يعد التطريز الفلسطيني، المتجسد بالثوب، الرمز الثقافي الأبرز لهذا التراث، أو هو ربما أكثر العناصر الثقافية التي تم الاعتناء بها والترويج لها فيما أُهملت العناصر التراثية الأخرى، لتصبح فلسطين بصورة أو أخرى أسيرة هذا الثوب.
اليوم يحضر اسم فلسطين وتراثها الثقافي في قوائم منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى جانب 131 دولة أخرى فيما يغيب اسم دولة الاحتلال. خاصة بعد انسحاب ممثلي “إسرائيل” من اليونسكو عام 2019 نتيجة ما اعتبروه تحيّز المنظمة للفلسطينيين. لكن ورغم أن الساحة كما يبدو فارغة أمام فلسطين للترويج لتراثها الثقافي غير المادي وتعريف العالم به عبر منبر اليونسكو، لكن الحكومة الفلسطينية والمؤسسات الثقافية المستقلة، لا تستثمر هذه الفرصة كما يجب. ففي عام 2021 حققت فلسطين إنجازها الأكبر بعد أن أدرجت اليونسكو “فن التطريز في فلسطين: الممارسات والمهارات والعادات” على لائحتها للتراث الثقافي غير المادي. كذلك الأمر ظهر اسم فلسطين إلى جانب 16 دولة عربية عندما أدرجت اليونسكو عنصر “الخط العربي” ضمن قائمتها التمثيلية عام 2021 وكان قد سبق ذلك ظهور اسم فلسطين ضمن الملف المشترك لعنصر “نخيل التمر: المعرفة والمهارات والتقاليد والممارسات” المسجل من قبل 14 دولة عربية على القائمة ذاتها عام 2019.
بكلمات أخرى؛ يمكن القول إنه وحتى الآن يعد “فن التطريز”، العنصر الوحيد المرتبط مباشرة بالهوية الفلسطينية والمسجل على قوائم اليونسكو، في حين أن “الخط العربي” و”نخيل التمر” هي عناصر ثقافية مرتبطة بالهوية العربية ككل ولا تشير بصورة مباشرة إلى الهوية الفلسطينية.
في المقابل يبقى مثار الاستغراب الأكبر أنه لم يسبق لفلسطين حتى الآن، وهي التي ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 74 عاماً، أن قامت بتسجيل أي عنصر ضمن قائمة اليونسكو للعناصر “المهددة التي تحتاج إلى صون عاجل”، رغم أنه وخارج أروقة اليونسكو، وعلى صعيد إعلامي أو شعبي يتم الحديث دائماً عن التراث الفلسطيني المهدد، المنهوب، والمطموس والمسروق.
على صعيد وطني، أنجزت وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2017 اللائحة الوطنيّة لعناصر التّراث الثّقافيّ الفلسطيني غير الماديّ التي تضم حتى اللحظة 18 عنصراً فقط وهي: موسم النّبي موسى، البدّاعة، الدِّحِّيَّة، الدّبكة، خميس البيض، الزجل، عيد الغطاس، زفة العريس، القهوة العربية، اللبن الجميد، ليلة الحنة، الزيتون، تراث الدالية، المسخن الفلسطيني، المجوز واليرغول، الكوفية، إلى جانب عنصري التطريز ونخيل التمر التي تم الإشارة لهما سابقاً. ورغم أن إنجاز هذه القائمة قوبل بالكثير من الحفاوة على اعتبار أنها إنجاز وطني وثقافي، لكنها تبقى قائمة حصرٍ متواضعة حتى بالمقارنة بدول عربية أخرى ولا تعكس حقاً غنى وتنوع الثقافة الفلسطينية، إذ تتضمن مثلاً اللائحة الوطنية لعناصر التّراث الثّقافيّ السوري 100 عنصراً في حين أحصت الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية 120 عنصراً من التراث الثقافي اللامادي في مصر.
هذا وتعد دول الخليج العربي، السعودية والإمارات بصورة خاصة أكثر الدول العربية نشاطاً واهتماماً بالعمل على توثيق عناصرها التراثية وإدراجها على قوائم اليونسكو. وبالطبع من المعلوم أن تسجيل العناصر عملية طويلة ومكلفة تنطوي على الكثير من التحضير المُسبق الممنهج والمؤسساتي الذي يتضمن مراحل من البحث وجمع المعلومات والتوثيق إضافة إلى تحليل السياق وتحديد أصحاب المصلحة أو الممارسين لهذا العنصر أو ذاك.
ومن أجل إدراج العناصر لا بد من تعبئة استمارة خاصة توضح طبيعة العنصر وأسباب اعتباره جزءاً من الهوية الثقافية لمجتمعه المحلي، إلى جانب التأكد من أن يراعي العنصر الشمولية والتنوع الثقافي ويعزز الحوار وألا يحض على العنف ويحترم البيئة وحقوق الإنسان، وبالتالي فصياغة الملف الخاص بأي عنصر من قبل الدول بما يراعي “معايير” اليونسكو شرط أساسي لقبوله. فعلى سبيل المثال حاولت السعودية طوال سنوات تسجيل عنصر “العرضة النجدية” على قوائم اليونسكو وفشلت في ذلك لأنه اعتبر نوعاً من رقصات الحروب التي تحض على العنف، حتى نجحت أخيراً في تسجيله عام 2016 بعد أن طمأنت اليونسكو وأكدت أن السيوف المستخدمة في الرقصة لم تعد تصنع من المعادن الثقيلة لأنها لأغراض الزينة.
من جانب آخر وفي حين تشترط اليونسكو أيضاً أن يتم تقديم العناصر بصفة “غير حكومية” من قبل المجتمع المدني والمؤسسات والأفراد المستقلين في هذا البلد أو ذاك، لا يخفى أبداً أنه وراء جميع العناصر المسجلة، العربية بصورة خاصة، قرار سياسي وتوجيهات حكومية تعمل في الخفاء وتفعل مؤسسات المجتمع المدني، أو تمدها بالتسهيلات لتنخرط في عمليات حصر العناصر الثقافية وإدراجها فيما بعد على قوائم اليونسكو. كما أنه وكثيراً ما يتم الاهتمام بعناصر ثقافية دون أخرى نتيجة لاعتبارات سياسية.
فاليوم مثلاً وإذا ما تصفح المرء قائمة العناصر التي تحتاج صوناً عاجلاً للعام 2022 على موقع اليونسكو سيجد أن أولى العناصر التي تم إدراجها لهذا العام كان حساء البورش الأوكراني. إذ يذكر في ملف العنصر أن الصراع الحالي الدائر في أوكرانيا يهدد بقاءه والممارسات المرتبطة به بالنظر إلى تهجير الأوكرانيين الممارسين لطقوس تحضيره ما ينتزعه من سياقه الطبيعي، إلى جانب تدمير البيئة المحيطة والزراعة التقليدية التي تعيق الوصول إلى المنتجات المحلية والخضار اللازمة لإعداد الطبق.
وبالرجوع للتراث الثقافي الفلسطيني، رغم جميع المآخذ التي يمكن وضعها فيما يتعلق بآلية اختيار اليونسكو للعناصر التي يتم إدراجها أو المعايير التي تعتمدها في هذا الاختيار، تبقى قوائم التراث الثقافي غير المادي سجلاً غنياً للتراث الإنساني، الحي منه أو المهدد بتأثير النزاعات والعولمة والحداثة. وبالتالي فهذه القوائم مساحة لحفظ الطقوس والممارسات الإبداعية والاحتفاء بالعلاقة مع الطبيعة والكون. يعني كل ذلك أن قوائم اليونسكو تشكل فرصة لاستكشاف جوانب جديدة من الهوية الفلسطينية وتقديمها للعالم، غير تلك المعروفة أو المتداولة. فرغم الأهمية الكبيرة للحطة والدبكة والمسخن الفلسطيني، ورغم ضرورة تسجيل هذه العناصر وربطها بصورة رسمية وعالمية باسم فلسطين، لكن تبقى المهام الأعقد والأكثر جوهرية ربما تعريف العالم بجوانب جديدة لا يعرفها عن هذا الإرث وتحديداً تلك الممارسات والطقوس المنسية التي قد ترتبط بالطبيعة أو التراث الشفوي أو الحرف اليدوية التي نتجت عن وجود الفلسطينيين على أرضهم وتفاعلهم مع بيئتهم الطبيعية والثقافية عبر مئات السنين.
وهنا تجدر الإشارة أخيراً إلى أن الصحافة الإسرائيلية نظرت سابقاً لخروج ممثلي دولة الاحتلال من اليونسكو “كوقت ينبغي فيه التفكير والتخطيط وتأمل لموقع إسرائيل في العالم”، فبعض الصحفيين يقترحون بالفعل عناصر “إسرائيلية” ينبغي العمل مستقبلاً على إدراجها في قوائم اليونسكو مثل طقوس استخدام الشوفار (البوق) اليهودي أو طقوس قراءة التوراة أو الشعر العبري المعاصر وطقوس زفاف الخمير وغيرها. أي أن دولة الاحتلال ليست منشغلة فقط بالحروب على هوية “صحن الحمص” كما يبدو الأمر للبعض، فهي إما تخطط لعودة قوية إلى أروقة اليونسكو يتم فيها تسجيل عناصر تعزز الاعتراف الثقافي والدولي بها، أو أنها ستجد قنوات ومنابر أقوى وأعمق تأثيراً تروج فيها لما تعتبره تراثاً وجذوراً ثقافية لها على أرض فلسطين.