“في الحرب لا يقف الظلام إلى جانب أحد، أما في الحب فإن الظلام يعني أننا معاً.”
جون بيرجر
استعادة السياق العام للحكاية الفلسطينية بلور أسئلتنا، خاصة في مضمون ما نخافه وما نحاول تجنبه، قد يكون الظلام الذي يقصده جون بيرجر هنا هو غياب البراءة، والحب هو المرادف الحقيقي لأولئك الذين لم نسمع قصصهم حتى الآن، أما في سينما ميشيل خليفي فإن احتمالات الحب تقود للمعنى، أما الظلام فهو الصمت، وتجاوز أولئك الذين لم يجدوا صوتهم حتى الآن، وكذلك الأمر بالنسبة للذاكرة، فإن القسوة لا تكمن في النسيان، بل بشيء أعمق يرى من خلاله ميشيل خليفي الزمن كأداة للإنصات، وإعادة ترتيب ما فاتنا من انتباه، خاصة إن الأسئلة الفلسطينية التي يطرحها ميشيل خليفي في أفلامه، غالباً لا تبحث عن إجابات، ولكنها تتأمل بحذر وعمق شديد احتمالات حكايتنا، بكل ما فيها من تناقضات، لذلك التأمل هو المعادل الأقوى للحلم في سينما خليفي، حتى عندما ننسى بماذا كنا نحلم، لأنه يرى في الأحلام ما يتجاوز الواقع، حتى في عتمتنا الشخصية يستنبط المعنى من تفاصيل ما نحلم به، حتى لو كان غامضاً وبعيداً.
أقيم في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت يوم الخميس الماضي، 9 آذار/مارس ندوة مع ميشيل خليفي، حاوره المخرج اللبناني هادي زكاك والمحاضر الجامعي ربيع الشامي، بالتعاون مع “نادي لكل الناس”. وضمت الندوة عرض فيلم “معلول تحتفل بدمارها” الذي يوضح الدمار الذي حل بقرية معلول بعد النكبة، كما تأتي الندوة ضمن سلسلة عروض سينمائية يقيمها “نادي لكل الناس” شملت عرض مختلف أعمال المخرج ميشيل خليفي مثل فيلم “حكاية الجواهر الثلاث” “نشيد الحجر” “الذاكرة الخصبة” “عرس الجليل”، وأعادت الندوات والحوارات طرح أسئلة السينما وعلاقتها مع التجربة والزمن وصعوبة الإنتاج بالإضافة لمفهوم السرد والتوثيق، أقيمت العروض في المخيمات الفلسطينية، والنوادي والمكتبات والمؤسسات في لبنان، وأعادت قراءة جوهر عميق عن مشهد كامل لا يخص القضية الفلسطينية فقط، بل جوهر المدينة في انهيارها وعلاقات القوة في مجتمعات تحاول أن تستعيد صوتها ضمن نطاق سياسي واجتماعي ضيق.
ذاكرة للحلم وأخرى للكلام
بدأ ميشيل خليفي مشروعه السينمائي وهو يبحث عن جدوى الاستعادة الضمنية للحلم، حتى في عملية تفكيك الشخصيات وإعادة بنائها، نرى السرد ليس ما يبلور الواقع فقط، بل ما يجمع كل احتمالات المستقبل أيضاً، لذلك النقد والإنصات وإعادة مراجعة الظروف السياسية والاجتماعية هو الجوهر، بينما محاولات الكلام هي تنويعات على الفكرة، ولذلك لا تقاس المحاولة بالنجاح والفشل، بل بالخروج عن النسق السردي الذي كان يحدد الأدوار السينمائية. في فيلم “الذاكرة الخصبة” السينمائي التسجيلي والذي يعتبر أول أفلام المخرج ميشيل خليفي عام 1980، نرى المحاولة التي جمعت الحلم بالإرادة والذاكرة بما هو أبعد من الرمز، من خلال سيدتين الأولى فرح حاطوم، الجدة المتمسكة بأرضها تعيش في الداخل المحتل وهي على تماس مباشر مع المجتمع الإسرائيلي، والثانية هي الأديبة سحر خليفة التي تعيش في الضفة الغربية، عالمان متوازيان لسيدتين تذهبان أبعد من الحكاية، وتقتربان من الكشف التفصيلي عن معاني الحياة اليومية للنساء، طوال الفيلم يرتفع التساؤل المصحوب بالمعاناة، ما الذي تعنيه المواجهة لهذه العوالم المفككة بين صور النساء وصوتهن؛ إنها تعني الانتصار المركب ليس للمخرج ولا للمشاهد بل للحياة والسينما، وهذا أعمق معنى تعري فيه الكاميرا اللحظة، وتذهب بشفافية مع الكلام لكي تصل إلى الجوهر، من أجل هذا تحديداً يمكننا أن نعتبر المخرج ميشيل خليفي من أوائل المخرجين الفلسطينيين الذين صوروا أفلامهم من خلال عناصر الواقع الأكثر هامشية وصمتاً، حتى في التأويل قد يكون الإنصات هو لغة الحلم التي نحاول أن نتكلم بها، ولكن ميشيل خليفي تجاوز جوهر اللغة، عندما وضع النساء في المركز، لا كأداة للشرح، بل للفهم، حيث حول صوت المرأة لمرآة تعكس التفاصيل، وتذهب أبعد مما تقوله اللغة اليومية، خاصة في السياسة والمجتمع، وهذه كلها حلقات تكمل استدارة الحلم، لأن الإيقاع المتوتر للصوت النسائي، كان يواجه الاحتلال من جهة ولكنه من جهة أخرى يواجه الذكورية والسلطة الأبوية، ويصل بشكل مباشر للرسالة السياسية والاجتماعية، التي لا تقبل تقسيم الحرية، حريتنا كنساء أولاً، وكأفراد ثانياً، وكوننا محتلين أخيراً، كون الصوت الذي يحاول طرحه ميشيل خليفي يتسع للهمس كما يتسع للنداء، لأن الرسالة السياسية والاجتماعية التي يسعى إليها لليوم لم تسقط ببرود في الشعار المباشر.
