صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة ترجمان كتاب “قاموس علم الجمال” وهو ترجمة بسام بركة وعلي نجيب إبراهيم لقاموس Vocabulaire d’esthétique في طبعته الثالثة لعام 2010. وقد أشرف الفيلسوف إتيان سوريو على لجنة إعدادا القاموس التي شارك فيها 36 باحثا من مختلف الجامعات والمراكز البحثية الفرنسية، غير أنه توفي قبل الانتهاء من إعداده للنشر واستكملت العمل آن سوريو وصدرت الطبعة الأولى منه في عام 1990.
يقع الكتاب في 2000 صفحة، ويشتمل على فهرس عام.
أهميّة هذا الكتاب جليلة، ولا سيما أنّ تداخل المسارات قد أصبح أمرًا رائجًا، بل مطلوبًا. وفي هذا السياق، يفتتح قاموس علم الجمال مجالًا معرفيًّا مُزدوجًا، فهو يُبرِز أهميةَ أن يستعين كلُّ علمٍ بما تُقدِّمه سائر العلوم، من جانبٍ، ويُنجِز الجهاز الاصطلاحي، راسمًا حدود هذا العلم الذي بَقي، منذ منتصَف القرن الثامن عشر حتى مُنتصَف القرن العشرين، فرعًا ثانويًّا من فروع الفلسفة، من جانب آخر. ومن ثَمَّ، حرص واضِعوه، بإشراف إتيان سوريو ثم ابنته، على تثبيت مصطلحات “علم الجمال” كما استعملها المُنظِّرون، والفنانون، والفلاسفة، على مرّ العصور.
تجد في قاموس علم الجمال كلامًا على “الألمعية” و”المثاقفة” إلى “الإرادة” و”الزوبعية”، مرورًا بـ “الصوت”، و”اللون” و”الشِّعر” و”الضّوء” و”الرّقص” و”العَزْف”، وغيرها كثير. ولا يكتفي هذا القاموس بتحديد معاني مصطلحات علم الجمال، بل يبحث في زوايا الحياة الفكرية والاجتماعية، والبشرية أيضًا، عن مكامن الجمال ومظاهره، فيُحلِّل مكوناتها، ويدرس تأثيراتِها، ويُقارِن بعضها ببعض، ويُبيِّن ارتباطها بالحسِّ الجمالي والنقد الفنّي عند الإنسان المُعاصِر. لذلك، كان حرِيًّا، فعلًا، أن يشتمل عنوان هذا الكتاب على كلمة “قاموس”.
أمّا أهمية هذه النسخة المترجمة التي نضعها بين أيدي القراء العرب، فتأتي لكي تَسُدَّ، في المكتبة العربية، ثغرةً كبيرةً، فهي ستُرسي أُسس فنٍّ جمالي جديد عليه أن يترك أُطر الذوق والإحساس، المحدودة أصلًا، من أجل الالتحاق برَكْب العلوم المستقلّة والمنفتحة في آنٍ.
نبذة تاريخية
يتعلّق الأمر بمشروع قديم جدًّا تحقق أخيرًا في قاموس علم الجمال. ويعود هذا المشروع إلى عام 1931، عندما أُسِّست “جمعية دراسة الفنون والأبحاث الخاصة بالفن”، بمبادرة من فيكتور باش، وشارل لالو. وقد وضعت هذه الجمعية من بين أعمالها المستقبلية تأليف “قاموس” في مجال الجمال على غِرار كتاب أندريه لالاند Vocabulaire technique et critique de la philosophie. وقد بدأ العمل فيه ببطءٍ شديد. ثم تسببت الحرب في عام 1939 في توقّف ذلك العمل.
