اللغة والمكان والزمان في الرواية الفلسطينية

SAMIR SALAMEH, Untitled, 2006 Medium: Acrylic on canvas 75 x 75 cm

رياض كامل

كاتب من فلسطين

كان لهول المأساة بالغ الأثر في النفوس، فوقع بعض الروائيين تحت تأثير العاطفة، إثر ما حدث لهم، فلجأوا إلى الأسلوب الخطابي والمباشرة الصادمة، وذهب آخرون باتجاه توظيف تقنيات فنية حديثة قادرة على إسعاف الروائي في الابتعاد عن المباشرة والوعظ، مثل تقنيّات تيار الوعي، والميتاقص، والفانتازيا، وتعدد اللغات، وتعدد الأصوات. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

03/05/2023

تصوير: اسماء الغول

رياض كامل

كاتب من فلسطين

رياض كامل

مقدمة

من الطبيعي أن يتأثّر الأدباء الفلسطينيون بالصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية التي يخوضها شعبهم وأن ينشغلوا بها، خاصة وأن تاريخ المنطقة العربية حافل بالأحداث الكبرى التي كان لها انعكاسها وتأثيرها على انتشار الأمية وتقليص دور الكتاب والأدباء، حتى حدثت المواجهة المباشرة مع الغرب، وما تلا ذلك من تحولات على جميع المستويات، في عموم العالم العربي. لسنا هنا بصدد استعراض تاريخ هذه المنطقة، لكن الجميع يعلم أن الشعب العربي قد فقد السيطرة على الحكم في بلاده مئات السنين، وأنه خضع لحكم العثمانيين أربعة قرون (1516-1917)، مما سهّل من وقوع البلاد العربية مباشرة تحت الاستعمار الأوروبي، وتقسيمها بين هذه الدول، حال سقوط الدولة العثمانية. وكان من حظّ فلسطين أن تقع، وفق هذه التقسيمات، تحت سيطرة بريطانيا التي دخلتها وهيمنت عليها مدة ثلاثة عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى حلول النكبة (1948)، تحت مسمى “الانتداب”.

تصدّى الفلسطينيون، منذ البداية، لهذا الواقع الجديد، خاصة بعد أن تكشّف لهم مشروع سايكس بيكو (1916) وتصريح بلفور (1917) وما يحملانه من مخاطر تهدّد وجودهم فوق أرضهم. وقد تزامن ذلك مع مواجهتهم الحركةَ الصهيونية، التي رأوا فيها حليفا للانتداب البريطاني وامتدادا له. 

لا تتغيا هذه المقالة دراسة نشأة الرواية الفلسطينية ولا تتبّع مسيرتها، ولا التوقف عند تأثير كل حدث عليها بشكل مفصّل. إن معظم الإنتاج الأدبي العربي الفلسطيني ارتداد لهذا التاريخ الطويل وبالذات للاستعمار البريطاني والصراع العربي اليهودي الذي أسفر عن النكبة (1948) والنكسة (1967). زعزع هذان الحدثان عالم الفلسطيني الداخلي، فكان اللجوء إلى الفن، عامة، بدافع تعمير الروح، وزرع الأمل رغم الألم وإثبات الوجود الفلسطيني: تاريخه، حضارته، تراثه، أعلامه وفنونه على اختلافها. وكان للشعر دور أكثر فاعلية من دور الرواية في مراحل الصراع الأولى، نتيجة تخلّفها عن الشعر آنذاك. 

مرت الرواية الفلسطينية، شأنها شأن الرواية العربية، مرحلة مخاض حتى وصلت مرحلة النضوج، كما بيّنا في دراستنا الموجزة “الرواية الفلسطينية- مرحلة النضوج“، ممثلة بما أنتجه جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني وإميل حبيبي. قام بعض الدارسين بتقصي الرواية العربية الفلسطينية ومعاينة بعض الإنتاجات التي تلت أعمال هؤلاء الثلاثة، لكن معظم هذه الأعمال، على أهميتها، لم تف هذا التطوّر حقه. شغل هذا الأمر، ولا يزال يشغل الكثير من الباحثين والدارسين الذين قدّوا أبحاثا عميقة تعالج التقنيّات الحداثية التي يوظفها الروائيون، ولكنها لم تخرج برؤية شمولية، ربما لكثرة الإنتاجات الروائية في العقدين الأخيرين، مما يتطلب فترة من الزمن لاستيعاب هذه التحوّلات.  

تعدّت الرواية العربية الفلسطينية تلك المرحلة، وظهر عدد من الروائيات والروائيين الذين أخذوا على عاتقهم تطويرها عبر اعتمادهم تقنيّات فنية حداثيّة، إثر اطلاعهم على الرواية العربية والعالمية، وتوسيع رقعة الثقافة في ظروف مغايرة عما سبق، تسهّل عليهم عملية متابعة المُنجزات الكلاسيكية والحديثة في دنيا الرواية. كما بات الروائي الفلسطيني أكثر وعياً بتاريخه القديم والحديث، يسعفه في ذلك وفرة الدراسات التاريخية والفلسفية والفكرية التي تضيء له عتمة الطريق التي رافقت الفلسطيني حقبة طويلة من الزمن. 

يلاحظ الدارس أن الرواية العربية الفلسطينية ما زالت تعالج النكبة والنكسة وحيثياتهما، حتى وإن تبدّل المكان والزمان، ويرى أن للانتفاضتين، أيضا، حضوراً لافتاً في عدد من الأعمال الأدبية الفلسطينية على اختلاف أجناسها. كما يبدو للقارئ جلياً، أن الرواية الفلسطينية لم تتوقف يوما عن زرع الأمل بـ “حق العودة” حتى بعد مرور سبعة عقود ونيف. لم تصدر هذه الأعمال عن حنين إلى الماضي وحسب، بل هي دراسة لواقع الإنسان العربي الفلسطيني الذي يعيش تبعات التشرّد والتشتّت. ومن اللافت فعلا أن هذه الروايات، وما يتعلق بها من أبحاث، لم تصدر عن الأدباء والباحثين الذين عايشوا تلك الحقبة فقط، بل تعدّتها إلى من ولدوا بعدها، سواء عاشوا داخل الوطن أو خارجه.

إنّ الأيديولوجيا المحفزّة للأديب العربي الفلسطيني نابعة من التهديد الفعلي لكيانه. وهو لا يبني قلقه على فرضيات محتملة، لأن رؤيته تقوم اعتمادا على تجربة عمرها أكثر من قرن، ذاق مرّها ولا يزال، فكان ذلك محرّكا ودافعا للأدباء في مواجهتهم أهمَّ القضايا المؤرّقة. ولو ألقينا نظرة على الأدب الفلسطيني، منذ أكثر من قرن، لوجدنا أنّ معظمه أدب عقائديّ مؤدلج يعمل على ترسيخ الرؤية الفلسطينية. 

