صورة الرجل في الأدب العربي المعاصر: ماذا يبقى من الذكورة دون ذكورية؟

نور أبو فرّاج

كاتبة من سوريا

ضمن هذا السياق سنتكئ في تحليلنا على عينة صغيرة من الأعمال الأدبية العربية التي أنتجت في الأعوام الأخيرة، لكن الملاحظات النقدية التي نستعرضها لا يمكن أبداً تعميمها على الأدب العربي كلل، خاصة وأن موضوعة "الذكورة والأدب" تستحق أن تكون موضوعاً لدراسات نقدية وبحثيّة معمّقة تعتمد تحليل مضمون متأنٍ لعدد كبير من الأعمال. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/01/2023

تصوير: اسماء الغول

نور أبو فرّاج

كاتبة من سوريا

نور أبو فرّاج

وكصحفية وباحثة مستقلة مع عدد من المؤسسات الإعلامية والثقافية.

مثلما خرج كتّاب القصة القصيرة “من تحت معطف غوغول”، خرجت الشخصيات الروائية الذكرية في الأدب العربي المعاصر من تحت جلباب وطربوش السيد “محمد عبد الجواد” بطل ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. فالسيد عبد الجواد بات التجسيد الأدبي للرجل المشرقي في العقد الأول من القرن العشرين، ومحفوظ امتلك في ذلك الوقت ما يكفي من الابداع والأمانة لرسم ملامح شخصية غنية ومتناقضة؛ محافظة ولعوب، متسلطة ومحبّة لكنها بالطبع سلبية فيما يتعلق بسلوكها نحو النساء. حدث الكثير منذ عام 1956 الذي كتب فيه محفوظ الجزء الأول من ثلاثيته بحيث بات من المهم السؤال اليوم عن صورة الرجل العربي المعاصر كما تظهر في بعض الأعمال الأدبية الحديثة.

الذكورة في الأدب

إذا ما استعدنا صورة التمثال المُفكر للنحّات الفرنسي أوغوست رودان، الذي يصوّر رجلاً عارياً يجلس على صخرة مستغرقاً يصارع أفكاره ومشاعره الداخلية، قد نسأل: “بما يفكر الرجل العربي المعاصر اليوم؟ وكيف يعكس صراعاته ومشاعره المرتبطة بخصوصيته الجنسية عبر الأدب؟”. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن اشتقاق “ذكورة” كما نعنيه يختلف عن “ذكورية” إذ يحمل الأخير صبغة سلبية باعتباره يشير إلى السلوكيّات والأفكار والقوانين والتفسيرات التي تُكرّس سيطرة الذكور في مجتمعٍ ما على الإناث. 

وبالتالي، لا يهمنّا هنا التطرّق بصورة مباشرة إلى نظرة الأديب الرجل إلى النساء وإنما بالأحرى إلى نظرته إلى نفسه وصراعاته ومشاعره والمآزق المعاصرة التي يجد نفسه في مواجهتها، دون أن يعني ذلك أن علاقته بالنساء قد لا تكون جزءاً من كل ذلك. 

ضمن هذا السياق سنتكئ في تحليلنا على عينة صغيرة من الأعمال الأدبية العربية التي أنتجت في الأعوام الأخيرة، لكن الملاحظات النقدية التي نستعرضها لا يمكن أبداً تعميمها على الأدب العربي كلل، خاصة وأن موضوعة “الذكورة والأدب” تستحق أن تكون موضوعاً لدراسات نقدية وبحثيّة معمّقة تعتمد تحليل مضمون متأنٍ لعدد كبير من الأعمال. 