في عام 1945، أصبح اسم هذه الجمعية “جمعية علم الجمال الفرنسية”، وبعد وقتٍ قصير استأنفت مشروع “القاموس”. لكن شُكِّل آنذاك عدد من اللجان المتوازية التي عملت منفصلة، ومن دون تنسيق في ما بينها. وهذه طريقة بالغة التعقيد. علاوة على ذلك، كانت تُؤدّي إلى استعمالات مُزدوجة من جهة، وإلى نقائص من جهة أخرى. وكانت تفتقر إلى المُقابلة الضرورية بين وجهات النظر في مختلف الفنون. ومع ذلك، تكوَّنت شيئًا فشيئًا بعضُ الأدوات من أجل تكوين المواد المستقبلية للأحرف الألفبائية الأولى.
ترأّسَ إتيان سوريو Etienne Souriau مشروع “القاموس” بعد شارل لالو Charles Lalo، فمنحَه زخمًا جديدًا، ونظّم إعادة تكوين مجموعات المُساهمين. وفي عام 1958، بادر إلى فكرة انطلاق أعمال تَوْليف المواد وكتابتها على يد “لجنة مركزية” تضمّ، تحت رئاسته، أمناء سر اللجان المختلفة. ومن خلال التجربة، اتضح أن المنهجية الجديدة أنجعُ كثيرًا من طريقة العمل التي سبقتها. وتدريجيًّا، تُرِكَت طريقة “اللجان المنفصلة”. وبدءًا من عام 1961، لم يبقَ سوى “اللجنة المركزية” التي اندرج في عداد أعضائها باحثون في علم الجمال من “المركز الوطني للبحث العلمي” CNRS.
كانت تلك أيام “القاموس” الزاهرة. عمِل فيه فريق مُوحّد، مُثابر على العمل، يجمع كفاءات مختلفة جدًّا حول مُعلِّم واحد يمثل روح الجماعة. فكان أحد أعضاء الفريق يُعِدُّ لكل مادة من المواد الصياغة الأولى، ويستعمل، قدر المستطاع، الأدوات التي حضّرتها اللجان السابقة. هكذا يدرس الفريق كلُّه النص نفسَه، وغالبًا ما يُناقِشُه، وإذا اقتضى الأمر يُكمله، أو حتى يُعيد صوغه، إلى أن يكتمل النصُّ النهائي. تلك طريقة مثيرة للاهتمام، لكنها كانت بطيئة. ومع ذلك، كان العمل يتقدّم.
تبيّنَّ تمامًا، من خلال الممارسة، أن العمل ضمن مجموعة أمرٌ ضروريٌّ، لأن هذه المنهجية كانت تُبرِز متطلبات مثل هذا “القاموس” وضرورة تحقيقه في آنٍ. وفي حقيقة الأمر، يقع علم الجمال في نقطة التقاءٍ بين سائر الفنون والأدب والفلسفة. لكن توجد كلمات تُستعمل غالبًا في كل ميدان من هذه الميادين، إلا أنها تكون موضوعًا لتوسيعات مختلفة، وتكتسب بذلك مَعانيَ شتّى.
من هنا، تطرأ حالات كثيرة من سوء الفهم؛ ذلك أنّ المتخصصين لا يُدركون دائمًا وجودَ تعدّد المعاني في الألفاظ التي يَعرفون لها، في اختصاصهم، معنى واحدًا. وإذا ظهرت هذه الألفاظ في قواميس الفنون والموسيقى والفلسفة … إلخ، فإنها تظهر في معانيها المُتخصِّصة هذه. لذا، يُفترض أن يُستخدَم قاموس علم الجمال للتفاهم في مكان يُدرِك فيه بعض الناس معنى كلمات يستعملها آخرون بمعنى آخر. وهكذا يكون عِلم الجمال صِلةَ الوصل بين الميادين المختلفة. أضِف إلى ذلك أن اللغة العامة تستعمل كثيرًا من الألفاظ في دلالاتٍ جمالية، لكنّ ذلك يحصل غالبًا بطريقةٍ غامضة نوعًا ما. لذا، كان من الضروريّ تنظيمُ المفاهيم بدقة في هذه الأفكار “المُشوّشة”. وفي حالات اختلاط المفاهيم، كان من الضروري أيضًا تحليل المفاهيم المتجاورة والتمييز بينها، وإدراك التعدّد فيها.
