صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية: الجزء الثاني: مقاربات اجتماعية”. يقع الكتاب في 448 صفحة، وهو من تأليف مجموعة مؤلفين، وتحرير وتقديم مراد دياني ومحسن بوعزيزي.
يعالج الكتاب سؤال مناهج البحث في المقاربات الاجتماعية، وهو سؤالٌ يكتسي أهميةً كبرى، سواء من جهة إشكالات وتعالقات الذاتي والموضوعي، أو الفردي والجماعي، أو الجزئي والكلّي، أو الواقعي والافتراضي، أو الاستدلال الاستقرائي والاستنباطي، أو العَرَضي والمنتظم … إلخ. وعلى الرغم من أنها إشكاليات أساسية ومؤسّسة للبحث العلمي الاجتماعي، فإنها لم تلق نصيبها من الدرس والتأصيل في المجال التداولي العربي.
هذا الكتاب المخصص للمقاربات الاجتماعية هو الجزء الثاني من سلسلة كتب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية” التي يصدرها المركز العربي، في محاولة التصدّي لهذه الإشكالية المركزية، والإسهام في سدّ ثغرةٍ أساسية في الحقل العلمي العربي. وقد خص الجزء الأول من كتب السلسلة النظر في المقاربات الفلسفية والإبستيمولوجية في موضوع مناهج البحث. وتأتي أبحاث هذا الكتاب لتضع بين أيدي الباحثين والطلاب وعموم المهتمّين نخبةً من المقاربات الاجتماعية المميّزة والأصيلة.
سؤال المنهج في المقاربات الاجتماعية
يستهلّ عبد الله حمّودي الفصل الأول “سؤال المنهج في راهنيتنا: اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية”، وفيه يسائل “الأشياء” التي تبقى خارج التدوين، وكيف يكون المنهج في كتب المنهج وخارجها في آنٍ واحد، ويسائل أيضًا النقد الإبستيمولوجي العربي للمعارف الغربية التي اقتبس منها، والذي يرتبط مع علوم اجتماعية عربية مُقتبَسة من تلك المعارف، ليصل إلى سؤال أهمية وضع أسسٍ متجدّدة لإنتاج المعرفة حول مجتمعاتنا العربية، وهو ما يتصدّى له متسلّحًا بـ “منهج النقد المزدوج”، مركّزًا على ما يتجلّى خلال لحظة التجربة التي تحيل على “مسافة”، أو “هوّة”، أو “ثغرة” بين ما هو مقتبسٌ، والواقع المبحوث، في منزلة الـ “بين-بين” التي يعيش الباحث في فضائها. ويدعو حمّودي إلى أن يتشبّث الباحث بانتمائه إلى المجتمعات التي تربّى فيها ويدرسها في آنٍ واحد، وأن يتشبّث أيضًا بالكتابة باللغة العربية، مع التمكن من اللغة المركزية في العلوم الاجتماعية وفي راهنيتنا المعولمة، وذلك بهدف التنافس في فضاء عالمي مفتوح وجديد يتفادى التبعية، سواء في شكلها القديم أو في شكلها الجديد.
ويسعى محسن بوعزيزي في الفصل الثاني “المنهج والصدفة: مقاربة غير المتوقّع”، إلى فهم الظواهر الاجتماعية الراهنة وتفسيرها، فيما يسميه أشكالها “القُصووية”، ويخصّ منها بالدرس والتحليل سؤال المنهج الاجتماعي لدرس الصدفة ومقاربة غير المتوقّع. وهو يعدّ ذلك ممكنًا “شرط ركوب الموج وخوض غمار الصدفة في جَيَشانها، لتتكشّف الرؤية ونحن داخلها؛ أي قبل أن تكتمل ويهدأ فورانها”، عوضًا عن ترك الظواهر الطارئة تسير إلى أن يستقرّ مسارها، من دون تدخّل الدارس فيها، باسم الموضوعية والحياد وعدم التسرّع. وعلى اعتبار الصدفة سلوكًا اجتماعيًّا غير متوقّع، فإنها تحتاج، وفق بوعزيزي، إلى منهجٍ غير متوقع تنتجه اللحظة التي ظهرت فيها هذه الصدفة، وقد يكون المنهج التركيبي مفيدًا إلى هذا الحدّ أو ذاك في مقاربتها؛ لأنّه في الأصل بحثٌ في غير المنتظر، إضافة إلى المقاربات العابرة للتخصصات التي ينشئها الباحث بحسب الطوارئ في أثناء شقّه الطريق نحو دراسة الصدفة. ولا يخلو تصدّي بوعزيزي لهذه الإشكالية العويصة درسًا وتحليلًا من شاعرية، ليقترح الخروج عن الطرق المنهجية المعبّدة المعتادة، ونسيان طقوس المعرفة ومعتقداتها وحتمياتها، للتفكير حدسيًّا، وتنشيط المخيال السوسيولوجي، بما فيه من علاقة بين الإنسان ومحيطه. ويقترح أيضًا بناء نسق العلامات لبلوغ مقاربة سيميولوجية تقرأ ما لا يُقرأ عادةً ضمن سياق نصّي؛ لأننا لا نبلغ الصدفة إذا اكتفينا بقراءة “الرسائل الأولى”، بل يُفترض بلوغ الرسائل الثانية التي تلبس الأولى؛ أي قراءة ما بين السطور وخلفها، وما بين الإشارات وما تخفيه من قيمٍ اجتماعية وأخلاقية وأيديولوجية؛ لتصبح الدلالة الإيحائية نمط التفكير الملائم لرصد الصدفة وفهم زوابعها، فيخلص إلى أنّ جدارة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبخاصة علم الاجتماع، قد تظهر أكثر في دراسة غير المتوقّع من الأفعال والظواهر من دراسة الأفعال المتوقعة والمألوفة.
ويتناول محمد نعيمي في الفصل الثالث “محدودية نظرية الاختيار العقلاني في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية: حالتا حركة ’20 فبراير‘ وحراك الريف في المغرب”، دور نظرية “الاختيار العقلاني” في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية لتفسير بعض الظواهر، متسائلًا عن النظرية وقيمتها ومحدوديتها في دراسة “الفعل الجمعي”، وإنْ كانت الحركات الاجتماعية تنطوي على عقلانية معينة، ومدى اختلاف منطق الفعل الجمعي عن منطق الفعل الفردي، وإنْ كان اختيار الفرد انخراطَه في الفعل الجمعي يتحدد وفق منافع أو بحسب قيمٍ. ويتناول نعيمي هذه الإشكالية عبر دراسةٍ ميدانية للوضعية الاحتجاجية في المغرب، وتحديدًا بالنسبة إلى حركتين اجتماعيتين في هذا البلد “حركة 20 فبراير” و”حراك الريف”، ويُقدِّم من خلالهما حجاجه بشأن محدودية العقلانية الأداتية في نموذجها “الأولسوني” الذي يُعاني في نظره قصورًا منهجيًا وإبستيمولوجيًا إزاء هذا النوع من الظواهر الاجتماعية التي يخضع فيها الفعل الجمعي الاحتجاجي لمنطق مغاير غير منطق العقلانية الأداتية المستندة إلى مُسلمة “مبدأ التكلفة والربح” التي تفتح المجال أمام تفسيرات بديلة تعتمد “حوافز رمزية” أو تنتمي إلى “عقلانية أكسيولوجية”. ويخلص إلى ضرورة توسيع دائرة العقلانية لتشمل المجال الإدراكي، بما يُمكّن من تفادي السقوط في فخ اختيار جد مبسط بين كائنٍ اقتصادي مفرط في العقلانية، وكائن سوسيولوجي من دون عقلانية، والانفتاح على عقلانية أكسيولوجية تأخذ في الحسبان مجموعةً من القيم، وتخطّي خطاطة المنطق الأرسطي الثنائي القيم إلى منطق ديالكتيكي ثلاثي القيم، في إطار منهج يسعى نحو التكامل.