لتوضيح هذه الأيديولوجيا فقد اخترنا إبراز تجلياتها في الرواية الفلسطينية من خلال اللغة والمكان والزمان. فاللغة هي وعاء للوعي الإنساني، وهي جزء هام من هوية الشعوب، ومرآة فكرية واجتماعية تعكس قيَمهم وحضارَتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وتجاربهم. أما المكان، بالنسبة للإنسان، فهو الحيز الجغرافي الحميم الذي يؤثّر فيه ويتأثّر به، فهو البيت والقرية والمدينة والشارع والحقل. أما الزمن فهو ذلك العنصر الذي لا نراه ولا نلمسه، لكننا نتبيّن تأثيره في حياة الإنسان، في كل ما يدور حوله. لم يكن الزمن عاملا داعما للفلسطيني منذ عقود، لأنّ الواقع مؤلم جدا؛ لغة في خطر، مكان تتشوّه صورته، بفعل تهجير أصحابه وتغيير معالمه، وشعب يبحث عن لقمة عيشه، وواقع سياسي واجتماعي وأدبي نتحدث فيه عن “فلسطينيي الداخل”، و”فلسطينيي الـ67″، و”فلسطينيي الشتات”. ومع ذلك فإن الفلسطيني ما زال يحلم بترويض الزمن وليّ رقبته وتغيير مساره.

إنّ الرواية خطاب سردي رحب، قادر على الاتساع لأكثر من أيديولوجيا واحدة. فقد تحدث ميخائيل باختين في دراساته وأبحاثه عن الرواية المونولوجية، ذات الصوت الواحد التي تحمل أيديولوجيا الكاتب دون غيره، وعن الرواية الديالوجية/الحوارية التي تشمُل صراع الأيديولوجيات، وحياديّة الكاتب. ومن أجل تحقيق ذلك يرى “أن مؤلف الرواية المتعددة الأصوات مطالب لا في أن يتنازل عن نفسه وعن وعيه، وإنما في أن يتوسّع إلى أقصى حد وأن يعمّق إلى أقصى حد أيضا، في إعادة تركيب هذا الوعي، وذلك من أجل أن يصبح قادرا على استيعاب أشكال وعي الآخرين المساوية له في الحقوق”. (باختين، شعرية ديستويفسكي، ص97)

ويشير الباحث والمنظر جوزيف شتيرن في مقالة له بعنوان “حول الأدب والأيديولوجيا” إلى أن الزمن الذي كنا فيه لا نقبل القصيدة السياسية قد ولّى وانقضى “فإننا اليوم في عصر إضفاء الصبغة السياسية والأيديولوجية، إذا لم يكن على الأدب فبالتأكيد على تحليل الأدب”. (جوزيف شتيرن، ص12) ويضيف “بأن الأعمال الأدبية يمكن – طبقا لطبيعتها – أن تتحدّد زمنيا من الناحية اللغوية، بمعنى أنها لا بدّ أن تبين الوضع اللغوي والبعد الاجتماعي والزمني لمكان منبعها الأصلي. فكل عمل أدبي له “كلامه parole” الذي يتحدث به”. (المصدر السابق)   

ويقول الباحث شكري عزيز الماضي إن البعض قد رأى “أن الفن جزء من الأيديولوجيا في التحليل الأخير… لذلك كثيرا ما اتهم هؤلاء الأدباء الذين يتّبعون هذا المنهج بالدعاية والمباشرة، واتخاذهم الفن وسيلة لنشر الأيديولوجيا، وهي أمور تنأى بهم عن ميدان الفن”. (الماضي، ص142) ويضيف: “وعلى الرغم من ذلك فإن للفن استقلالية نسبية”، ويرى أيضا “أن الانطلاق من أيديولوجيا محددة للحياة والإنسان، ومفهوم للفن، تجعل رؤية الفنان أكثر عمقا وشمولية وتماسكا، لأن مثل هذه الأيديولوجيا يمكن أن تكون سلاحا بيده، يساعده على تشريح الظاهرة التي يعالجها”. (المصدر السابق) فهل ننظر اليوم إلى العمل الأدبي المؤدلج نظرة سلبية؟ وهل نقبل كل ما هو مؤدلج لأنه يحمل رسالة “أخلاقية”؟ وهل كل ما هو مؤدلج يروق لنا، ويتناسب مع خصوصيتنا الفلسطينية؟ فكم من شاعر مدح ظالما، وكم من أديب بجّل قاتلا!

نعلن بداية أننا نحاول طرح قضية محددة هي قضية خصوصيات اللغة والمكان والزمان في الرواية العربية الفلسطينية التي تحمل عقيدة فكرية سياسية تنهل من واقع الإنسان الفلسطيني الذي عانى، ولا يزال، من التشرد والتشرذم والتشتّت، ونعلم أن هناك روايات ودراسات كتبها “الآخر” تروّج لعقيدة مغايرة، بل ومناقضة للعقيدة السياسية الفلسطينية، حتى ليبدو أنّ الصراع العقائدي قد انتقل من قسم السياسة والإعلام إلى قسم الأدب. يقوم الأدب الفلسطيني، في جميع أجناسه، بمحاولة التصدي لرواية الآخر، ونشر الرؤية العربية الفلسطينية، فكان من الطبيعي أن تتميز عن غيرها لأنها تعكس تجربة خاصة. 

اللغة

يقول جونتر كريس وروبرت هودج في دراستهما “اللغة كأيديولوجيا “language as Ideology”: إن الفرد يكتسب لغته من خلال مجتمعه، فتساعده على التأقلم معه والعيش فيه. وهي منغمسة فيه، بوصفها الوعي العملي لهذا المجتمع. (عزالدين إسماعيل، ص42) وبالتالي فإنها وسيلته في التعبير عن أفكاره وعن وعيه ببيئته، وعن الصراعات الفكرية والعقائدية. وبما أن الفلسطيني يواجه خصما ينفي حقّه في المكان والزمان فإن الوعي الفلسطيني مشغول بكينونته ووجوده، فكان من الطبيعي أن يعبّر عن ذلك بلغة مشحونة بهذا الصراع الوجودي. 

يعتبر كثير من المفكرين أن اللغة هي وِعاء للأفكار، ويرى آخرون أنها أداة التعبير عن الأفكار. مهما يكن من أمر فإن اللغة هي جزء هام في تكوين هوية الإنسان الفكرية وبلورتها، تعبّر عن آرائه وتعكس مستوى تفكيره ومشاغله، وكأن لكل فرد هناك خصوصيات معينة تعكسها لغته. ولقد شغلت قضيةُ اللغة العربَ قديما فكتبوا فيها دراسات هامة تستأهل العودة إليها وتطويرها، كما بيّنتُ في دراسة بعنوان “اللغة العربية بين التأصيل والحداثة” (انظر: كامل، المتخيل السردي، ص35-59). 

