1
يُحكى أن شابًا صعيديًا يقال له محمدين، وينتمي إلى محافظة سوهاج، أصابه الدور في التجنيد الإجباري والتحق بالجيش المصري في 1971، ويقال إن محمدين هذا، كان شابًا غريب الأطوار، ومختلفًا عن باقي زملائه الجنود، إذ كان وعلى خلاف السائد، يرفض الإجازات، ولا يغادر معسكره أبدًا، للدرجة التي جعلت بعض الأقاويل تتناثر حوله، فقال البعض إن محمدين بخيل جدًا أو فقير جدًا بحيث لا يستطيع أن يدفع أجرة المواصلات إلى قريته البعيدة في نجع حمّادي بسوهاج، وآخرون قالوا إنه بلا شك مطلوب لثأر ما.
لأكثر من عامين رفض الجندي محمدين أن يستفيد بحقه في الحصول على إجازة، كان الجنود من حوله يغادرون في إجازات ويرجعون من بيوتهم متوردين وفي حالة نفسية طيبة، كلهم يفعلون ذلك، إلا محمدين الذي لم يخرج من المعسكر إلا بعد وقف إطلاق النار بين الجيش المصري وجيش الاحتلال الإسرائيلي إثر حرب أكتوبر / العبور / تشرين، 1973.
يقول الشاعر عبد العزيز موافي، الذي شارك في الحرب ووثقها من زاويته في كتابه “الطريق إلى رأس العش” إن الجندي محمدين ومع حصوله على أول إجازة بعد الحرب رقص فرحًا، إذ أنه لم ير أهله منذ تجنيده قبل ثلاث سنوات تقريبًا، ويقول موافي إن محمدين رفض لحظة مغادرته، السماح لأمن بوابة معسكره بتفتيش حقيبته، وتمسّك بموقفه بشكل صارم، وتصدى لكل محاولات الأمن لإقناعه بضرورة تفتيش الحقيبة على اعتبار أن ذلك أمر بديهي في أي معسكر للجيش. وعندها اضطر الأمن لاستدعاء الضابط قائد الجندي محمدين، الذي أقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يسمح لأحد بتفتيش الحقيبة.
سأل القائد جنديه سؤالين ووعده بالشرف إن هو أجاب بـ”لا” فسيسمح له بالخروج من المعسكر، وكان السؤالان هما: “هل تحتوي الحقيبة على أي أسلحة أو ذخيرة”؟ وعندما أجاب بـ “لا” أعطاه القائد السؤال الآخر: “هل معك حشيش في الحقيبة”؟ ومجددًا أجاب محمدين بـ “لا”، فسمح له القائد بالمرور أيًا كان ذلك الشيء الذي يخفيه محمدين في حقيبته، والذي اتضح لاحقًا أنه رأس جندي إسرائيلي نحره الجندي الصعيدي بعد العبور في 1973، ثم وضعه في حقيبته ليرجع به إلى أهله الذين حمّلوه ثأر شقيقه الذي استشهد في اشتباك سابق بين الجيشين المصري والإسرائيلي في الإسماعيلية.
من تلك الواقعة، وبناءً عليها، كتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته “وه يا عبد الودود يا رابص ع الحدود” التي غنّاها الشيخ إمام، وهي قصيدة على شكل رسالة باللهجة الصعيدية من الأب “حسن محارب” حارس برج الحمام هناك في إحدى القرى النائية في جنوب مصر، يوجهها لابنه عبد الودود المجند على جبهة القتال، ويقول نجم في مقطع من القصيدة:
وه يا عبد الودود
يا رابص ع الحدود
و محافظ ع النظام
كيفك يا واد صحيح
عسى الله تكون مليح
وراجب للأمام
وه يا عبد الودود
ع أقولك وأنت خابر
كل القضية عاد
ولسه دم خيّك
ما شرباش التراب
حِسّك عينك تزحزح
يدّك عن الزناد
خليك يا عبده راصد
لساعة الحساب
آن الأوان يا ولدي
ما عاد إلا المعاد
تنفض الشركة واصل
وينزاحوا الكلاب
إن كنت ود أبوك
تديب لي تار اخوك
والأهل يبلغوك
دميعا السلام
2
في أحد أيام الأسبوع الأول من أكتوبر 1990، انقطع ساري العلم، في أحد معسكرات الجيش المصري الملاصقة للحدود الإسرائيلية، وطارت الراية المصرية عابرة الحدود لتسقط بالقرب من مقر إحدى الكتائب الإسرائيلية، وفي تلك اللحظة، أقدم جندي إسرائيلي على إهانة العلم المصري، فدعسه بحذائه. حدث ذلك أمام عيني جندي الاستطلاع المصري بمنطقة رأس النقب، أيمن محمد حسن الذي أبلغ قادته فورا بالواقعة.
بعد ذلك بيوم أو يومين وقعت مذبحة الأقصى الأولى، وتحديدا في 8 أكتوبر، وأسفرت عن استشهاد 21 فلسطينيا وإصابة ما لا يقل عن 150 واعتقال 270.
لم يمر أكثر من يومين على مذبحة الأقصى التي أججت الغضب الشعبي في الكثير من الدول العربية، حتى رأى أيمن محمد حسن جنود الاحتلال يدنسون العلم المصري مجددا في معسكرهم، في تلك اللحظة قال لنفسه مخاطبا الإسرائيلي الذي دنس العلم: “طلبتَ موتَك يا عجل”، وقرر أنه سيثأر للعلم وللشهداء المقدسيين.
مسلحا بـ 421 طلقة، وبخطة جرى إعدادها بتأنٍ بالغ على مدار 46 يوما، اجتاز الجندي أيمن محمد حسن الحدود المصرية الإسرائيلي يوم الاثنين 26 نوفمبر 1990.
كانت خطة الجندي المصري انغماسية، ووفقا لحوار أجراه قبل سنوات في قناة المحور، فقد كتب رسالة وداع لوالده وقرر أن يمضي دون أن يرجع، ثم توغل في الجانب المحتل، وداهم عدة مركبات إسرائيلية محملة بالجنود والضباط والفنيين والمهندسين من جيش الاحتلال، وأفرغ فيهم الطلقات الـ 421 كلها، وأردى عددا كبيرا منهم، قبل أن ينسحب عائدا إلى الأراضي المصرية.
وتختلف الروايات حول عدد الإسرائيليين الذين هلكوا في تلك الواقعة، فأيمن نفسه يزعم أنه أحصى 21 قتيلا إسرائيليا، بينما ذهبت صحيفة مثل شيكاغو تريبيون إلى أنهم كانوا 5 قتلى فقط وهم:
الرقيب مايكل تساباري والرقيب آفي سيرلين والرائد حاييم أشكنازي والسائق إليعازر وهبة والموظف المدني بالجيش يهودا ليون بن أبو.
والاستماع إلى تفاصيل عملية انسحاب أيمن محمد حسن من موقع الهجوم إلى داخل الأراضي المصرية، أو القراءة عنها أمر مدهش بحق، إذ لم يصب الجندي المصري خلال تلك المطاردة بأي طلقة رغم الوابل الذي انهال عليه من الخلف.
سلم أيمن نفسه إلى الجيش المصري فور عودته، وحوكم وصدر ضده حكم بالسجن مدة 12 عاما، قضى منها 10، وخرج لحسن السير السلوك واستقر بعدها في بلدته في الزقازيق بمحافظة الشرقية.
3
مرتكنًا إلى هذا الرصيد من البطولة، قام “عنصر أمن مصري” مجهول الهوية، في فجر الثالث من يونيو 2023، بتجاوز الخط الحدودي بين مصر وإسرائيل عند معبر العوجا، وقتل 3 مجندين من الجيش الإسرائيلي وهم الرقيب أول أوري يتسحاك ايلوز والرقيب أول أوهاد دهان والرقيب ليا بن نون.
الجيش المصري قدم رواية مقتضبة تفيد بأن “عنصر الأمن المصري كان يطارد “عناصر تهريب مخدرات” وأنه تخطى الحدود وتبادل إطلاق النيران من حرس الحدود الإسرائيلي، فأردى 3 جنود إسرائيليين وأصاب اثنين آخرين.
أما في إسرائيل، فقد وردت القصة بالتفصيل في الإعلام، منذ الخطوة الأولى لفرد الأمن المصري وحتى استشهاده، والرواية الإسرائيلية تقول إن الشهيد عبر الحدود من خلال “نفق الطوارئ” المغلق بطبيعة الحال، وذلك في الساعات الأولى من يوم السبت 3 يونيو، تحديدا الساعة الثالثة قبل الفجر، واستغل عتمة الليل ليرتكز على بعد أمتار تتراوح ما بين 10 و 20 من أقرب برج مراقبة إسرائيلي، ثم أقدم على قنص أحد الجنديين الإسرائيليين في البرج “الرقيب أول أوهاد دهان” و”الرقيب ليا بن نون”، وبحسب الإعلام العبري فقد أحدث هذا الهجوم المباغت حالة من الهيستيريا لدى الجندي الآخر في البرج الذي أصيب بالشلل ولم يرد بطلقة واحدة. وخلال دقائق قليلة تمكّن المصري من قنص الجندي الآخر في برج المراقبة، وبقي كامنًا في مكانه، وبعد ثلاث ساعات كاملة، ذهب جندي آخر إلى برج المراقبة ليتفقد زملاءه الذين لم يردوا على الاتصالات، وفوجئ بهما جثتين على أرضية قمرة برج المراقبة، وهنا تم استدعاء كتيبة كاملة وطائرة مسيرة تابعين للفرقة 80 من القيادة العسكرية الجنوبية لتمشيط المكان وأسر عنصر الأمن المصري، وتمكّنت تلك المسيرة بالفعل من رصده وتحديد موقعه، إلا أنها لم تقصفه، وإنما قامت الكتيبة بمحاصرته فاشتبك معهم وأردى الرقيب أول أوري يتسحاك، وواصل إطلاق النار، فأصاب اثنين آخرين بينهما ضابط، ولم يلق السلاح إلى أن ارتقى شهيدا.
إلى اللحظة لا نعرف اسم هذا البطل المصري، إذ لم تفصح الجهات الرسمية عن هويته، غير أنني، يطيب لي، أن أسمّيه “عبد الودود”، الرابص على الحدود، منتظرا، بلهفة، “ساعة الحساب”.