وينطلق عبد الرحمن المالكي في الفصل الرابع “الميدان والمنهج: حول نشأة التحقيقات السوسيولوجية في الغرب والمغرب”، من حقيقة أنّ تاريخ العلوم الاجتماعية ليس تاريخ “النظريات” و”البرَدايمات” فحسب، بل أيضًا تاريخ “التحقيقات العمالية” و”التحقيقات الاجتماعية” التي تطوّرت في القرن التاسع عشر، بتزامنٍ مع الاهتمام المونوغرافي للملاحظين الاجتماعيين؛ ما ساهم في تراكم كمٍّ هائل من الوقائع والمعطيات التي تزامن ظهورها مع النظريات التطورية الكبرى في القرن التاسع عشر، قبل أن تُتجاوَز هذه النزعة “العلموية” مع بدايات القرن العشرين، ويجري التوجّه تدريجيًا في اتجاه نزعة تستلهم الفلسفة البراغماتية والنزعات الإمبريقية و”الميدان”، بمناهج وتقنيات جرى استلهامها أولًا من الأنثروبولوجيا، ثمّ بحسب ما تقتضيه طبيعة الأبحاث ومجالاتها. وبعد عرضه ما الميدان في علم الاجتماع، وتطور تيار التحقيقات الاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، مع تركيزٍ خاص على “مدرسة شيكاغو” وتميّزها بالبحث الميداني الإمبريقي، ينتقل المالكي إلى درس تطور البحث السوسيولوجي الميداني في المغرب، ليخلص إلى أنّ الانغماس في الميدان الذي نسعى إلى فهمه أو تفسيره ينبغي أن يكون انغماسًا تامًا وكافيًا، وأنّ ذلك لا يتأتّى إلا إذا شعرنا بعد إنهاء التحقيق أنّ هذا الميدان قد غيّرَنا ومارس علينا التأثير نفسه الذي كنا نريد أن نمارسه عليه.
الفصل والوصل
يطرق محمد عبد النور في الفصل الخامس “الفصل والوصل بين الإنساني والطبيعي في علم الاجتماع ومكانة المقاربة البيوسيميائية”، موضوعًا ندَر ما نجده مطروقًا في الكتابات الأكاديمية العربية؛ وهو “التطورية”، ليستكشف من خلاله الآفاق المنهجية للوصل بين البُعدين الإنساني والطبيعي من خلال تمحيص الصلة العضوية المباشرة بين البيولوجي والاجتماعي بدايةً، وإعادة استكشاف قوانين المجتمع الإنساني غايةً، من أجل التعرّف إلى مدى خطورة التغير الذي سيطرأ على إبستيمولوجيا الاجتماع الإنساني. ويعتبر أن من نتائج رأب الهوة بين الإنساني والطبيعي اندماج التاريخ البشري (الثقافي والحضاري) ضمن دائرة التاريخ الطبيعي الكبرى؛ ما سيوسّع النظر إلى المجتمع البشري من حيث امتداده في العمق التطوري للحياة، وهو ما سيعمل على التحرّر من أفق النهايات، ويعني بها أطاريح “نهاية التاريخ” وهي نتاج حتمي للتصورات المثالية عن العقل المتمحورة حول مركزية الإنسان وتفريده اعتباطيًا عن بقية الموجودات. ليخلص عبد النور إلى أنّ التنظير والتحليل السوسيولوجيَّين سيقومان مستقبلًا على منظورٍ شبكي تفاعلي، طرفاه الوراثة والبيئة، ويعني بالوراثة بُعديها “الجيني” البيولوجي و”الميمي” الثقافي، ويعني بالبيئة بُعديها الإيكولوجي المادي والاجتماعي الرمزي، في تأثيراتٍ تبادلية لامتناهية، بحيث لا تصبح الغاية الأساسية هي الانتهاء إلى نموذج نظري ثابت، بقدر ما يكون الهدف هو تحقيق فهمٍ وإدراكٍ سببي لكلّ دقائق الوجود الاجتماعي.
في السياق ذاته، يتناول عبد الحليم مهورباشة إشكالية الفصل والوصل في العلوم الاجتماعية من منظورٍ مغاير في الفصل السادس “العلوم الاجتماعية من برَدايم الفصل إلى برَدايم التركيب: نحو طرح إبستيمولوجي بديل”، منطلقًا من مسلّمة أنّ العلوم الاجتماعية باتت في المؤسسات الجامعية الحديثة مجموعةً من التخصصات العلمية المتناثرة بين الأقسام الدراسية والمختبرات العلمية؛ إذ نعثر على تخصصات معرفية عدة يندر التواصل المعرفي بين المشتغلين بها. ولفهم الوضعية المعرفية التي آلت إليها العلوم الاجتماعية، يوظّف مهورباشة المنهج الأركيولوجي، من خلال الحفر في الجذور المعرفية والسياقات التاريخية التي تشكّلت في رحمها هذه العلوم، مسائلًا المبادئ التي مثّلت أعمدتها الإبستيمولوجة ومنطلقاتها المنهجية، من أجل درس العلاقة المتشابكة بين برَدايم الفصل والعلوم الاجتماعية، وكيفية انعكاس مبادئه على فروعها المختلفة، والحدود المعرفية التي ارتسمت بين فروعها، ويعمل على تفكيك هذه العلاقة المتشابكة بتوظيف برَدايم جديد في فلسفة العلوم المعاصرة لإعادة الوصل بين فروع العلوم الاجتماعية. ويسعى، من وراء ذلك، للكشف عن البرَدايم الذي انتظمت خلفه الممارسات المنهجية والخطابات النظرية في العلوم الاجتماعية، التي تسهم في بلورة وعيٍ نقدي لدى الباحثين بالمرجعيات المعرفية التي تطورت في ظلّها هذه العلوم. ويوصي مهورباشة بإعادة النظر في المسارات التكوينية للباحثين في الجامعات العربية، من خلال صياغة مناهج دراسية تتقاطع فيها فروع العلوم الاجتماعية، والتفكير في تأسيس مختبرات بحثية محور اشتغالها المركزي بردَايم التركيب في فلسفة العلوم المعاصرة، وإنشاء فرق بحثية تنجز دراسات اجتماعية حول ظواهر معينة، يشترك في إعدادها باحثون من مختلف فروع العلوم الاجتماعية.
مقاربات في حقول المعرفة
تُعرّفنا أمل عادل عبد ربه في الفصل السابع “الإثنوغرافيا المؤسسية واستكشاف الواقع الاجتماعي: مقاربة تجريبية في دراسة دوائر المعرفة المصرية”، إلى منهجية “الإثنوغرافيا المؤسسية” التي تقدّم مقاربةً تربط التنمية بالمعرفة “من الأسفل إلى الأعلى”. وتعني بها معرفة الواقع الاجتماعي وما فيه من فاعلين اجتماعيين يمارسون حياتهم اليومية وتجاربهم داخل الأنظمة المؤسسية. وتعتمد الباحثة منهجية بحثية لعلم الاجتماع بديلة تختلف عمّا هو سائد عادةً في هذا الحقل؛ إذ تسعى هذه الإثنوغرافيا المؤسسية إلى دراسة سلوك الناس وتفسيره بغية وضع نموذج جديد للمعرفة لا يهدف إلى تشييء الواقع الاجتماعي واعتباره كيانًا منفصلًا عن سلوك الناس، فتنطلق من حياة الناس اليومية وممارساتهم وتجاربهم من أجل معاينة انسجام أفعالهم وذاتياتهم وتمفصلها مع المؤسسات بوساطة النصوص. ويتعلق الأمر عند الباحثة بالكيفية التي تقوم بها المؤسسات بتنظيم حياة الناس اليومية، وبأنطولوجيا الاجتماعي بما هو تنسيق للأنشطة العادية عبر اللغة بما هي عامل تنظيم وترتيب للذاتيات، وعبر وساطة النصوص. ومن النتائج الرئيسة التي توصلت إليها في دراستها الميدانية التي شملت أربعةً من مواقع الدوائر المعرفية في مصر (معهد تكنولوجيا المعلومات، ومدينة الأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية، والقرية الذكية، ومكتبة الإسكندرية)، إبرازها تقييد وصول الجمهور إلى مواقع الدوائر المعرفية هذه وجعلها مناطق معزولة ومُسوّرة، وهذا ما تصفه بأنه “حجبٌ لهذه المشاريع والمناطق التنموية”، ومفاقمةٌ للإقصاء الاجتماعي لشرائح معينة من المجتمع المصري، وخاصة شريحة خريجي نظام التعليم العام.
يستكشف محمد أوالطاهر في الفصل الثامن “سوسيولوجيا التعليقات على الإنترنت: مدخل جديد لتفكيك جدلية الدين والتديّن في خطاب المتلقّي العربي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي”، مناهج البحث السوسيولوجي في العوالم الافتراضية الناشئة، ومدى ملاءمة المناهج التقليدية لدرسها، في مقابل الحاجة إلى اجتراح مقارباتٍ مستجدّة متّسقة مع خصوصياتها. ويعدّ أوالطاهر “خطاب المتلقّي” على الإنترنت، من خلال تعليقاته، بمنزلة المسكوت عنه في الدراسات السوسيولوجية المتعلقة بالموضوع، التي جرى تجاهلها في الأبحاث السوسيولوجية باعتبارها ثانويةً وهامشية، في حين أصبح الهامشي في الفكر المعاصر مصدرًا من مصادر الحقيقة السوسيولوجية، لكونه مفعولًا من مفعولاتها المرتبطة بالسلطة. وهو يخصّ بالدرس جدلية الدين والتديّن لدى المتلقّي العربي من خلال مدوّنة إعلامية منشورة في وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الرأي الإلكترونية. وينطلق من القارئ في علاقته بالنص، مستعينًا أيضًا بـ “نظرية التلقّي” التي جرى تطبيقها في مجال النقد الأدبي، وفي علم الاجتماع أيضًا. وقد شملت الدراسة الميدانية 200 مادة إعلامية (140 مرئية، و60 مكتوبة)، بما يتجاوز 4000 تعليق على شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الرأي الإلكترونية. ويخلص إلى تأكيد أنّ المدوّنة الإعلامية لم تعد حاملةً للمعنى فحسب، بل صانعة له وكاشفة عنه في ذهن المتلقّي أيضًا، من خلال التعدّد الدلالي والسياقي الذي يتشكّل فيه خطابه؛ فقد أصبح النص مرآةً تعكس رؤية الواقع، ولم يعد يبني رؤية جديدة له. ويعدّ أوالطاهر أنّ مدخل سوسيولوجيا التعليقات على الإنترنت يفتح آفاقًا واسعةً في مقاربة إشكالات سوسيولوجية لا تزال إنتاجاتها هامشيةً في المجال التداولي العربي، خاصة لاعتبارات أمنية وسياسية وأيديولوجية، مثل الإشكالات المتعلقة بالجنس والسياسة والتطرّف والإرهاب، التي يكاد يكون مستحيلًا دراستها ميدانيًا (من خلال المقابلات، أو استطلاعات الرأي، أو المجموعات البؤرية … إلخ)، في حين نجد أنّ مجال التعليقات الذي تتيحه المواقع الإلكترونية ذات الصلة بهذه المواضيع قد عمل على القبض على ما لم يفتأ ينفلت من الدرس سوسيولوجيًا، سواء كان ذلك بسبب الرقابة الذاتية، أو الحظر الثقافي، أو الرفض الاجتماعي، أو المتابعة القانونية.
يعرض منير السعيداني في الفصل التاسع “التذويت والموضعة: الداخلي والخارجي في التحليل العلمي الاجتماعي”، الحركة الاجتماعية التي اندلعت في تونس خلال كانون الأول/ ديسمبر 2010 واستمرت إلى ما بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011، متحولةً في الأثناء إلى انتفاضةٍ فثورة، والتحديات التي يضعها تحليل تلك الحركة أمام كل باحث فيها من منظور العلوم الاجتماعية عامة، ومن منظور علم الاجتماع خاصة، ولا سيما قضية العدالة الاجتماعية. ويستعيد السعيداني النقاش القديم/ المتجدّد بين علماء الاجتماع والباحثين فيه حول زاوية النظر إلى الحدث/ الظاهرة/ الفعل، سواء بالتعويل على ما يراه فيه/ فيها فاعلوها، أو على اعتبار هؤلاء مجرد “فَعَلَة” لما يجسده منطق اشتغال الاجتماعي ويتجاوز أفهامهم في آنٍ معًا، بالتعويل على ما لا يداخله “الحس المشترك” من العقلنة التفسيرية الخارجية للظواهر الاجتماعية، مسلّطًا الضوء على أوجه التقابل و/ أو التكامل بين “الذاتي – الموضوعي”، و”الداخلي – الخارجي” في مقاربة الفعل الاجتماعي. ومن منظور هذه الترابطات، يعتبر السعيداني هذه السيرورة مرورًا من البُعد الذاتي إلى ما يسمّيه “المَوْضَعَة” (ويقصد بها “مَوْضَعَة” الذات في سياق بناء العالم الاجتماعي، وخلق إطارِ فعلٍ اجتماعي ذي وجود موضوعي له صبغة مؤسسية يُمكن دراستها سوسيولوجيًا)، لفهم الحركات الاحتجاجية التونسية التي تحولت في النهاية إلى ثورة.
ثنائيات: الميكرو/الماكرو، الداخلي/الخارجي، الكوني/المحلي
يقتفي علي جعفري في الفصل العاشر “الميكرو – ماكرو: في إلزامية تبيان آليات الانتقال”، أثر تفكيك الواقع الاجتماعي إلى مستويات تحليل كلية (Macro)، وجزئية (Micro)، ووسيطة (Meso)، مسلّطًا الضوء على المستويين الأولين بالدرس والتحليل، لا سيما بالنظر إلى آليات الانتقال بينهما. وبعد مناقشة فئات الفصل القائمة بين الميكرو والماكرو، بمقياس الحجم، يعرض جعفري للفصل بينهما بمقياس الإشكالية، والفرضية، ووحدة التحليل، خاصًّا بالنظر سجال محمد الشرقاوي مع جيمس كولمان بشأن أطروحة ماكس فيبر في الربط بين المتغيرات السوسيولوجية. ويقدّم جعفري تصنيفًا للنظريات يشمل عشرة أنواع “مثالية” تقوم بمسح النظريات السوسيولوجية الموجودة والآتية، مع ضمّه في كلّ نوعٍ مثالي النظريات التي توافقه، وعرضه النظريات التي يجب تبيان آليات مرورها بين مستويات الواقع من الميكرو إلى الماكرو؛ وهي النظريات التي تنشغل بتفسير الانتظامات الاجتماعية بصياغتها لفرضيات، عقلانية أو لاعقلانية، حول الفرد، أو حول ثنائية الفرد – السياق. ويختم بطرح مقترحات المستوى التحليلي الوسيط، ومفهوم الهابيتوس عند بيير بورديو، والشكل، بوصفها آليات ممكنة للانتقال بين مستويَي الميكرو والماكرو.
أما في الفصل الحادي عشر، وهو الفصل الأخير “علم الاجتماع بين الكوني والمحلي: إشكالية المفاهيم وسياقاتها في البحث السوسيولوجي بالمغرب”، يُلامس عبد القادر بوطالب مسألةً منهجية على قدرٍ عالٍ من الأهمية بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية العربية؛ هي المركزية الإثنية الأوروبية وإشكالية تراوح علم الاجتماع بين الكوني والمحلّي، من منطلق أنّ السوسيولوجيا قد تبلورت في سياقٍ تاريخي واجتماعي محدّد، اقترن بالتحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الغربية، والتي انتهت بانتصار الرأسمالية ونهاية الإقطاعية، فكانت مهمتها فهم ما حدث في هذه المجتمعات، وإعادة صياغة المشروع الخاص بها. لكن حينما يتعلق الأمر بمجتمعات أخرى غير أوروبية، ومنها المجتمعات العربية، فإنّ ثمة سياقات أخرى مختلفة، هي التي تحكمت في نشأة السوسيولوجيا. ومن ثمّ، يطوّر بوطالب قراءةً نقدية لتاريخ نشأة البحث السوسيولوجي في المجتمع المغربي، وذلك بالتركيز على لحظتين بارزتين في تاريخ هذا البحث، تتمثّلان في لحظة بداية تشكّل السؤال السوسيولوجي حول المجتمع المغربي وطبيعته، وهو السؤال الذي اقترن بضرورات سياسية وأيديولوجية أمْلتها الضرورة الاستعمارية المتمثلة في إنجاح عمليات التغلغل الاستعماري، ولحظة بدايات الاستقلال السياسي، حينما تبلورت أسئلة بحثية جديدة حاولت فهم عوامل التخلف وطرائق تحقيق التنمية والتقدم؛ كما اقترنت بإشكالية بناء معرفة متحرّرة من الأحكام والتصورات الكولونيالية التي تشكلت خلال اللحظة الأولى للحضور الاستعماري، فظهر ما أسماه الباحث محاولات بناء سوسيولوجيا وطنية، أو تحرير المعرفة السوسيولوجية من الإرث الكولونيالي. ويخلص إلى أنّ اختلاف السياقات يشكّل مصدرًا للتجديد والإبداع، ويسمح بتحديد الفواصل بين الكوني والمحلي؛ فإذا كان مفروضًا علينا التفاعل مع الآخر، ويستحيل علينا العيش في عزلةٍ تامة، فإنّ ما يسمح بقراءة علمية لواقع مجتمعاتنا، ولتاريخ البحث السوسيولوجي، ليس الانغلاق والتعصّب، بل تأكيد مبدأ التعدّد والاختلاف الذي يجعل المركزية الغربية، أو الأوروبية، واحدةً من ضمن أخريات ممكنات، يمكن أن يتعايش جميعها جنبًا إلى جنب في هذا العالم.