الحدث واحتمالات الواقع
السياق التجريبي في سينما ميشيل خليفي يرى أبعد من الاحتمالات، خاصة في فيلم “نشيد الحجر” الذي عُرض عام 1991، يحمل المخرج الأحداث ضمن خطين متوازيين، يبلور كل جزء منهما مفهوم التضحية، ليصير الواقع إشارات لإيضاح الرسالة السياسة، في الخارج نرى عناصر انتفاضة الحجارة وهي تحاول إعادة ترتيب المكان بنمط وثائقي تسجيلي، أما الداخل فهو امتزاج العنصر الإنساني بالمكان من خلال شخصية السيدة الفلسطينية الأربعينية المثقفة العائدة إلى الوطن، وشخصية حبيبها الخارج من المعتقل لأسباب نضالية، من خلال نمط روائي درامي، هذا التداخل بين ما هو شخصي وما هو عام، قدم الحكاية في مستويات كل مستوى يضيف للآخر ويكمل مسيرته، مستوى تفصيلي وصفي يقدم الفعل الإنساني في حركته اليومية، يرى الحب جوهر الأمان، أما الأرض فهي الصورة الأكبر التي تبرر كل الدوافع والأفعال، مع تغييرات موضوعية في العالم الداخلي للشخصيات، خاصةً وهم يواجهون أنفسهم وأسئلة المكان، ومستوى خارجي توثيقي، يحاول القبض على الزمن من خلال التضحية، يرى المواجهة هي الأمان، لأن الموت بمعناه الكبير لا يعني النهاية أبداً. حتى في المعاناة، يرى ميشيل خليفي في الانتفاضة ما يشبه السحر، لأن مزج المستويين في الفيلم قدم لحظة أبدية واحدة، يمكن استخدامها كمثال لما يتجاوز الواقع باحتمالات تبلور التجربة.
بنية أفلام المخرج ميشيل خليفي تبحث في عدة عناصر؛ المشترك في جميع الأعمال هو الحب، الأرض، المجتمع، الذاكرة، الحرية، الحلم، والعلاقات التي تجمع هذه الكلمات ببعضها، كثيراً ما يبدو واضحاً ضعف التمويل الذي يؤثر على التوسع الكامل بمعنى كل كلمة، ولكن في الحالة التي توحد العناصر في فيلم “عرس الجليل” الذي تم إنتاجه عام 1987 نكتشف رؤية تكسر استدارات الحدث، من خلال قصة عرس في قرية فلسطينية يقيمه مختار القرية لابنه، الذي تحتم عليه دعوة الحاكم العسكري الإسرائيلي للمشاركة في طقوس العرس، مع التوسع بدور النساء والرجال في القرية، وما تمثله الذكورية العربية، وكيف يمكن أن تنتهي العادات والتقاليد في مشاهد تصور الواقع وتعيد صياغته. الفيلم يحتمل الكثير من النقد والتحليل، لأن السلطة التي يواجهها ميشيل خليفي في الفيلم سلطة سياسية في مشاهد العسكري الإسرائيلي، وسلطة اجتماعية في غطاء السرير الذي لم يبلله دماء العروس بسبب عجز العريس في ليلته الأولى، وتمرد مستمر على أكثر من صعيد، على صعيد سياسي من خلال شقيق المختار الذي رفض حضور العرس، وعلى صعيد اجتماعي من خلال ابنة المختار الصغيرة التي ترتدي الجينز وتتحدث إلى الرجال، العرس الذي كان هدفاً للاستعراض وجمع العائلة، تحول تدريجياً إلى أداة كشف تعري الثوابت وتجادل التراكم الذي بني عليه المجتمع الفلسطيني من الداخل، وبهذا يعود ميشيل خليفي لفكرته الأولى، وهي أن الحرية هي الشرط؛ ليس بمفهومها السياسي فقط بل الشخصي أيضاً، على الرغم من انسياب الفيلم بهدوء نحو رؤية تحاذي الوجود الإسرائيلي كونه مراقباً حذقاً، وهو ما نجح به خليفي في نقل التخبط أمام سياسة الأمر الواقع، وعكس السلوكيات التي تجادل الموضوع الحتمي واليومي لحياة الفلسطينيين.
تعتبر أفلام ميشيل خليفي جزءاً من سياق لا يمكن تأويله في قراءة واحدة، خاصة ونحن نتابع البحث عن معاني جديدة تحتضن الواقع وتعيد صياغته، الاختبار الصعب يكون دائماً في رصد احتمالات الحياة، كونها إيقاعاً يعلو ويدنو ويقترب من الممكن ويواجه المستحيل، والحلم حلمنا جميعا هو حركة الإرادة داخل واقع معقد ومتداخل، استطاع ميشيل خليفي أن يعيد صياغته بأعمال تمثل هاجساً متراكماً لأسئلة ما زالت مفتوحة على إجابات مفككة لم تكتمل حتى الآن.