“إذا أتيت رام الله فأتني منها ببعض من آيس كريم الرُّكب”. بمثل هذه الكلمات افتتح الوزير السعودي والأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي إياد بن أمين مدني كلمته التي ألقاها في مقر جمعية الهلال الأحمر بمدينة البيرة عام 2016، وذلك في وصف لما طلبه منه أحد أصدقاء الطفولة الذين راودهم الحنين وسافرت بهم الذاكرة عندما علموا بقدومه إلى “رام الله”. فلطالما عرفت رام الله بأنها مصيف فلسطين الأول الذي كان يحتفي بزواره من مختلف بقاع الوطن العربي، وقد عرفها العديد من خلال أغنية “وين عرام الله” التي غنتها سميرة توفيق قبيل حرب حزيران 1967، حيث استحوذت صورة هذه المدينة التي تحتفي بالتنوع وتحتفل بالاختلاف على تصورات الكثيرين منذ البدايات، وسيطرت على أفكار العديد ممن مروا أو استقروا بها، وشكلت مسرحا لحراكهم وتنورهم سواءً في ذلك الطلبة وأفراد النخب الثقافية والسياسية أو حتى الناس العاديين، فهي مدينة متسامحة تبيح الاختلاط وتقبل التعدد، وتوفر مسارات متعددة لصياغة الهوية الشخصية. وقد قال في وصفها مريد البرغوثي صاحب كتاب “رأيت رام الله” في ستينات القرن الماضي أنها “عجيبة… متعددة الثقافات، متعددة الأوجه”. ورغم القرب المكاني وتداخل الحدود بين مدينتي رام الله والبيرة، إلى درجة يمكن أن تتصف معها المدينتان بالهلامية الحديّة نظراً لغياب فواصل جغرافية أو مناطقية واضحة، إلا أن الحدود الاجتماعية والثقافية بينهما لا تتقاطع في كثير من الأفعال والممارسات التي تنسحب على حضور المدينتين في الممارسة والفعل الاجتماعي-الاقتصادي والثقافي اليومي لسكانهما وزوارهما. وأجد أنه من الضروري، في هذا السياق، استحضار الصدى التاريخي للصورة الذهنية التحررية والمنفتحة لرام الله، التي يروج لها أنها تدمج الغريب وتساعد على انخراطه في نسيجها الاجتماعي، وذلك مقابل الصور النمطية التي تروج للبيرة بوصفها محافظة ومنغلقة.
خلال عملي محاضراً لأكثر من 12 عاما في كلية العلوم التربوية وكلية مجتمع رام الله التابعة لوكالة الغوث منذ مطلع العام 2003، تعرفت إلى ثقافات متباينة. كانت رام الله قد أخذت تنهض وبدأت تتعافى من آثار الدمار التي خلفها الاجتياح الإسرائيلي في 2002. لقد خطت المدينة نحو العالمية بخطى واثقة، وباتت فضاءً كوزموبوليتانياً يتهافت الجميع لتضميد جراحه وخرابه، فتم ضخ الاستثمارات الضخمة والرساميل المحلية المعولمة من قبل العديد من المستثمرين المحليين وشراكاتهم العالمية في بنيتها التحتية وفنادقها ومطاعمها ومشاريع الإسكان، ولم يعد مستهجناً استضافتها للمقاهي ذات الطابع المعولم والواجهات الزجاجية الفخمة وسلاسل المطاعم ومحلات بيع الخمور التي كان صيتها ووجودها قد خبا أثناء انتفاضة 1987. كان طلبة الكلية يأتون من أماكن عديدة فتجمعهم رام الله وتنصهر خلفياتهم المتعددة في بوتقتها التي عبرت حدود الزمان والمكان. لقد اختبر بعضهم السهر والرقص والتحدث إلى الفتيات اللاتي يعملن في محلات السوبرماركت الضخمة لأول مرة في مدينة لا تنام، في تجربة اجتماعية فريدة اخترقت وتجاوزت قيود العادات والتقاليد المجتمعية المحافظة، كما تعرف بعضهم إلى المسيحيين لأول مرة أيضاَ، وشاركوا في تكريس سمعة المدينة وواقعها في المُتَخَيَّل الشعبي كمدينة مزدهرة ومتحررة ومتصلة بحياة ذات نوعية أفضل، لتصبح قبلة الطامحين إلى حياة متمفصلة مع هذا المفهوم.
في الثالث عشر من كانون الأول لعام 2018، كنا نخطط للاحتفال بعيد ميلاد ابني، لم نجد مكانا ملائما تتشارك فيه العائلة هذه اللحظة ضمن أي من فضاءات البيرة التي تقيم فيها عائلتي لأربعة أجيال، ليس لجهلنا بأماكن السمر والترفيه الشحيحة ابتداءً، بل بسبب إشاعة مفادها اعتزام القوات الإسرائيلية اجتياح رام الله والبيرة في تلك الليلة. طوابير من السيارات المتدافعة تهرع باتجاه شارع القدس المؤدي إلى مدخل البيرة الجنوبي، المخابز مكتظة، وأرفف السوبرماركت أصبحت فارغة أمام القلق الذي سرى في عروق المدينة معيداً إلى الذاكرة مشاهد اجتياح العام 2002، وغدت البيرة مدينة أشباح بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وجدت نفسي مضطراً أمام شعور طفلي بالانكسار إلى البحث عن بديل، فكانت رام الله هي الوجهة، حيث مطعم “بحري” الفاره يعج بالحياة، يستقبل جمهور المحتفلين ويحتفي برام الله النابضة بأنوار الميلاد، بينما خلدت البيرة إلى النوم باكرا في ذلك المساء رغم القلق. ويمكن القول إن رام الله اليوم تشكل علامة فارقة بين المدن الفلسطينية في توجهاتها الاجتماعية والاستثمارية المنفتحة، رغم خضوعها كغيرها من المدن الفلسطينية لحالة مستمرة من الاستعمار الاستيطاني. وقد يوضح سلوكها المثير للجدل تجاه إقامة المقاهي والمطاعم ذات النمط الغربي والمباني ذات الواجهات الزجاجية الضخمة ترجمة لذلك التوجه المتهافت على إقحام المدينة ضمن منظومة رأس المال والاقتصاد العالميين، في حين تفتقر البيرة إلى مثل هذه الأجواء والأنماط المعمارية التي يمكن حصرها بأماكن محددة.
خلال شهر رمضان والأعياد، تستقبل سلاسل المطاعم والمقاهي التي تحتضنها شوارع رام الله، خصوصاً شارعي السهل والطيرة، عددا كبيراً من مرتاديها وتسهر معهم حتى ساعات الفجر الأولى، وتقدم لهم وجبات السحور. المشهد الذي قد لا تألفه البيرة سوى في ليلة السابع والعشرين من رمضان المرتبطة بقدسية ليلة القدر، وبذلك يكون السهر في سياق احتفالية دينية بعيدة عن أجواء السمر والترفيه التي تقدمها رام الله. في البيرة يخلد كل شيء إلى النوم مبكراً. لا ضيوف أو غرباء يسهرون هنا. النادل والسائق، أصحاب المحلات والمطاعم، والزبائن، كلهم يطفئون الأنوار لتنام المدينة بينما تأخذ رام الله قيلولة الاستعداد لسهر قادم حين يغادرها رواد الصباح من أبناء القرى المجاورة، ويتحول المشهد. تبدأ بسطات الشواء وعربات بيع الذرة والمشروبات الساخنة في الانتشار على جنبات الطريق في مشهد درامي يعيد إلى الذاكرة صورة المطاعم الشعبية في القاهرة والدار البيضاء. ليس غريبا أن ترى شاباً بمفرده يتناول عشاءً متأخراً في الشارع، أو ربما مجموعة من الأصدقاء، شباناً وفتيات، يتأهبون لدخول مقهى رام الله حيث يدخنون الأرجيلة ويلعبون الورق. في البيرة يغلق محل الفلافل الأشهر في المدينة أبوابه مبكراً، وبالكاد يسهر حتى التاسعة. أما إذا داهمك الجوع في منتصف ليلة من ليالي رام الله الباردة، فحتماً ستقودك خطاك إلى ميدان ياسر عرفات (دوار الساعة) حيث بائع الكعك ومحلات الشاورما والفلافل تظل مستيقظة وتعج بروادها حتى ساعة متأخرة، أو قد تحث المسير إلى شارع السهل حيث تلتهب مواقد الفحم فتنسى برد الشتاء في غمرة دفء الحديث مع بائع “غريب” مثلك تماما ولا يجمعكما سوى رام الله.