وليس من السهل دائمًا، في نظر الشخص الذي يُلِمُّ بمسألة ما، أن يدرك إنْ كان سائر الأشخاص الآخرين يفهمونه، أو إنْ كان كثيرَ التلميح، في سياقات تتطلّب التصريح، وأنه يكتب كتابة لا يُمكن أن يفهمها إلا المُطّلعون. لذا، احتاج كلُّ فرْدٍ في المجموعة إلى الآخرين كي يُساعِدوه في “ضبط نفسه”.
لقد قاموا بهذا العمل إذًا من خلال المشاركة، وكانوا قد جَمعوا عددًا كبيرًا من المواد. كان إعداد مواد الأحرف A, B, C، قد انتهى تقريبًا، والعمل في موادّ الحرف D قد بدأ عندما توفي إتيان سوريو، وكان هذا الأمر بمنزلة تسديد “ضربة” إلى القاموس كادت تكون مُميتة. إلا أن الفريق قرّر المُتابعة بالزخم نفسه. وكان أفضلُ تكريم يُقدّم للمُعلّم الفقيد أن يصِل مشروعه إلى نهايته. فما كان من أعضاء الفريق إلا أن استمروا في العمل.
حتى تلك اللحظة، كانت طريقة نشر القاموس لا تزال غامضة. فقد كانت ثمّةَ فكرة نظرية نوعًا ما متعلقة بإصداره في كرّاسات. وكانت بعض موادّه تُنشر في مجلة علم الجمال Revue d’esthétique، ثم كذلك، في مجلة التعليم الفلسفي Revue de l’enseignement philosophique. وتولّت آن سوريو Anne Souriau، التي استلمت مهمة التنسيق بدلًا من إتيان سوريو، مهمّة التواصل مع “المطبوعات الجامعية في فرنسا (PUF)”. وهكذا، أخذ القاموس مكانه في سلسلة المعاجم في هذه الدار، فأضاف إليها عملًا لم يسبق له مثيل حتى تلك اللحظة. وانضمّ إلى الفريق مُساهمون جُدد. وكان العمل يجري مُراسلةً في معظم الأحيان من أجل التسريع في كتابة المواد، إلى جانب اجتماعات شهرية مُستمرّة؛ ذلك أن فكرة العمل الجماعي كانت لا تزال قائمة.
الآن، بعد أن أصبحت شروط النشر مُحدّدة، كان لا بُدّ أحيانًا من العودة إلى المواد الموسّعة قديمًا، والتي كانت تتخذ شكلَ الروايات الطويلة. وكان على كلّ فردٍ – عند صياغته لمواد جديدة – أن يعود إلى الآخرين من أجل تقرير احتفاظه بجانب، أو آخر، أو حذفه أيضًا؛ إذ كان من الضروري ألّا يخضع المرء للمَيل إلى كتابة مبحثٍ في علم الجمال مرتب ترتيبًا ألفبائيًا، وكان لا بد من وضع قاموس. وفي كل حالة تثير الحيرة، كان يُبت في الأمر بأن يُحال إلى ثلاثة مبادئ هي: 1. قيام القاموس أولًا، قبل كل شيء، بتعريف الكلمات للذين لا يعرفون معناها، أو يعرفون بعض معانيها. 2. لا يفيد القاموس إلا إذا قدّم شيئًا جديدًا لا يوجد في القواميس الأخرى الموجودة. 3. إذا كان شرحٌ من الشروح موجودًا في إحدى المواد، فلا ضرورة لشرحه في مادة أخرى، لكن يجب تنبيه القارئ إلى موضعِ شرحِه حتى يستطيع أن يجِد ما يحتاج إليه. ويُحتمَل أنّ فريق العمل قد طبّق هذه المبادئ تطبيقًا سيئًا، والقارئ وحده هو الذي يحكم في هذا الأمر ذلك. لكنّ العودة إلى هذه المبادئ ساعدت فعلًا، في اتخاذ القرارات الصعبة.
هكذا شَهِدنا، في النهاية، إنجازَ “قاموس علم الجمال”.