يقدّم الغرب منذ فترة طويلة من الزمن الكثير من الأبحاث في شتى المجالات الأدبية واللسانية، ومن هؤلاء الباحثين الذين نلجأ إلى دراساتهم المنظر الروسي ميخائيل باختين الذي تحدث عن تعدّد اللغات وتعدّد الأصوات، وقد أوجزها الباحث المغربي محمد برادة بقوله: “ليست اللغة – النسق ذات البنية الثابتة، وإنما اللغة – الملفوظ – الكلمة – الخطاب، المُحمَّلة بالقصدية والوعي والسائرة من المطلقيّة إلى النسبية، والتي تبتعد عن دلالة المعجم لتحتضن معاني المتكلمين داخل الرواية، فتكشف عن أنماط العلائق القائمة بين الشخوص، وعن القصدية الكامنة وراء كلامهم وأفعالهم”. (برادة، مقدمة كتاب الخطاب الروائي لباختين، ص16) هذا التوصيف أعلاه الذي لخّص فيه برادة نظرية باختين حول اللغة تعني لنا الكثير أثناء دراسة دورها في الخطاب الروائي، باعتبارها لغة ذات مواصفات خاصة تحمل هوية المتكلمين بها وتعكس نظرتهم إلى الحياة، بناء على ما مرّوا به من تجارب. وإننا لنعلم أنّ الشعب الفلسطيني، قد مر، ولا يزال، بتجربة فريدة، على الصعيد السياسي والاجتماعي والتاريخي، مما يفرض خلق طرائق تعبير لغوية تعكس هذه التجربة الفريدة القاسية.

يُعتبر المنظر الدانماركي لويس هيلمسلاف من أهم دارسي “نظرية اللغة”، يستهلّ كتابه “حول مبادئ نظرية اللغة” بتعريف لافت يقول فيه: “اللغة لا تفارق الإنسان بل تتبعه في كل أعماله. اللغة أداة يشكل الإنسان بها تفكيره وإحساسه، ومزاجه وتطلعاته، وإرادته وأفعاله؛ هي الأداة التي بواسطتها يؤثّر ويتأثّر”. (هيلمسلاف، ص11) نعي تماما أن هذا التعريف قديم، وعمومي يناسب الإنسان حيثما كان وأينما كان. لكننا حين نعيد النظر فيما جاء فيه، وفيما جاء من أقوال المنظرين والباحثين الذين أتينا على ذكر بعض أقوالهم أعلاه، فإننا نرى مدى التحام اللغة بالإنسان عامة وبالفرد خاصة، فهي تعبّر عن “مزاجه وتطلعاته وإرادته وأفعاله”، وبالتالي فإنها تحمل خصوصيات الفرد أو الأفراد، أو الجماعة بناء على التجارب الحياتية. ولما كان الشعب الفلسطيني صاحب تجربة مؤلمة وفريدة وطويلة فقد أخذ اللغةَ إلى مضماره الخاص، وصبغها بتجربته فحملت ختمه وفرادته.  

تقودنا هذه المقدمة إلى خصوصية الشعب الفلسطيني الذي يتعرض، منذ سنوات طويلة إلى عملية إقصاء، ليس عن أرضه فقط، بل عن فكره، وعن المكان والزمان. ولذلك فإن الدارس المتمعّن يجد أن الأديب العربي الفلسطيني قد طوّر لنفسه لغة تحمل هويته دون بقية العرب في شتى الأقطار العربية. لغة تعكس قلق الفلسطيني وهمّه، من ناحية، وحبه للحياة وأمله بقادم أفضل، من ناحية أخرى. فكيف تجلى ذلك في الأعمال الروائية؟

 تجافي اللغة الأدبية معانيها المعجمية المألوفة لتتشظى وتتفتّق عن معانيَ مبتكرة. ولو بحثنا في معاجم اللغة عن معنى “نكبة” أو “نكسة”، أو “انتفاضة”، على سبيل المثال، فسنرى أنها ليست ذاتها كما هي في ذهن الفلسطيني، ولا تحمل هذه المفردات في معاجم اللغة ما تحمله من دلالات وإيحاءات عند الفلسطيني. يرى الكاتب محمود شقير، المولود سنة 1941، أن قاموسه اللغوي بدأ يتسع في طفولته لتدخلَه كلمات جديدة مثل كلمة “لاجئ”: “في تلك الأشهر المربكة وما بعدها بسنوات؛ دخلت قاموسي اللغوي كلمات جديدة من بينها كلمة “لاجئ”، وذلك بعد تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وقيام دولة الاحتلال الصهيوني”. (شقير، تلك الأزمنة، 2022، ص13) لا نقصد باللغة الفلسطينية المفردات التي ترد في النصوص المكتوبة والمحكية وحسب، بل نقصد الخطاب في مفهومه الواسع. ولو عدنا إلى الفقرة القصيرة أعلاه لرأبنا كيف أنها انعكاس لواقع فلسطيني جديد أحدثته النكبة؛ الرعب والإرباك والخوف والتشرد و”دولة الاحتلال الصهيوني”.

اللغة لصيقة بالمكان والزمان وقد قيل الكثير عن خشونة اللغة العربية الجاهلية وتأثرها بالصحراء، لكن الدراسات لم تتوقف عند هذه النقطة بالذات لأنها برأيي ليست عادلة، ما يفرض إعادة النظر في بعض تلك المقولات، فقد عكست اللغة حياة العربي عبر عصور التاريخ واستطاعت أن تتأقلم مع المكان والزمان؛ لفظا وإشارات ودلالات وطرائق تعبير. وكان من الطبيعي أن تستجيب لتبدلات العصر وأن تعكس مجموعة القيم والمفاهيم الفكرية والأخلاقية والعقائدية وحتى الجمالية. فقد تحدثت جميع الشعوب عن جمال المرأة، لكنها في أشعار العرب القديمة لها خصوصياتها التي لا تتشابه مع المواصفات الجمالية لدى شعوب أخرى، وبالتالي ليست ذات الجماليات في أشعار نزار قباني، على سبيل المثال، فقد لخّص الأعشى بعض جمالياتها في بيت واحد:

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها                    تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

وقد وجدنا في شعر امرئ القيس وفي شعر طرفة بن العبد معالم جمالية أنثوية أخرى يمكن للباحث أن يعود إليها متى شاء، ولكن المرأة الفلسطينية لم تجد أجمل من “نوار العلت” (الهندباء) تصف فيه سحر عيني صديقة ابنها، كما نبيّن في دراستنا رواية محمد علي طه “نوار العلت” (2021)، “أن تكون عربيا في دولة اليهود”. (انظر الدراسة لاحقا) وبالرغم من أن هذه الرواية، بالذات، تدور أحداثها في جامعة حيفا، وفي ظل اتفاقية أوسلو وما يتلوها من أحداث ونقاشات، إلا أن الأديب محمد علي طه لم يتمكن من الإفلات من سلطة الحقل يفتتح به روايته، بلغة لا يمكننا إلا أن نسميها لغة فلسطينية قروية فلاحية يمتزج فيها الحاضر بالماضي بكل إشكالياتهما وتبعاتهما وما يتمخض عنهما؛ الحفاظ على الأرض والعرض، والتشبث بالحقل الموروث عن الآباء والأجداد.