أبناء وأحذية: مأزق الرجل الأب 

في رواية “أبناء وأحذية” للكاتب العراقي محسن الرملي الصادرة عن دار المدى (2018) يلتقي القارئ بـ أمير بطل الرواية للمرة الأولى وهو يعيش ذروة “خطأه التراجيدي” وفق المفهوم الذي وضعه أرسطو للخطأ المأساوي. فالرواية تبدأ بمشهد أب يحمل جثة ابنته في علبة حذاء فارغة ويطوف شوارع بغداد باحثاً عن الطريقة الأنسب لدفنها، موتها كان خطأه التراجيدي وإن لم يتسبب فيه، وهذا الموت سيقلب قناعاته ومسار حياته. فأمير الذي خسر ابنته وزواجه يقرر ترك العراق إلى إسبانيا هرباً من الذكريات، ويكشف مسار حياته بالقول: “انتقاماً من موت طفلتي في العراق، أنجبت سبعةً وعشرين طفلاً في إسبانيا وكولومبيا”.

هكذا تتبنى الرواية منظور الرجل وتحاول نقل صراعاته مع الحب والأبوّة. فأمير الذي خرج من العراق مكسوراً تحت ثقل أخطاء لم يرتكبها انخرط في الكثير من العلاقات العاطفية، نراه يعبّر عن مشاعره صراحةً في حواره مع إحدى عشيقاته قائلاً لها: “لست على ثقة أبداً من أنني سأكون بمستوى المسؤولية: أن أكون حبيباً أو زوجاً أو ابناً أو أباً”. تعكس هذه العبارة خوف البطل من ألا يكون أهلاً لثقة وتطلعات النساء من حوله، حتى وإن لم يرد تخيّب أملهن. يستبدل هذا الثقل فيما بعد بخفة مُطلقة ينتقل فيها أمير عبر علاقات عاطفية وجسدية حرة. والخفة هنا لا تأتي فقط من طابع العلاقات الحر، بل من تحرر البطل نفسه من مشاعر الذنب والخطيئة والمسؤولية، خاصة وأن عشيقاته كن متساهلات ومنفتحات، بحيث لم يردن أكثر من أن يهبهن أطفالاً. 

في ختام العمل يقدّم الرملي طرحاً طوباوياً يصوّر فيه حياة مشتهاة تمتاز بالخفة واليسر، لا مكان فيها للغيرة أو التملّك، ولا تطالب النساء فيها الرجال بالبقاء لتحمل مسؤولياتهم تجاه أسرهن وأطفالهم وأحبتهم. بحيث يبدو الأمر أشبه بصفقة رابحة للجميع؛ النساء يردن أطفالاً، والرجال يردن الخفة والتحرر من الذنب، كما لو أن الأبوّة ليست حاجة يستشعرها الرجّال أيضاً.

جوائز للأبطال: الرجل أمام استحقاق البطولة

في العمل الروائي الأول للكاتب المصري أحمد عوني، “جوائز للأبطال”، الصادر عام 2019 عن مركز المحروسة نجد أنفسنا نسائل علاقة الرجولة بالبطولة، ونخوض في توقعات المجتمع حول الرجل البطل. 

منذ الصفحات الأولى من العمل يخلق عوني مساحة يسودها الرجال، فرامي بطل الرواية تربّى في كنف أبيه بعد رحيل أمه للعيش خارج مصر، وهو الذي تخرّج من الجامعة الأمريكية واتخذ دون تفكير مكانه في المعمل أبيه، قبل أن يُزج بالصدفة المحضة في صفوف النشطاء السياسيين الذين بدأوا حراكهم السياسي إبان 25 يناير وما بعده. فقبل 25 يناير ماذا كان يوجد في حياة رامي غير البلاي ستيشن والعادة السرية والرياضة؟ 

يسود بين رامي وأبيه علاقة تغيب فيها السلطة الأبوية بشكلها التقليدي ويغيب فيها أيضاً التعبير المباشر عن الحب، لكن عالم الشاب يهتز برحيل والده ليجد نفسه في مواجهة فراغ كبير يتسع في داخله، فراغ لا يملؤه إلا الانشغال في هم أكبر. وحتى حينما يكون رامي في قلب الحدث، في قلب الميدان، يبقى دائماً على هامشه كما لو أن الأقدار زجّت به في لحظة تاريخية دون إرادة منه. في هذا العمل نرى أيضاً سؤال الأبوّة حاضراً فالأب يقول لابنه: “بس متجيبش عيّال، متبقاش حمار زيّ”، والابن بدوره يدرك أن مجيئه قلب بصورة أخرى حياة أبيه وجعله شخصاً مختلفاً. 

ضمن سياق أحداث الرواية يختبئ رامي خارج حدود القاهرة ويعود إليها بعد أشهر ليكتشف أن صوره تملأ شوارعها بعد أن رُقي شهيداً. مع استمرار صفحات الرواية يقارن رامي من مخبئه صورته التي تتضخم وتتلمّع في الوعي الشعبي مقابل صورته الحقيقة أمام نفسه التي تتضاءل وتنكمش فيجد نفسه أمام خيارين؛ إما البقاء ميتاً لإعطاء الجيل المحبط والغاضب الرمز الذي يتوق له أو البحث عن ميتةٍ أفضل تحمل قيمة أكبر، كما لو أن خيار العيش بهويته العادية غير الاستثنائية ليس مُتاحاً. بذلك، تنتصر الرواية لصورة رجل الهامش الذي أعلن عجزه واستسلامه أمام صورة البطل التاريخي. 

خبز على طاولة الخال ميلاد: للرجولة شكل واحد

في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” التي حازت على جائزة البوكر العربية لعام 2022 للكاتب الليبي الشاب محمد النعاس، تحضر الذكورة ليس بوصفها جزءاً من البنية النفسية للبطل، بل هي الموضوع الأساسي الذي يضعه الكاتب على طاولة النقاش. فميلاد الخبّاز بطل الرواية مُتهّم بـ”الميوعة”، وكل من حوله يطالبونه بأن “يسترجل”. فالبطل الذي يعيش في قرية ليبية يختبر تبادلاً كاملاً للأدوار الجندرية بينه وبين زوجته زينب؛ هو يطبخ وينظّف ويبقى حبيس المنزل في الوقت الذي تعمل فيه زوجته خارجاً لإعالته. على امتداد صفحات الرواية يتعرض سلوك ميلاد لسخرية وانتقاد من حوله وتحديداً أبيه وقريبه العبسي الذي أخذ على عاتقه مهمة تعليمه الرجولة. بينما تتقدم أحداث الرواية يستعرض محمد النعّاس بصورة مباشرة قائمة الأمور التي يسمح ميلاد لزوجته بفعلها بخلاف من حوله، كارتداء البكيني سرّاً للسباحة في شاطئ فارغ أو تدخين السجائر وشرب الكحول، كما أنه يتبرّع بنزع الشعر الزائد عن جسدها. لكن وعند التعمّق في فهم شخصيّة ميلاد كما بناها النعّاس يشعر المرء بأن المؤلف قّدم للقراء شخصيّة هشّة ذات هوية جنسية مضطربة، بدلاً من أن تكون منفتحة أو متوازنة بالمعنى الفعلي، بحيث يبدو ميلاد مغلوباً على أمره يتم التلاعب به من قبل زوجته من جهة ومن قبل معشر الرجال الذين أرادوا تشكيله على هيئتهم، ما يمهّد للخاتمة المأساوية والصادمة للكتاب التي ينتصر فيها المجتمع على ميلاد الذي يختبر ردّة فعل قاسية تحوله إلى رجل همجي مجرّم، كما لو أن النعاس يقول باستحالة وجود رجل منفتح ومتفهم وشجاع ليدافع عن موقفه كرجل مختلف أمام المجتمع. 

جسم مثالي لرجل مهم: الخوف من العطب

يضعنا الروائي المصري خالد البري في عمله “جسم مثالي لرجل مهم”، الصادر عن دار العين 2022، مباشرة أمام سطوة العضو الذكري على المخيّلة الجمعية المصرية والبشرية، عبر استعادة أسطورة الإله عزير الذي قتله أخوه ست ليستأثر بالعرش بعد أن قطّع جسده إلى أشلاء رماها في النيل، إلى أن جاءت الآلهة أست وجمعت أشلاء زوجها ومن ثم جامعته بعد أن صنعت له عضواً ذكرياً ذهبياً لتنجب منه ابنها الذي سيستعيد العرش. 

في رواية البري نتعرف على ربيع، الشاب الصعيدي الذي عاش مراهقة محكومة بالخيالات الجنسية حول إحدى الجارات، ومضطربة بتأثير مقارنة حجم عضوه بعضو قاطف البلح صاحب أكبر عضو في القرية. لكن حياة ربيع تتخذ منحى مختلف بعد وفاة والده ومعرفة أنه ينتمي إلى جماعة فرعونية سرية تعتبر نفسها امتداداً للفرعون المقتول وتمنحهم العضو الأسطوري المثالي لكن العقيم.  ربيع ينتقل بعد ذلك إلى لندن ويختبر هناك المدى الذي يمكن لعضوه أن يصله قبل أن ينفصل عنه كفراشة خرجت من شرنقة، ويكبر ويتمدد كنصبٍ عظيم أمام ربيع الذي بات خادمه قبل أن تعود الأدوار لتنقلب بين الاثنين.  

تستكشف الرواية خوف الرجال من “العطب” وسطوة عضو ذكورتهم على عقولهم وباقي أجزاء جسدهم بحيث لا يعرف إن كان وجوده هبة أم لعنة. يسأل البري في الصفحات الأخيرة من كتابه: “هل لأعضاء الذكور قيمة في غياب النساء؟ هل للعرض قيمة لو غاب جمهوره عنه؟” ويستنتج أخيراً أن هويته منفصلة عن عضوه، فالأخير هو الذي يستمد قوته منه وليس العكس. 

ذكورة دون ذكورية

في ضوء التغيّرات السياسية، الاقتصادية- الاجتماعية، والثقافية التي تترك أثرها الحاسم على بنية الأسرة العربية والأدوار الجندرية بين الجنسين، خاصة مع تصاعد تأثير الحركات النسوية وحركات الدفاع عن المرأةـ لم يعد الحيّز متاحاً للسيد عبد الجواد وأمثاله من الشخصيات الأدبية، وكان لا بد من ظهور شخصيّات ذكرية بسمات نفسية وثقافية مختلفة.  فهذه الشخصيات تعكس أسئلة كتابها ورحلة بحثهم الشخصية في مفاهيم الرجولة، فهل يمكن للذكورة بنظرهم أن توجد دون ذكورية؟ 

اللافت بداية أن جميع الأعمال الأدبية التي تم استعراضها ركّزت بصورة خاصة على علاقة الأب والابن، كما لو أن استكشاف الذكورة يبدأ من هناك، وكما لو أن شعوراً مهيمناً يثقل على أبطال تلك الأعمال الذين فشلوا في أن يكونوا رجالاً بما يكفي في نظر آبائهم. من جانب آخر كان من الملاحظ مدى الحرية في التعبير عن الرغبات والخيالات الجنسية لأبطال هذه الأعمال الأدبية إلى جانب الإشارات لاضطرابات الهوية الجنسية التي اختبرها أبطال معظم هذه الروايات في مراحل مراهقتهم.   

أخيراً يقال الكثير اليوم عن النساء بوصفهن ضحايا المجتمع الأبوي، لكن بعض الأعمال الأدبية التي تطرقنا لها كشفت كيف يمكن أن يكون الرجال أيضاً ضحايا لنفس المجتمع وكيف تلاحقهم تصورات وهمية، مثالية مغلقة عن صورة “الرجل الحقيقي” وتجعلهم يعيشون تحت ضغط مطاردتها، عبادتها، والإيفاء بمتطلباتها. 

الكاتب: نور أبو فرّاج

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع