلى باريس التي لم يستخدمها. وبجانب جثته كان هناك ملف ملطخ بدمائه، وقد احتوى على 144 صفحة مكتوبة بخط يد صغير. “الإنسان الأول”، كان الكتاب الذي نوى كامو أن يكتبه على مدار سنوات، وفقط في العام الأخير من حياته أخذ يشتغل عليه بشكل مكثّف. تدور رحى هذه الرواية حول سيرته الذاتية، ابتداء من طفولته في حي فقير بالجزائر، وقد كان كامو وقتها يتيما لم يعرف والده. منذ مقتل كامو، رفضت أرملته نشر الكتاب، لأنها كانت تعرف صرامة زوجها الذي اعتاد العمل على ست أو سبع مسودات للكتاب الواحد.

شخصّيتان أثّرتا في حياة الفيلسوف صاحب نوبل: والدته التي قال عنها كامو في خضم الحرب الجزائرية – “بين الدفاع عن العدالة والدفاع عن والدتي، سأفضل الدفاع عن والدتي”. وأستاذه لوي جيرمان، هذه الشخصية المفتاحيّة التي تركت بصمة في حياة كامو من طفولته والتي وُصِفت بحب كبير في “الإنسان الأول” ، هذا المعلّم الذي احتضن الطفل الموهوب والفقير تحت جناحه، وساعده في الحصول على منحة للدراسات العليا وفتح باب المستقبل أمامه.

في الكتاب الذي تقدّمه منشورات حياة، الصادر مؤخرا (2022) “عزيزي السيّد جرمان”، بترجمة بهاء إيعالي)، مراسلات مترجمة عن الفرنسيّة بين المعلّم جيرمان والتلميذ كامو يظهر فيها كامو فعليا بصفة التلميذ الممتن لأستاذه، والفيلسوف الذي ظلّ طفلا أمام جيرمان “والده” الروحيّ. فخامة الاحترام، والأسلوب الجليل، والنّبرة المتواضعة التي لا تنزاح ولو للحظة نحو إحساس العظمة، حتّى بعد الحصول على نوبل.

في هذه الرسائل ثمّة قدر من الكلام يوازيه قدر من الصّمت ينطق الكثير من وراء الكلام. يتعاملُ التلميذ كامو بأسلوب “الفائض” من الأخلاق المعياريّة، الانضباط الأسلوبي وفائض الاحترام الذي يرفعُ من توتّر النّبرة الصارمة بين المعلّم والتلميذ. فالتلميذ اليتيم، الذي فقد والده واستعاضَ عنه بمعلّم وأب روحيّ، عليه ألا يرتكبَ خطأ النّسيان الذي قد يؤدي إلى النّكران، ويتجاوز المعلّم، في حين يحافظ الأخير على قدر من التوازن المتوتّر أيضًا في نبرة الكلام وعلى مساحة تبقيه آمنًا كأب روحيّ في ماضي كامو، وتهب “الابن” قدرًا من الحرية الحدوديّة في التعامل مع معلّمه ومع قدر المعلومات التي يتبادلانها عبر هذه الرسائل، مشوبة باحترام حميمٍ ووفاء لا يجرؤ على كسره:

“ماذا عن مشاريعي؟ في الوقت الحاضر يتمّ تأدية مسرحيّةٍ لي في باريس، البعض رحّب بها ترحيباً حاراً فيما البعض الآخر تلقّاها ببرود، وبالتالي فإنّ النتيجة هي التعادل. دائماً ما يسلّيني هذا النوع من التفاعل. في العام القادم سأنشرُ كتاباً يتضمّن مقالاتي في صحيفة Combat، وكذلك كتاباً فلسفيّاً بعنوان “الإنسان الثائر”. بعدئذٍ… أود أن أرتاح وأعيش قليلاً بحرّيّةٍ أثناء انتظار القنبلة الهيدروجينية.

هذا هو الموضوع الرئيسي. وأضيف أنّني بحال جئت إلى الجزائر فسأذهب لرؤيتكم على الفور. وفي هذا الصدد سيسمح التلميذ لنفسه أن يستنكر جملةً من أستاذه الجميل: ألا وهي تلك التي تقولون لي فيها إنّ لديّ أشياء أفضل لأفعلها بدلاً من قراءة رسائلكم. ليس لديّ ولن يكون لدي ما هو من الأفضل فعله أكثر من قراءة رسائل الشخص الذي أدين له بما أنا عليه الآن، والذي أحبّه وأحترمه كأبي الذي لم أعرفه مطلقاً”.

عبر الرسائل المكتوبة بين الأعوام 1945 و1959 يفرض الاثنان حدودًا، يبتدعانها في مساحات الكلام العاديّ. لم نرَ في هذه الرسائل بطولات كلامية، ولا استعراض فكريّ أو متاهات فلسفيّة يجرؤ كامو على خوضها مع أستاذه. إنها رسائل منخفضة النبرة، مقتصدة، عاديّة في أغلب مضامينها. ويفرضُ التوازن نفسه من خلال تكرار الأسلوب، فلا نجد كامو أو جرمان في حالات متبدّلة، بل كلاهما يحافظ على ثبات العلاقة، وثبات النبرة، وثبات أسلوب الخطاب، ولعل هذا ما يمدّ الحميميّة المحترمة بينهما بشيء من الجديّة، تدعم احساس الرضا كنشاط لا بدّ منه للتواصل والاستمراريّة. هكذا يرمي كلاهما في الرسائل تفاصيل شخصيّة عن العائلة والزوجات والأولاد والكتب والمحاضرات. وبين هذه كلها، لا يمكننا أن نتجاهل وهج رسالة جيرمان إلى كامو بعد حصوله على نوبل، وهو يعلن لتلميذه قائلا: لقد نلتَها بشرفٍ جليّ.

لكنّ هذه الرسائل، والتي تعتبر من أطول رسائل الكتاب، شكل من أشكال اعتراف المعلّم بفضله على ما وصل إليه تلميذه اليتيم، وهي حدوديّة الاعتراف الحسّاس المنغمس بعاطفة الذكريات:

“لقد أحببتُ طلّابي ومن بين هؤلاء، أكثر بقليل، أولئك الذين عانوا من الحرمان في حياتهم. عندما أتيت إليّ، كنت لا أزال تحت تأثير الحرب وخطر الموت الذي جلبتْهُ علينا طيلة خمس سنوات. وقتها عدت، ولكن من بين الآخرين، الأقلّ حظّاً، هناك من استسلموا. من بينهم رأيتُ رفاقاً أشقياء سقطوا وهم يأتمنوننا على الذين تركوهم وراءهم. حينما فكّرت بوالدك أصبحتُ مهتمّا بك يا صغيري العزيز، بحيث أنّني غدوتُ مهتمّاً بأيتام الحرب الآخرين. لقد أحببتك قليلاً من أجله وبقدر ما أستطيع، ولم يكن لدي أيّ فضلٍ آخر. لقد أديتُ واجباً مقدّساً بنظري.

أنت مدينٌ بنجاحك لجدارتك وعملك، فقد كنتَ أفضل تلميذ لديّ ونجحت في كلّ شيء. ومع كلّ هذا كنت هادئاً ولطيفاً. آنذاك حينما قمتٌ بتسجيلك لامتحان السنة السادسة الابتدائيّة، كل ما كنتُ أقوم به هو واجبي. بالتأكيد طمأنتُ والدتك، والتي كانت خائفةً من المسؤوليات المالية التي خشيت ألا تكون قادرة على تحمّلها. كان عليّ حقًا أن أطمئنها، وأكشف لها عن وجود المنح الدراسية التي من خلالها لن تكلفها دراستك شيئًا. (لم أكن أعرف، حتى ذلك الحين، الوضع المالي لعائلتك بالضبط.

باختصار، إنّني لأعتبر أنّ فضلي بسيطٌ، وأنّ جدارتك عظيمة. بكلّ الأحوال، ورغماً عن أنف السيّد نوبل، ستبقى صغيري على الدوام”.

ويردّ كامو على هذه الرّسالة بنفس نبرة التلميذ المتواضع أمام معلّمه الأول، محافظًا على كرم الحميميّة وتواضع النبرة:

“…أردت أن أشكركم بحرارة على هذه “الذكريات”. لقد جعلت عاطفتكم من ذاكرتكم متسامحة. لم أكن مثالياً إلى هذا الحد بالتأكيد، وكان لي نصيبٌ من الخطايا. لكن كلّ التفاصيل صحيحة وقد ساعدتني على استعادة وقتٍ كان سعيدًا بالنسبة لي، على الرغم من كلّ الصعوبات”.

مع هذه الرسائل، يقدّم المترجم بهاء إيعالي ترجمة نصّ مأخوذ من فصل “البحث عن الأب” من روايته غير المكتملة “الإنسان الأوّل”، والتي يستحضرُ فيها جاك – الشخصيّة الروائيّة المماثلة لكامو – السيّد برنار (جرمان) أستاذه في الجزائر.

 يروي الكتاب (الذي سبق وتُرجِم كاملا إلى العربية) قصة حياة جاك التي توازي حياة الكاتب. ولد جاك في ضاحية فقيرة بالجزائر العاصمة، لأم أميّة، وقُتل والده في الحرب العالمية الأولى وعاش هو ووالدته وأخوه وعمه في شقة فقيرة مع جدته المسيطرة. عندما بلغ من العمر حوالي 40 عامًا، عاد جاك المقيم في فرنسا لزيارة والدته لمعرفة المزيد عن والده الذي زار قبره لأول مرة بعد أربعين عامًا. وعلى الرغم من الفقر المدقع الذي يسجن فيه أفراد عائلته توصف حياة جاك وأصدقائه كأطفال بأنها مليئة بالسعادة. الشخصية الرئيسية في الكتاب هي شخصية مدرّس جاك في المدرسة الابتدائية، المسمى السيد برنار في الكتاب (الذي يوازي شخصية لوي جرمان في الواقع). وضع المعلم المتفاني مجهوده في الولد الذكي، وعلى الرغم من أنه كان من المعتاد في الحي الذي يعيش فيه أن يترك الطفل الفصل الدراسي بعد المدرسة الابتدائية ليساعد في إعالة الأسرة، تمكّن المعلم من ممارسة ثقله وإرسال جاك إلى المدرسة الثانوية. تمكن جاك من النجاة من الفقر بسبب إكماله دراسته، وفتحت أمامه العالم الذي سمح له بالتطوّر واكتشاف موهبته.

صدر كتاب الإنسان الأول في فرنسا بعد أربعة وثلاثين عامًا من وفاة كامو. وتنبع أهمية هذا الكتاب من كونه وثيقة شخصية وإنسانية من الدرجة الأولى، حيث يتم وصف عالم طفولة كامو في الجزائر، التي عرفنا بعض مناظرها الطبيعية من كتبه ومقالاته، وهنا لأول مرة نتعرف على عالم طفولة كامو والبحث عن احتمالات السّعادة في عالم مسكون بالقسوة.
 

الكاتب: ريم غنايم

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع