إن استعادة الواقع الفلسطيني في الداخل المحتل وطرح أسئلته يضيء على جانب واسع من احتمالات النضال وأشكاله، وعن مساحات مفتوحة من السياقات التي يواجه فيها الفلسطيني جدوى وجوده ومدى قدرته على طرح أسئلته الشخصية، كل هذه الاحتمالات تعيد معنى سرد الحكاية في نطاق يمكن من خلاله فهم الرموز التي تصور الخطاب السياسي السائد ضمن شخصيات تعيش علاقتها الجدلية مع الاحتلال وجدوى النضال من خلال سيرة علم.
لقد استطاع فيلم “علم” من إخراج فراس خوري أن يطرح إشكالية الظروف التي ينشأ فيها الفلسطيني في الداخل، قبل طرح أسئلة النضال. كما يقدم اعتبارات البطولة ومفهومها بعيداً عن النمطية التي اعتدنا على طرحها، لقد فاز الفيلم بجائزة الهرم الذهبي لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الرابعة والأربعين، وبجائزة الجمهور. في هذه المقابلة التي خصصتها رمان الثقافية للفيلم سوف نناقش مع المخرج فراس خوري ظروف إنتاج الفيلم، وكتابة السيناريو، والاختيارات الفنية للعمل.
حدثنا عن بداية العمل منذ اختيار فكرة الفيلم وما تمثله من أهمية، اليوم في ظل الظروف التي يعيشها الداخل الفلسطيني في مواجهات مستمرة مع الاحتلال؟
الفيلم هو وليد فكرة خطرت لي قبل عشرة سنوات، وبالفعل هو من الشيء الذي نعانيه، حتى على أسطح مؤسساتنا الوطنية يوجد علم الاحتلال، مع أن هذا العلم لا يمثلنا، ولكن لأي حد مفروض علينا؟ وصراحة أنا لم أحب وجوده في الأعلى، من هنا جاءت الفكرة بكل بساطة، ولكن في الخطوات التالية للعمل، أحببت أن تكون الفكرة في قالب شبابي، والسبب في هذا الاختيار، كون الشباب يمثل الثورة، وأنا أردت أن أمثل الثورة على جميع المؤسسات، وعلى كل المنظومة، ليس فقط المنظومة الإسرائيلية بل والأبوية والتعليمية أيضاً، يمكنك أن تقول هذا هو الإطار الكبير للفيلم الذي انبثقت منه الفكرة، التي تتمثل في صناعة فيلم ثوري، وفعلياً هذا يحدث في الواقع أحياناً نرى شباناً فلسطينيين يبدلون علم الاحتلال بعلم فلسطين. انطلقت من شخصية تامر، هو يمثلني أنا، كوني عندما كنت في جيله لم يكن لدي الوعي السياسي العالي أو الوطني الكامل، بدأ البناء من شخصية تامر، وبما أن الحب أهم شيء في حياته، لذلك ينضم لعملية تبديل العلم فوق بناء مدرسته لأنه يشعر بالخجل من الاعتراف بخوفه أمام البنت التي يحبها.
أهمية الفكرة اليوم؟ فعلياً فيلمي ليس حيادياً، الفيلم واضح، هو جزء من نضال، لذلك أضم فيلمي لكل هذه المواجهة ولكل الجرحى والشهداء، الفيلم لم يعرض حتى الآن في فلسطين، ولكن تأثيره على الجيل الجديد سوف يكون واضحاً جداً، وهذا هو المطلوب. مع أنه يوجد مسؤولية هنا، دائماً كنا نقول أنك عندما تدعو الناس إلى مظاهرة، فعلياً هذه المظاهرة قد يسقط بها شهداء، فأنت يجب أن تأخذ كل المسؤولية، لذلك أفكر أني في هذا الفيلم انتقلت من الإنسان الذي يعتبر ناشطاً سياسياً إلى مسؤولية أكبر، لأنه لا يوجد شيء يؤثر على الناس أكثر من السينما من بين كل الفنون، لذلك أفكر أني أصبحت شخصاً أكثر صلابة وأكثر استعداداً لمواجهة الحقيقة، عن طريق عملي على فيلم يقود إلى التغيير الذي تصنعه الثورة، ويقود إلى تحريك الناس.
عندما نقرأ عن إنتاج الفيلم نرى اشتراك عدة دول “فلسطيني تونسي قطري فرنسي سعودي” حدثنا عن صعوبة الإنتاج وما هي التحديات التي يواجهها المخرجون في مرحلة إنتاج أفلامهم المستقلة؟
صعوبة الإنتاج لم تكمن في كون الفيلم مستقلاً، من المستحيل تمويل فيلم سوف يقوم بإنزال علم إسرائيل ورفع علم فلسطين، في هذه الحالة المال فعلياً سوف تجده في العالم العربي، ولكن المبالغ في العالم العربي قليلة، أخذت مني الحكاية عشر سنوات في محاولة تمويل هذا الفيلم، بالنهاية وجدت التمويل في الدول العربية التي دعمتني، التي هي فعلياً لا تخاف من رواية حكايتنا، يبدأ الفيلم بجملة مكتوبة على جدار: Dear rapist please be kind and allow me to tell my story. وهذه رسالة لكل الجهات والأشخاص الذين رفضوا تمويل الفيلم، مع أن قيمته الفنية عالية وأنا واثق بها، وقيمة السيناريو من جهة الدراما أيضاً واثق بها، وكان لدي ثقة أنني متمكن من القصة ويمكن أن أرويها بالصورة الملائمة، لكن ما أنا متأكد منه منذ البداية هو أنني سوف أواجه الرفض، لذلك في النهاية وجد الفيلم تمويله في الدول العربية التي على الأقل لا تخاف من السردية الفلسطينية، الأوروبي وتحديداً الألماني يخاف من السردية الفلسطينية بل وممنوع ذكرها أو الحديث عن تفاصيلها.
للحقيقة لقد ضحيت جداً، كان بإمكاني العمل على فيلم درامي آخر يتناول قصة بسيطة تمثل الاحتلال في الضفة، كون من السهل جداً الحديث عن الضفة، لأن سردية الاحتلال في الضفة يمكن تمويلها بسهولة من أوروبا، بما أنهم ضد سياساتهم الخارجية الرسمية، وضد احتلال الضفة، بالتالي كان أسهل بالنسبة لي العمل على فيلم يتناول قصة حاجز أو جدار، ولكن فضلت الحديث عن القصة الكبيرة، والقصة الكبيرة بالنسبة لي هي فلسطين كلها والنكبة. الثلث الأول من تمويل الفيلم جاء من تونس، والثلث الثاني من قطر، والمبلغ المتبقي من السعودية وفرنسا، الفيلم أخذ الدعم من فرنسا عندما كان المسؤول المخرج الموريتاني عبدالرحمن سيسكو تقريباً في عام 2016.
ضمن الخيارات الفنية للفيلم، اخترت الاعتماد في الأدوار الأساسية على فنانيين شباب بعضهم يؤدون أدوارهم السينمائية الأولى. حدثنا عن هذا الخيار، وكيف كان الرهان على الفنانين الفلسطينيين الشباب؟
فعلياً كل الأعمال التي قدمتها حتى الآن لم تكن مع ممثلين محترفين، دائماً ما تكون أعمالي مع ممثلين لا يملكون تجربة تمثيل، حتى عندما اختار ممثلاً معروفاً، أبحث عن الممثلين الذين يشبهون الشخصية، في هذا الفيلم أغلب الممثلين الذين اخترتهم هم ممثلون غير معروفين، ولكن جميعهم لديهم قدرة هائلة على التمثيل، عملت معهم لوقت طويل وهم فعلياً يشبهون شخصياتهم، ليس من ناحية البنية الفكرية، بل من ناحية الطبع وما يمكن أن يقدم للفيلم، مثلاً شخصية تامر التي مثلها محمود بكري، هو بالفعل في الواقع شخص هادئ وطيب، وشخصية ميساء التي مثلتها سيرين خاص، هي بالواقع شخصية متمردة وثورية، وشخصية صفوت التي مثلها محمد عبد الرحمن، هو بالتحديد بالواقع شخص وطني وذكي وحساس جداً، وشخصية “ضبور” هو فعلاً “دود” كما يقال في الثقافة الشعبية الفلسطينية، “دود” هي كلمة عبرية تعني “عم” يستخدمها من يغنون الراب، ينادون بعضهم بهذه الكلمة، وهم فعلياً ثوريون ولا يهمهم أي شيء في الحياة، قدم “ضبور” شخصية الإنسان غير الوطني، ولكن في الواقع هو وطني جداً، ولكن كان في الفيلم “دود” كلاسيكي الذي يهمه فقط الرقص والسخرية وشرب المخدرات.
اختيار الممثلين استغرق سنة وأكثر إلى أن وجدت ممثلين فعلياً يشبهون هذه الشخصيات والممثلين الذين يمكنهم أن يضيفوا للشخصيات أيضاً، لذلك برأيي محمود في الواقع أفضل من الدور الذي مثله بشخصية تامر وهو أفضل من الشيء الذي كتبته، وكذلك محمد عبد الرحمن أفضل من صفوت. وهذا الذي كنت أبحث عنه، وفي هذه النقطة تحديداً قدمت جهداً عالياً، لأنني كنت أبحث عن شيء عبقري ويضيف للفيلم والشخصية، تأمل مثلاً حساسية محمد عبدالرحمن وهو يمثل شخصية صفوت، هي إضافة كبيرة جداً للفيلم، وهو فعلياً أفضل مما كتبت، وأظن أنه سوف يكون النجم الجديد لفلسطين لأن التلون والتنوع لديه عظيم وبالفعل في الفيلم كان حقيقياً جداً لدرجة أني فتحت له المساحة ليقوم بما يريد، وجميعهم ممتازون جداً.
يطرح الفيلم صورة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من الداخل، بعيداً عن الصورة النمطية للبطولة التي اعتاد طرحها الإعلام وبعض الأفلام الفلسطينية، ما هو الحاجز الذي حاولت كسره في صورة البطل الفلسطيني في الفيلم؟
أظن أن أكبر ما حاولت تكسيره في السينما، والذي لم يحدث من قبل، هو البطل الضائع، وأفكر دائماً أن هذا النوع من البطولة تم تقديمه كثيراً في الأدب إن كان في كتب إميل حبيبي وغسان كنفاني وحسين البرغوثي، هذه صورة البطل الذي لا يعرف كل شيء وتخوض صراعاتها الشخصية بتخبط واضح، وإنسانية جداً، أظن هذا ما ينقص السينما، وهذا ما يؤدي إلى تعاطف أكبر، لذلك تحديداً أدبنا الفلسطيني أفضل من السينما، لأن أدبنا يحوي الضعفاء وليس جميع الناس أبطالاً خارقين، وعدا عن الخيارات الشخصية للبطل، ولكن أظن أن أهم شيء هو أن يكون هناك بطل هش، سوف ينصدم ويتعرض للضرب، ويتبدل، ويكبر، أفكر الآن أين انتهت شخصية تامر، تامر انتهى من إنسان عاجز إلى شخص يأخذ ردة فعل، وفعلياً السينما الفلسطينية تبدأ من أين انتهى تامر، وهذا الانتقال هو المهم. وأظن أن المشاهد يبحث عن الضعيف الذي يشبهه، لأننا جميعنا ضعفاء، ولكن لديه أمل بأن يصبح قوياً ويواجه ويأخذ ردة فعل، هذا التحول من عاجز لفاعل، ولكي أقدم ما لدي والناس تصدقني وتتفاعل معي، وتقول هذا أنا، أعطيت تامر البطولة، وليس صفوت.
في تطور أحداث الفيلم نرى الشخصيات التي تحاول تجنب مواجهة الاحتلال تذهب إلى خضم هذه المواجهة من خلال شخصية تامر التي تشارك في النهاية بالمظاهرات التي تواجه الجيش الإسرائيلي، على الرغم من كل الضغط الذي يتعرض له من قبل والده، ما الذي تمثله خيارات تامر اليوم في الفيلم، وما الذي كان يحاول استعادته بعد كل التحديات التي واجهها؟
أظن أن المعادلة واضحة بالنسبة لنا، إما أن تعيش بذل، أو أن تقاوم وتقول بكل بساطة “لا”. وكلمة “لا” هذه لها ثمن، وعلّمنا تاريخنا أن الثمن هو الدم. تامر في الفيلم أحب صفوت وتعلق به وأصبح صديقه وتعلم منه وكان لديه طموح أن يكون مثله، ولكن الثمن كان دم صديقه، الخيارات التي أمامنا واضحة، في الواقع هي مؤلمة، ولكن لا يوجد أي خيار آخر أمامنا، إما الذل أو الدم، هذه هي المواجهة بكل بساطة. تامر انتقل من الحياد إلى المواجهة، وهي مواجهة حقيقية، لا يوجد أي خيار سوى مواجهة الاحتلال، لم يكن يملك أي خيار آخر، وتم هذا التحول من خلال تعرفه على شخصية ميساء وصفوت الذين غيروه، وتامر يمثلني بمرحلة ما، وتعرفت على أصدقاء الذين غيروا طريقة تفكيري، والكتب والأفلام أيضاً، وشخصيات وطنية وسياسية غيرتني.