الأستاذ يحيى ليس أستاذًا حقيقيًّا لكنّه يتصرّف كذلك. متقاعدٌ من دائرة حكومية كان يعمل مديرًا لها قبل خمس سنواتٍ فقط من تقاعده. وقد حصل أن وزَّع في إحدى المناسبات شهاداتٍ تقديرية لمشاركي إحدى الدورات التدريبية فأسماه المشاركون بالدكتور يحيى والتصق لقب الدكتوراه الفخرية هذا باسمه إلى ما بعد التقاعد.
هو رجل “مهفهف” يفتح عينيه نصف فتحة دائمًا ويتكلّم بصوت أقرب إلى الهمس، تتقوّس ذراعاه إلى الأمام عندما يتحدّث، ولا ينزع الباروكة السوداء من على رأسه حتى عندما ينام. ليس في خزانة ملابسه إلّا البذلات بألوانٍ مختلفة ولكل بذلة منها وردة مخصَّصة لعروة السترة. في إحدى المناسبات العائلية أقنعه أحد أقاربه بارتداء بنطال الجينز، فخجل من نفسه عندما رآها في المرآة وبقي يعتذر منها لأسبوع كامل قبل أن تُسامحه على الرغم من أنَّ لا أحد رآها فيه سواه.
اجتمعت كوابيس الدكتور معًا في أحد الأيام، حيث تبيّن له أنَّ الناس قد نست أو بدأت تتناسى قيمته الاجتماعية البارزة التي احتلَّها فيما مضى. فقد بدأ هذا النهار عندما دخل إلى متجرٍ للقرطاسيّة لديه آلة طابعة ليطبع قصيدة وطنية غزلية فخورة ومأساوية وعميقة في الآن نفسه، كان قد كتبها بعد أن فاضت قريحته في الليلة السابقة وركبه قرين الشعر. وسأل صاحب المتجر باللهجة العاميّة مراعيًا ثقافته المحدودة كونه من عامّة الناس:
– ممكن تصورلي كم روقة؟ حطيتلّك إياهم عالفلاشة.
– آسف أستاذ مدخل الفلاشة معطّل ممكن تبعتلي إياهم إيميل ومن عيوني
– لا، لا، أكيد لا، كيف يعني؟ خلص ما بدّي…
ويخرج من المكتبة وهو يتمتم
يذهب إلى الخضرجي لكي يُهدّئ من روعه وينعش ذائقته ببعض التفاح الصحّي لكي يشحن رشاقته الألمعية. يضع في كيسٍ بضع حبّاتٍ من التُفّاح الذي اشتهاه ووقف إلى جانب الصندوق مادًّا يده إلى الخضرجي ليستلم الكيس منه ويوزنه لكن يدا الخضرجي كانتا مشغولتين بأكياس الزبون الذي كان واقفًا قبله فقال له:
– أهلين دكتور، بتقدر تحط كيسك على الميزان عشان أوزنلك إياه
– لا، لا، أكيد لا، كيف يعني؟ خلص ما بدّي…
وضع الكيس على الأرض وخرج وهو ينفض يديه قائلًا:
– لكل واحد شغلته، أصلًا لولا ما بوثق إلا برأيي ما كنت عبيت الكيس أنا، ولو؟!
لم يجد بُدًّا يستعيض عليه من التُّفاح إلّا بالتنزّه. وبمدينة لا حدائق فيها بدأ يقصد الأرصفة التي نظريًّا هي مخصّصة للمشاة لكنّها عمليًا مزروعة بالأشجار التي تمنع المُشاة من السير عليها. حاول قدر الإمكان تجنّب النظر إلى الشارع وأمعن النظر في جميع الأشجار أمامه علّه استطاع خداع نفسه وإقناعها أنهما يسيران في الرّيف. لكنَّ أوصال تركيزه اهتزَّت عندما سمع بوق سيارةٍ يعزف أنغامه قاصدًا إياه. وناداه صاحب البوق والسيارة:
– دكتور يحيى، دكتور!
التفت نحو الصوت وردَّ ببرود:
– أهلين، أهلين حبيبي
– لوين طريقك؟
يئس من إمكانيّة إعادة تركيزه نحو الريف واستسلم للواقع وقرَّر العودة إلى المنزل.
– راجع عالبيت والله
– تفضل وصلك
ما إن ركب يحيى بالسيارة وصافح صديقه حتى توقفت السيارة عن العمل. صرخ الصديق:
ينزل ليفتح الغطاء ويُخاطب يحيى فيطلب منه:
ويمشي مبتعدًا وهو يقول لنفسه:
وصل إلى المنزل، جلس على الأريكة واجتاحته بارقة ملل فظيعة. كان عزيزًا تأبى نفسه ما تأباه. لكنَّ الملل كان بمثابة الثقل الراجح. أراد فورًا معانقة قصيدته مطبوعة وفوقها كان لا يزال يشتهي التفّاح. دخل إلى غرفة نومه وهُرع إلى الخزانة. فتحها وهو يتمتم: “عزيزٌ أنا، عزيزةٌ نفسي أنا”. بدأ يبحث بين ثيابه في الأدراج وتحت القمصان وفي طوابق الخزانة العلوية. وجده أخيرًا، ذلك الممنوع من الصرف؛ بنطال الجينز إياه. خلع سترته وبنطاله، أدخل الرجل الأولى في الجينز، كانت المرآة أمامه فاستذكر نفسه العزيزة، خلع باروكته ووضعها برفقٍ على السرير. أكمل ارتداء الجينز. ووقف بصلعته وجينزه أمام المرآة وانتبه لربطة العنق. خلعها وفكَّ الزر الأول. “مؤقّتًا سأكون رجلًا آخر. سأبتاع التُّفاح وأرسل الإيميل وأطبع القصيدة وأعود. لكن من أنا حتى ذلك الوقت؟ من أنا؟” أطال النظر في المرآة فبدأت نفسه العزيزة تضيّق عليه الخنّاق. بدأ يفقد قدرته عل تحمّل المنظر الذي أمامه. “عزيز، أنا عزيز واسمي عزيز لكن يجب أن أبتعد من هنا الآن.”
مشى عزيز متناسيًّا أنّه يحيى العزيز جدًّا باتجاه متجر القرطاسية. التقى عامل نظافةٍ وهو يضع بعض القمامة في صندوقٍ من الورق المقوّى كان يحمله باليد الأُخرى. سقط خارجه أثناء التعبئة منديلٌ ورقي، انحنى عزيز لالتقاطه وأعطاه لعامل النظافة بيده، ابتسم له بنفس البرودة التي عنده وقال بنفس الصوت الأشبه بالهمس:
– يعطيك العافية يا إبني.