قد يقول قائل إن العرب عامة متساوون في ذلك، فنجيب إن في هذا الاعتراض الكثير من الصدق والكثير من الصحة، وقد يضيف بعضهم إن هذا الأمر تشترك فيه كل الشعوب المقهورة أو المحتلة أرضها. لكن تبقى للفلسطيني خصوصيته لأنه الوحيد، حتى الآن، الذي لم يُقم دولة وكيانا رسميا فوق أرضه، ولم يحصل حتى الآن إلا على “شبه كيان” تنقصه كل مقومات الدولة. وما زال همّه الأول الحفاظ على المكان وعلى الذاكرة وعلى متابعة الصراع من أجل الحفاظ على قيمه وعاداته وتقاليده وأفكاره ومعتقداته: الدينية والسياسية والاجتماعية، يسعفه في ذلك موروث لغوي غني يحمل خصوصيات هذه المرحلة القاسية. فقد فتح الآخر عليه نيران العقيدة الدينية التي تستوحي معتقداتها من “كتب مقدسة” ترى أن هذه البلاد له منذ الأزل، وأنها سلبت منه منذ ألفي سنة وقد عاد إليها منذ سبعة عقود ونيف ليبني “بيته” من جديد. 

بناء على ما قيل أعلاه نعاود التساؤل مرة أخرى ما دور الكلمة؟ وهل ذلك يعني أن الفلسطيني قد خلق لذاته لغة أدبية مغايرة عن اللغة العربية الأم التي يتحدث بها ملايين العرب، ويكتبون بها أدبهم؟ 

لقد رأى المنظر الروسي ميخائيل باختين أن لكل فرد في الرواية لغة متفردة به إذ قال: إن “المتكلم في الرواية” هو دائما صاحب أيديولوجيا. وهو يرى أيضا أن لكل شخصية من شخصيات الرواية صوتَها. وقد أيّده في ذلك بعض المنظّرين والباحثين ممن جاؤوا بعده بفترة قصيرة، بل ومنهم من تابع في تطوير هذه الرؤية مثل المنظر بيير زيما، الذي طوّر هذه الفكرة وذهب أبعد من ذلك حين قال إن للتوقيت الزمني تأثيرا على اللغة، فلغة الصباح ليست نفسها لغة المساء، على سبيل المثال. وبالتالي فإن لغة المهجّر والمسلوبة أرضه والمهدّد بالترحيل والموت في كل لحظة لن تكون لغة المستقرّ الذي ينعم بالسلام والهدوء والسكينة، ولن تكون لغة رومانسية بقدر ما تكون لغة محرّضة تدعو إلى الصمود والثبات والتحدي، لغة تشتق مفرداتها من المعاناة ومن جوف الأرض، ومن ألم الفراق وحلم العودة. 

لا يمكننا أن ننسى أو نتناسى ما جاء به المنظر السويسري وعالم اللغة فرديناند دي سوسير الذي يُعتبر واضع أسس النظرية السيميائية الذي ميز بين “اللغة” و”الكلام”: فاللغة برأيه نظام له قواعده وأصوله الخاصة وأنه نسق (نظام) مستقل يتخذه أبناء اللسان الواحد للتواصل فيما بينهم، أما “الكلام” فهو من خلق المبدع، يتلاعب به ويحرفه عن أصوله، أي هو إنجاز فردي. نحن من الذين يعتقدون أن لكل فئة من الناس “كلامها” (parole) الذي يحمل هويتها وهمومها وأفراحها، ويعبر عن مستوى أفكارها، كذلك لكل شخصية داخل العمل الأدبي هناك اللغة الخاصة التي تميزها عن غيرها. وبالتالي يصبح لكل شخصية داخل الرواية لغتها وصوتها. وهنا يأتي دور المبدع الذي يخلق الرواية وشخصياتها وفضاءها وزمنها. فإن تمكن الروائي من أن يخلق رواية ديالوجية فإنه بذلك يكون قد أعطى شخصيات روايته حرية التحرّك، وأبعدها عن تخوم الرواية المونولوجية. وهذا ما نادى به ميخائيل باختين ومن أيده من منظرين فيما بعد. 

يستطيع قارئ الرواية الفلسطينية أن يرى أنها خلقت لنفسها لغة خاصة بها، تعبّر بواسطتها عن هموم الشعب الفلسطيني وعن أفراحه وصراعاته في مواجهة الآخر. وقد وجد بعضهم، بحسّهم المرهف، أن اللغة الفلسطينية مهددة بالضياع، في ظل لغة أخرى تنافسها في الحياة اليومية، وفي ظل مستجدات مفاجئة وسريعة، فذهبوا إلى اللغة العربية “العتيقة” وعملوا على صيانتها، كما فعل بالذات محمد نفاع في رواية “فاطمة”، فلم يجامل القارئَ الحديث، وسار باتجاه إقامة مشروع كبير؛ الحفاظ على اللغة العربية الفلاحية الفلسطينية، حتى ليبدو لقارئ اليوم أنه يقرأ لغة قد اختفت. يعمل محمد نفاع على إقامة مشروع أيديولوجي عمدته الرئيسة الحفاظ على “هوية اللغة ولغة الهوية”، إيمانا منه بأن ضياع اللغة يعني ضياع الهوية. (انظر: كامل، دراسات في الأدب الفلسطيني، ص71-96). وقد ساهم بعضهم في الحفاظ على الموروث الشعبي الفلسطيني وتراثه، ولنا على ذلك أمثلة عدة في إنتاج كثيرين نذكر منهم في مجال القصة والرواية محمد علي طه، ومحمد نفاع، وطه محمد علي، (شاعر وقاص) ويحيى يخلف، وإبراهيم نصرالله ورجاء بكرية التي تنبهت إلى ذلك فقامت في رواية “عين خفشة” (2014)، بتوظيف النواح الفلسطيني وبعض الأغاني الشعبية المنبثقة من واقع الفلسطيني المعذّب. (انظر: كامل، المتخيل السردي، ص174-187)

تجاوبت اللغة مع خصوصيات الرواية العربية الفلسطينية وعكست صراع الفلسطيني وألمه والحروب التي خاضها؛ رافقت المقاتل في كل مكان، وصوّرت الانتكاسات والمواجهات المتحدية التي تجذّر الانتفاضة الأولى والثانية، على سبيل المثال، وتابعت حزن الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، وجذّرت غناء الفلسطيني ونواحه وأناشيده الشعبية القديمة والحديثة. إنّ كل ما قلناه يبقى في إطار التقديم ينقصه التطبيق من خلال تناول هذه المنجزات الروائية. وقد قمنا بذلك في أكثر من دراسة لنا. لكننا نؤكد أن هناك ما يميّز كل رواية عن غيرها، رغم التشابه في المواضيع. 

يمكننا القول بأن معظم الروايات الفلسطينية اهتمت باللغة التي تصور العالم الخارجي وتأثير ذلك على داخل الإنسان الفلسطيني، لكننا اليوم نقف بإزاء إنتاج روائي وقصصي فلسطيني يبدأ من الداخل، من أعماق النفس ليخرج إلى الفضاء بكل مركباته، لأن الوعي بمكنون النفس لدى الروائيين وكتاب القصة، عامة، بات أكثر عمقا، ما يدفعنا إلى متابعة ذلك، ربما في دراسات لاحقة.   

المكان 

لن ندخل في دراسة جماليات المكان في الرواية الفلسطينية بقدر ما نتناول خصوصياته فيها، مع علمنا التام أن هناك فرقا بين مفهومي “المكان” و”الفضاء”، نتغاضى عن ذلك مدركين أن “الأمكنة جزر في الفضاء، جواهر [أفراد]، أكوان صغرى منفصلة”، داخل الفضاء حسب تعبير جورج بولي. (نجمي، ص44) ونحن إذ نقوم بالتفريق، عنوة، بين عنصري المكان والزمان فإننا نعي أنهما مترابطان جدا، لا يسير أحدهما دون الآخر، لكنها ضرورة يمليها البحث، كما نعي تماما أن اللغة هي حاضنة مجمل عناصر الخطاب الروائي، ونعلم أن “الفضاء الروائي، مثل المكوّنات الأخرى للسرد، لا يوجد إلا من خلال اللغة، فهو فضاء لفظي بامتياز”. (بحراوي، ص27) ولقد قمنا بدراسة حول لغة خطاب الروائي يحيى يخلف، ووقفنا عند الفروق بين لغتي الخطاب في روايتيه “نجران تحت الصفر”، و”بحيرة وراء الريح”، فوجدنا أن الأولى تعكس أجواء نجران في ظل الحرب الأهلية اليمنية وحيثياتها، والثانية تصور الفلسطيني وهو يواجه شبح الاقتلاع من الوطن، عشية النكبة وما تلاها بقليل، وبينا كيف أن اللغة تستجيب لتبدلات المكان والزمان وتعكس لغة الناطقين بها ومستوياتهم الفكرية، حتى حين يكون المؤلِّف هو نفسه لأكثر من عمل أدبي. (للتوسع انظر: دراسات في الأدب الفلسطيني، ص29-69)

عمل الروائيون الفلسطينيون على تأصيل المكان وتثبيته وتجذيره في الذاكرة بوسائل عدة وطرائق مختلفة، فقد رأوا بأمّ العين ما يتعرض له من تزييف وتغيير وتبديل في معالمه، وعانى قسم كبير منهم من فقدانه بعد النكبة، فعمدوا إلى توثيق أسماء المواقع، كما كانت عليه من قبل، بدءا من “فلسطين” مرورا بأسماء القرى والمدن، وامتدادا إلى أسماء الحارات والشوارع والأزقة وقسائم الأرض، وأنواع الأشجار والنباتات والطيور، كما تجلى في مجمل أعمال الأديب محمد علي طه القصصية والروائية والمسرحية. (انظر: كامل، الواقع والتخييل) وفي أعمال كل من الأدباء إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني، إبراهيم نصرالله، محمد نفاع، يحيى يخلف، عاطف أبو سيف، محمود شقير، طه محمد علي، دعاء زعبي خطيب، رجاء بكرية، سعاد العامري وغيرهم. وفي أعمال كثير من الشعراء وكتّاب القصة القصيرة الفلسطينيين.

كما قام بعض الروائيين بإطلاق أسماء أماكن جغرافية عينية على رواياتهم مثل “عائد إلى حيفا” (1969) لغسان كنفاني، و”رأيت رام الله” (1997) لمريد البرغوثي، و”بحيرة وراء الريح” (1991) للروائي يحيى يخلف في إشارة إلى بحيرة طبريا، هذا فضلا عن تخصيص مدن وقرى فلسطينية لتقوم فيها أحداث الروايات في أزمنة متعددة. فقد جعل يحيى يخلف من مدينة يافا، نهاية القرن الثامن عشر، مركزا للأحداث في روايته “راكب الريح” (2016) حتى يكاد القارئ أن يرى بحرها وسورها وسوقها وبيوتها، وناسها يتجوّلون في شوارعها ويتنقّلون في أزقتها، ويشموّن شذا برتقالها، وأن يرافق البطل يوسف وهو ينمو ويكبر وتتبلور شخصيته في ظل يافا ومحيطها وبيئتها. كما يستطيع القارئ أن يرافق أبطال الروايات والقصص الفلسطينية وهم يتحركون في مدن فلسطين الكبرى مثل يافا والقدس وحيفا وعكا والناصرة، ويتعرف إلى مرافقها ومسارحها وبيوتها، وإلى مركّبات فضاء القرية العربية الفلسطينية، فتستثير حواسه كلها، وكأنه يشمّ رائحة ترابها ويشرب من عيون مائها ويرى صورة وجهه في مياه سواقيها الصافية، ويتسلق جبالها ويقطف ثمار أشجارها. فقد عملت الروائية سعاد العامري، على سبيل المثال، على توثيق ملامح بعض المدن والقرى، وأهم عادات أهاليها في روايتها “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” (2022) التي “تدور أحداثها المركزية في مدينة يافا، وتمتد فتطال مدينتي اللد والرملة وبعض القرى المجاورة، وذلك منذ سنة 1947، وحتى السنوات الأولى من خمسينيات القرن المنصرم. يطّلع القارئ على أهم الأحداث التي عصفت بمدينة يافا، المدينة الأهم في فلسطين آنذاك، وحالة الحصار التي تعرضت لها من المنظمات اليهودية المسلحة، وتمدُّد حركة الاستيطان اليهودية والسيطرة على مرافق الحياة، بشكل تدريجي، حتى يكون التهجير والضياع والتشتُّت”. (انظر: الواقع، التأريخ والتخييل في رواية “بدلة إنكليزية وبقرة يهودية” لاحقا)، ويكاد القارئ يلامس معالم حيفا والقدس وما طرأ عليهما من تحوّل جراء بدء الهجرة اليهودية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في رواية “علي- قصة رجل مستقيم” (2017)  للكاتب حسين ياسين: “هناك في الأفق البعيد الأبعد، في عمق المخيلة، في تلافيف الوجدان، القدس العبوسة، الضاحكة، الوقورة، الصابرة. في القدس شمم المجد وشموخه، أصالة التاريخ وعظمة الحكمة، أنبياء وقضاة.

أتخيل شارع الأنبياء، حيث سار الملوك والقضاة والأنبياء. واليوم يسير فيه الجنود والكولونياليون وصيارفة وزناة. بيوتها الجميلة غدت خرائب هدّمها إعصار وحدّبتها الكراهية…”. (انظر: كامل، المتخيل السردي، ص141-165، الرواية، ص15) 

ومن الروائيين من لجأ إلى العجائبية والغرائبية والفانتازيا ليعيد إحياء المكان بعد أن بات بعيدا بقدر ما هو قريب، وقريبا بقدر ما هو بعيد. فقد تغيّرت معالمه ولم يعد بالإمكان إعادته إلى ما كان عليه من قبل، قرى محيت من على وجه الأرض، وأخرى فقدت شكلها، وبيوت مهجورة فارغة من سكانها الأصليين. يرى الباحث فاضل ثامر أنه من الصعوبة بمكان تصوير الواقع العربي الحالي بأساليب قديمة واقعية تقليدية لما فيه من تعقيد وضغوط وإحباطات متلاحقة “ولذا يسهم البعد الغرائبي أو الفانتازيّ في مواجهة حالة القهر الإنساني اللامعقول عن طريق توظيف الخيال واختراق سكون السطح الواقعيّ”. (ثامر، ص 87) 

إن تجربة الإنسان الفلسطيني عبر أكثر من قرن تبدو أكبر من أي واقع، لذا فإن توظيف الفانتازيا والعجائبي والغرائبي تساهم في كشف المقموع والمسكوت عنه. فقد قامت الأم العجوز في رواية “ظلال المفاتيح” (2019) لإبراهيم نصرالله ببناء قريتها المهجّرة بواسطة الحجارة، ينضم إليها أبناء قريتها في مواجهة تفوق الواقع حتى بدا للجنود الإسرائيليين أنهم يحاربون ظلالا ففروا هاربين. وذهب إميل حبيبي باتجاه المفارقة المرة ممزوجة بالفانتازيا والعجائبية في روايته المتشائل (1974) وهو يرى الطنطورة تختفي كليا إلا من الخيال، وعمد إلى أسماء المدن والقرى والمواقع فثبّتها ورسّخها، على ما كانت عليه، بعد أن استبدلتها إسرائيل بأسماء أخرى. كما أضاف مكانا آخر إلى عالم الرواية الفلسطينية لم يكن قد اهتدى إليه الروائيون من قبل، حين أنقذ بطل الرواية من الخازوق ونقله من عالم الأرض إلى عالم الفضاء.

أولت الرواية العربية الفلسطينية المكان أهمية قصوى نظرا لما له من أهمية في وجدان الفلسطينيين حتى بات في نظرهم الفردوس المفقود، والجنة المنتظرة. لم تتنازل الأم في رواية “الجنة المقفلة” (2021) للكاتب عاطف أبو سيف عن حلمها بحق العودة فعمدت إلى مائدة الطعام تنضّدها وتفرش فوقها شرشفا خصيصا للقاء المرتقب الذي سيجمع جميع أفراد العائلة، لكنها تموت دون تحقيق أمنيتها، فانتقلت الراية إلى الابن الأصغر. لقد جعل أبو سيف من يافا فردوسا مفقودا، ومن مخيماتِ غزة مكانا حميما وحضنا دافئا يعيش أهلها متآلفين، تجمعهم لهفة لا تفارق الوجدان بالعودة إلى الجنة (يافا) التي تعشّش في ذاكرة أهلها من كبار السن، الذين لم يتوقفوا يوما عن غرس محبتها في وجدان الأبناء والأحفاد. (انظر لاحقا: “الجنة المقفلة”، إنعاش الذاكرة وتثويرها”)

لقد تعدّى المكانُ الجغرافيا وجاوزها في المفهوم الجاف، وتحوّل إلى عامل كيان ووجود يحرك المشاعر ويثير الانفعالات. من هنا نرى إلى العمل السردي الفلسطيني ودوره في عملية توثيق المكان. لقد عمد الروائيون الفلسطينيين إلى تأثيثه بكل ما يلزم كي يأخذ صورة حية تكاد تلامس الواقع، تتنقّل فيه الشخصيات وتبنى فيه الأحداث، حتى ليبدو، في بعض الروايات، وكأن القارئ يتابع مشهدا سينمائيا، تنتقل فيه عين الكاميرا بين مركبات المكان من شجر وحجر وبشر وأزقة وطير وحيوان، حتى يغدو المشهد أقرب إلى صورة حية تكشف عن علاقة الفلسطيني بالمكان الذي افتقده، وكأنه بذلك يستعيده من جديد. 

إن دافع توثيق المكان في الرواية الفلسطينية ليس بهدف “البكاء على الأطلال” فهو أعمق من ذلك بكثير، لأنه بيت الطفولة، وبيت العائلة الذي كان يمنح ساكنه شعورا بالأمن والأمان، فكان فقدانه حدثا قاسيا زعزع كيان الفلسطيني وهزّه من الأعماق، فأعاد إحياءه بكل تفاصيله. لقد انتقل المكان مع أصحابه المهجّرين فأطلقوا أسماء مدنهم وقراهم على شوارع المخيمات وأحيائها، سواء في الواقع، أو في الأعمال السردية على اختلافها.

لقد حمل الروائيون المغتربون صورة للوطن في الذاكرة، فكانت العودة صادمة حين شاهد بعضهم ما تعرّض له البلد من تشويه، وهو المغروس عميقا في الوجدان، وعبّروا عن صدمتهم مما آلت إليه صورته وهويته. يعود الراوي في رواية “رأيت رام الله” (1997) للكاتب مريد البرغوثي إليها، فيصعق من تبدل حالتها، وقد وجدها محمية بسلاح المحتلّ الإسرائيلي، فقام بتلخيص هذا الواقع من خلال جملة وردت في الرواية: “نجحت في الحصول على شهادة تخرجي وفشلت في العثور على حائط أعلق عليه شهادتي”. أما جبرا إبراهيم جبرا فإنه ينقل معه الوطن على ظهر سفينة في روايته “السفينة” (1970)، بعيدا عن اليابسة التي عاد إليها المغترب في “رأيت رام الله”. 

نستطيع اليوم أن نجزم أن الروائي الفلسطيني قد استفاد من تجارب سابقيه من الروائيين العرب وغير العرب، ومن وفرة الدراسات التي تتحدث عن المكان ودوره في الرواية، بعد ترجمة أعمال بعض المنظرين إلى اللغة العربية، وصدور بعض الأبحاث عن جماليات المكان. فقد كان التعامل مع المكان يقتصر على صورته الطوبوغرافية والجغرافية. أما اليوم فإن معظم الروائيين الفلسطينيين يعون دور المكان في دلالاته وحميميته، وعلاقته بساكنه وفاقده في آن معا، وبتنا نرى أن توصيف المكان في الرواية الحديثة يتعدى الجغرافيا نحو الداخل، وكأن الروائي يعيد بناء المكان المفقود بتفاصيله ومركباته من ناحية، مع الوعي التام بأبعاده النفسية والوجدانية من ناحية ثانية. 

الزمان

يعتبر ميخائيل باختين في كتابه “أشكال الزمان والمكان في الرواية” أن الزمن هو السابق للمكان، رغم أهمية العنصرين، ويرى أننا لا نستطيع أن نفصل بينهما، من هنا قام باجتراح مصطلح “الخرونوتوب” (الزمكانية). لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد والتفكير لنكتشف مدى احتفاء الرواية العربية الفلسطينية بالزمن إطارا للأحداث تتحرك فيه وتبنى وفق محطات تاريخية مصيرية. ربما كان هذا الاحتفاء في بداياته بالفطرة، دون الاطلاع على الدراسات الفلسفية التي بحثت هذا الجانب. إنه الشعور الداخلي الذي يحرك المشاعر، بالذات حين يرى الفلسطيني أن الزمن يسرق منه بيته وكيانه وأمنه وأمانه، ويبدّل معالم المكان حتى بات غريبا عنه. 

يؤمن الباحث أن الروائيين الفلسطينيين أكثر وعيا، اليوم، بأهمية التأطير الزمني الذي يربط الرواية بأحداث كان لها تأثير جذري في سيرورة الفلسطيني وصيرورته فيمنحها المصداقية والواقعية، وبالتالي تتحرك الشخصيات وتتبلور الأحداث ضمن هذا الحيز التاريخي. 

يشعر الإنسان عادة بتحولات الزمن من خلال تبدّلات المكان وما عليه من جامد ومتحرك. فالمكان جسد وشكل وهيئة نلمسه في كل حين، نتأثّر به ونؤثّر فيه، ونُعمل فيه كامل حواسنا. أما الزمن فهو عنصر خارج إطار الحواس، يتحرك بشكل دائم، وتتبدّل وفقه الحياة بكل مركباتها. لقد كتبت حول الصراع معه أساطير عدة تبيّن ضعف الإنسان في مواجهته، بحيث تحوّل إلى عامل ترهيب لقدرته على التحكّم به وسلبه عمره. ولأنه قادر على قهرنا فهو “غدار” و”ماكر” و”مخادع”. 

لقد اجتمعت عوامل عدة على قهر الفلسطيني منذ عشرات السنين، إذ لا يمكننا الحديث عما آلت إليه أحواله دون العودة إلى المسبّبات. ولما كانت مأساته كبيرة وقاسية ومؤلمة وممتدة على فترة طويلة فإن ذلك يملي على الباحث عدم الاكتفاء بنظرة أفقية دون النظرة العمودية، ولا يجوز الاكتفاء بالتوقف عند عامل الزمن دون ربطه بعوامل داخلية وخارجية تعمل كلها، معا، على تحديد المصير. والأديب، عادة، صاحب فكر ورؤية يدرك أن تصوير الحاضر دون الماضي يجعل الطرح سطحيا يمس بالقشرة فقط دون الغوص في العمق. لذلك عمد الروائيون العرب والفلسطينيون، على حد سواء، إلى العودة إلى الماضي البعيد والقريب، يستلهمون منه العبر بهدف رسم مسار يستفيد فيه من دروس الماضي.

أدرك بعض الروائيين العرب، منذ انطلاقة الرواية العربية الحديثة، إلى أن هناك حاجة ماسة وملحة لتعليم العربي تاريخه كي يبلور لنفسه هوية حديثة تتناسب مع العصر وتستفيد من الماضي، للوقوف في وجه الحملة الغربية على عموم الشرق العربي، التي تعمل على تزييف تاريخ العرب، حضارتهم، وثقافتهم، فكانت روايات جورجي زيدان التاريخية رائدة في هذا المضمار. قام بعضهم بتقليدها والبعض بتطويرها، بعد أن كان قد سبقهم إلى ذلك روائيون أوروبيون مثل وولتر سكوت في إنجلترا، وتولستوي في روسيا وألكسندر دوما الأب في فرنسا الذين أدركوا أهمية التاريخ في تكوين الهوية الفكرية.

استشعر المثقفون الفلسطينيون، هم أيضا، ضرورة العودة إلى الماضي وتوثيقه عبر أعمال أدبية وفنيّة تساهم في بلورة كيانهم، وفي التصدي لرواية الآخر الذي يعمل، بكل ما لديه من وسائل، على نشرها وترسيخها، فعادوا إلى محطات هامة توقّفوا عندها، وكتبوا روايات عدة عن النكبة والنكسة والانتداب البريطاني والاحتلال العثماني، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. 

لقد كتب غسان كنفاني رواياته “رجال في الشمس” (1963) و”ما تبقى لكم” (1966) و”عائد إلى حيفا” (1969) و”أم سعد” (1969) وغيرها من الإبداعات يعالج فيها النكبة والنكسة وأبعادهما على الإنسان الفلسطيني، وهو الذي جرّب هاتين الهزيمتين وذاق مرهما طفلا ويافعا وشابا. وكذلك فعل إميل حبيبي الذي عايش أهم التطورات التاريخية في فلسطين؛ الانتداب البريطاني، النكبة، النكسة، حرب أكتوبر (1973) وأحداثا هامة أخرى حتى تاريخ وفاته (1996)، وذلك في “سداسية الأيام الستة (1968) التي اعتبرها كثيرون رواية، رغم أنها مجموعة قصص قصيرة، لكن ترابط الزمن فيها وطرحها موضوعا واحدا هو النكسة (1967) وتبعاتها المباشرة في “توحيد” الشعب الفلسطيني وتحقيقه حلم “العودة” “بفضل” الاحتلال. تابع حبيبي برنامجه الأدبي والفكري في مجمل إبداعاته، وخاصة في روايته الشهيرة “المتشائل”، حيث يجترح أسلوبا جديدا في السخرية يبيّن من خلال تلك المفارقات، على اختلافها، ما جناه الواقع الجديد على الفلسطيني الذي بقي بعد النكبة.

شارك هذين الأديبين أدباء فلسطينيون آخرون كتبوا في كل الأجناس الأدبية، متأثّرين بهذين الحدثين الأصعب (النكبة والنكسة)، في تاريخ الشعب الفلسطيني، ومنهم من توقف عند الانتداب البريطاني يستغلون ما دار من أحداث ممهّدين الطريق لما سيحدث لاحقا، وقد برز بعضهم في مجال الرواية، نذكر منهم، وبجدارة، الروائي جبرا إبراهيم جبرا، في روايتيه اللتين، كتبهما قبل النكبة، باللغة الإنجليزية: “صراخ في ليل طويل” (1946)، التي أعاد كتابتها باللغة العربية سنة 1955، ورواية “صيادون في شارع ضيق” (1960) التي ترجمت هي الأخرى إلى العربية (1974). لم يكتف جبرا بمعالجة النكبة والنكسة فقط كما بينّا في مقالتنا المرفقة في هذا الكتاب “الرواية الفلسطينية – مرحلة النضوج”، بل تابع مع غيره في الكتابة عن “حق العودة”. 

وكان إسكندر الخوري الببيتجالي من قبل قد تطرق في روايته “الحياة بعد الموت” (1920) إلى حياة العربي في ظل الدولة العثمانية وما يكابد من ظلم، (انظر: الرواية الفلسطينية – مرحلة النضوج). كما نشر في نفس السنة الكاتب الصحفي خليل بيدس رواية “الوارث” (1920) التي تدور أحداثها في مصر عشية الحرب العالمية الأولى. (للتوسع انظر: أبو حنا، ص102-117) كما صدرت رواية “مفلح الغساني- أو صفحة من صفحات الحرب العالمية”، (سنة 1931؟) للكاتب الصحفي نجيب نصار (1865-1948) التي يشي اسمها بزمانية أحداثها، وهي مثار نقاش حتى اليوم، نترك الخوض في ذلك لمناسبة أخرى. 

لقد توقفت الروايات الفلسطينية، كما ذكرنا عند أحداث مفصلية في التاريخ الفلسطيني، سواء عاصر الروائي هذا الحدث أو لم يعاصره، إذ ما زال الفلسطيني يعاني من تبعات النكبة والنكسة. لا يمكننا معالجة رواية “الجنَّة المقفلة” الصادرة حديثا (2021) للروائي عاطف أبو سيف (ولد 1973)، على سبيل المثال، دون الرجوع إلى سياقها التاريخي الذي يؤطّر العمل، فالأحداث المركزية في الرواية هي وليدة هذين الحدثين المفصليين وما تلاهما من أحداث، وتأثيرهما على الصعيد العام والخاص”. (انظر: “الجنة المقفلة- إنعاش الذاكرة وتثويرها” لاحقا) 

يميل الأدب الفلسطيني إلى التوثيق الزمكاني، ويرى الأدباء والمفكرون الفلسطينيون أنه لن تقوم للفلسطينيين قائمة، ولن يتمكنوا من تحقيق أحلامهم وحقّهم في إقامة دولة إلا من خلال قراءة تاريخهم وإدراكه إدراكا شاملا وعميقا، وذلك من خلال فهم الثابت والمتحول. فالثابت هو الحق في عرفهم، ولكن الزمن يتحوّل ويتبدّل، وهو دائما في حركة لولبية بين صعود وهبوط، ولا يسير في اتجاه واحد. فمن يدرس التاريخ يرى أن المتحرك أكثر من الثابت. من هنا يرى الأدباء الفلسطينيون أهمية الزمن في أعمالهم السردية وبالذات في العمل الروائي، فالرواية عالمها واسع، وهي قادرة على الوقوف عند التحولات الزمنية؛ أسبابها، دوافعها، حيثياتها ونتائجها.

لا يمكننا الحديث عن الرواية الفلسطينية دون الإشارة إلى تجربة الروائي إبراهيم نصرالله التي تمتد أحداث رواياته على فترة زمنية طويلة جدا، ففي روايته “قناديل ملك الجليل” (2012) يعود بنا إلى عصر ظاهر العمر (1689-1775) ويتوقف عند تجربته الفريدة في حكم جزء كبير من فلسطين، وفي روايته “زمن الخيول البيضاء” (2007) يسلّط الضوء على أحداث هامة تعود إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولا إلى منتصف القرن العشرين تمهيدا للنكبة. ومن اللافت في تجربته تخصيصه بعض رواياته للفن ودوره، بهدف مواجهة الرواية الصهيونية التي تنفي وجود شعب عربي فلسطيني له تاريخ وحضارة وتراث، كما فعل في “ثلاثية الأجراس” (2019) حيث يبرز دور المصورة الفلسطينية الأولى كريمة عبود.      

لقد تبيّن لنا، من خلال قراءتنا الرواية الفلسطينية، بشكل جلي، مدى عنايتها بالتوثيق الزمني، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، ففي رواية “عائد إلى حيفا” تكاد الرواية تتجه في بعض مواقعها نحو الواقع أكثر مما هو نحو التخييل بحيث نعثر على ذكر تواريخ عينية دقيقة مثل: “صباح الأربعاء، 22 نيسان، عام 1948. كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئا”. (عائد، ط4، 1987، ص15). يلعب الزمن دورا بارزا فيها بحيث لاحظنا أن الكاتب يفتتح الفَقرات الأربع الأولى من الرواية بظرف زمان: “حين وصل سعيد س إلى مشارف حيفا” […] “منذ غادر رام الله في الصباح” […] “طوال الطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم” […] “ظهر يوم الثلاثين من حزيران، 1967”. (ن، م، ص9، 10) هذا التأطير الزمني الدقيق يعطي القارئ إحساسا أنه يقرأ وثيقة تسجيلية. 

تمكّنت الرواية العربية الفلسطينية من تغطية مساحة زمنية واسعة بدءا من العصر العثماني مرورا بالانتداب البريطاني وصولا إلى النكبة والنكسة والانتفاضة الأولى والثانية. لم تتوقف الروايات عند الماضي البعيد أو القريب، بل هناك روايات تعالج قضايا الصراع الأيديولوجي العربي اليهودي في أيامنا هذه مثل رواية “نوار العلت” للكاتب محمد علي طه، وجوبلين بحري للكاتبة دعاء زعبي خطيب، وهناك من الروايات التي توثق لأحداث المواجهة المسلحة في السنوات الأخيرة مثل رواية “الحياة كما ينبغي” (2022) للكاتب أحمد رفيق عوض، التي تحاكي ما يحدث في هذه الأيام من مواجهات بين مقاتلين فلسطينيين وجنود إسرائيليين، ورواية “أرجوحة من عظام” (2022) للكاتب وليد الشرفا التي تتحدث عن المواجهة بين مقاتلين فلسطينيين، وجنود الاحتلال الإسرائيلي داخل كنيسة المهد التي لجأ إليها المقاتلون. 
 

الخلاصة والمراجع في الصفحة التالية… 

الكاتب: رياض كامل

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع