وجوه اللغة العربية وفوضى المواقف

Nomads is just one of the pieces on display at eL Seed's US exhibition. Courtesy eL Seed studio

عاطف الشاعر

كاتب من فلسطين

ليس صحيحاً أن اللغة العربية بحدِّ ذاتها مصدر من مصادر التخلف في العالم العربي. اللغة لا تصنعُ تخلفاً لأيِّ أُمّه. الناس يفعلون ذلك. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

06/06/2023

تصوير: اسماء الغول

عاطف الشاعر

كاتب من فلسطين

عاطف الشاعر

ومحاضر متقدم في مجال الدراسات العربية والثقافية في جامعة ويستمينستر في لندن. آخر كتبه هو "أنطولوجيا كتابات النكبة الفلسطينية: خريطة غياب"، والذي صدر عن دار الساقي عام ٢٠١٩.

لا بدَّ من الاعتراف بالحيرة تجاه استخدام اللغة العربية بشقيها الرسمي وغير الرسمي. كثيرٌ من العارفين باللغات الأخرى يعرفون أنَّ اللغة العربية الفصحى هي نادرة من ناحية عمقها التاريخي وحضورها الكبير في الحياة العربية. فهي قديمة، وقد تبدو محنطة، وخصوصاً على لسان من يجعلونها هكذا من خلال تنميقات وفذلكات تتيحها هذه اللغة المتعدّدة الأوجه، وهي حديثة ومعاصرة على لسان من يستخدمونها كوسيلة للتعبير عن أذواق ومواقف حالية. أما اللغات الأخرى، ولنأخذ الإنجليزية كمثال، فهي لغة حديثة، تتفاعل مع الواقع المعاش وتعكس أذواقه، وذلك حسب من يستخدمها طبعاً. هذا لا يعني أنَّ الناس، وأخص المتعلمون، لا يفهمون لغة شكسبير أو من جاء بعده من الكتاب الإنجليز، مثل تشارلز ديكنز، بقليل من المساعدة المعجمية. ولكن لغة الوقت الحاضر تختلفُ عن لغة هؤلاء الكتاب من حيث التراكيب واستخدام المفردات بطريقة أبسط، ولعلَّ هذا يعود إلى التطور الكبير في مجال العلوم والتكنولوجيا والذي حدث خلال فترة تصاعد اللغة الإنجليزية، وكذلك تفاعل كثير من الناس من أصقاعٍ مختلفة من هذه الأرض مع هذه اللغة من خلال الكتابات الأدبية والتعاملات التجارية وغيرها. 

أما في حالة العربية، فهي بشقيها الرسمي وغير الرسمي، الفصحى والعامية، تمثلُ شقين قد لا يلتقيان كثيراً أحياناً، فلنأخذ مثال “بدي أروح”، والكلمات الفصحى المعهودة التي تعبرُ عن نفس الفكرة، “أريد أن أذهبَ” أو “أريد الذهاب”، أو لنأخذ كلمة “الآن” المعروفة بتفرعاتها الكثيرة في العامية “هلا، هسا، اسا، ال-حين، هلقيت، دلوقتي، توه، ضرك (الجزائر)، دابه (المغرب)، إلخ” ، هذه تراكيب وكلمات أخرى ولغات أخرى إذا ما نظرنا إلى الكلمات المختلفة التي تمثل فكرة “الآن”. أما إذا نظرنا إلى اللغة العربية ككتلة متعدّدة الوجوه من حيث الإستخدام ومن حيث الأيديولوجيات والقدرات والأذواق، فإنَّ اللغة العربية هي نبعٌ واحد تتفرعُ منه فروعٌ كثيرةٌ. هي لغة واحدة. قد لا يفهمُ المتحدثُ باللغة العربية تراكيب من لهجات أخرى، وقد يجدُ صعوبة في فهم اللهجة بشكلٍ عام، لكن هذا يعودُ إلى درجة التأقلم مع اللهجة المعنية، وإلى الخلفية التعليمية والمعرفية التي قد تُمكن الشخص من إيجاد طريقة للتواصل مع من لم يستطع فهم لهجتهم. وبهذا فإنه إذا كان الحال هكذا، فإنَّ بإمكان الشخص المتعلم أن يجدَ طريقة للتحدث مع عدد كبير من الناس في العالم العربي من خارج لهجته، فإن هذا يعني أنَّ هذه لغة واحدة بأوجه عديدة.

 ولا يختلفُ الأمر كثيراً بالنسبة للغة الإنجليزية عند الحديث مع أشخاص يمتلكون لهجات مختلفة. الفرق واضحٌ بين اللهجة الإيرلندية والأسكتلندية واللندنية. فكم تحدثتُ مع أشخاص من أسكتلندا أو أيرلندا ووجدتُ صعوبةً في فهم ما يقولون، وذلك لِبعدِ اللهجة عمّا تعودتُ عليه من اللغة الإنجليزية الرسمية ولهجة لندن التي أعرفها، وينطبقُ هذا على أهل اللغة وناطقيها كلغة الأم. إذن الفروقات داخل اللغة الواحدة، وخصوصاً عندما تكون اللغة كبيرة وممتدة عبر مساحات واسعة، وأيضاً حين تكون ذات عمق تاريخي كبير، كالعربية والإنجليزية، هي واردة، ولا مفرَّ منها. 

يمكن القول إنَّ الفروق بين اللغة الفصحى والعامية واسعة، لكنها ما زالت لغة واحدة، فالأطفال العرب وهم يكتسبون هذه اللغة، يكتسبون أوجهها المختلفه وهم صغار من خلال الإعلام، وبرامج ترفيهية، والمدارس، وأماكن العبادة وغيرها. ولا يعني أنهم يجيدونها بطلاقة وبالعلامات الإعرابية، والعقيمة أحياناً التي يصرُّ عليها بعض حراس التخشب اللغوي في العالم العربي، ولكن يفهمون العربية ويعرفونها كلغة رسمية فصحى وكلغة عامية اِكتسبوها من محيطهم الّلغوي.

أكتبُ ما سبق لأنني أشعرُ بالحيرة من علماء لغويين موقرين، كالأستاذ الفاضل كلايف هول، والذي كتب كتباً مهمة باللغة الإنجليزية عن اللغة العربية وغيره من العرب والأجانب الذين ينادون بضرورة الكتابة بالعاميات كونها هي اللغة الطبيعية للناس، وهي التي أكتسبوها من أهلهم، وليست الفصحى. كم سمعت هكذا وجهات نظر من مفكرين لهم باع كبير في دراسة اللغة العربية، سواءً عرباً أو غير عرب. وكنتُ دائماً ما أفكّر أن هناك فوضى في الفهم تسبُّبُ فوضى في المواقف والآراء. 

فلا شكَّ أن اللغة العربية كبيرة ومتعدّدة الوجوه كما ذكرتُ سابقاً، وبالتالي قد تؤدي إلى الغموض في فهم استخداماتها ووظائفها المتعدّدة. وعلى أيِّ حال، أوجزُ وجهة نظري في اللغة العربية ووحدتها اللغوية والثقافية المتعدّدة الوجوه، سواءً على المستويات اللغوية أو الثقافية، على النحو التالي:

– ليس صحيحا أنّ لهجات اللغة العربية هي لغات مختلفة، والدليل على ذلك أنَّ بإمكان المتحدث العربي، ويرتبط هذا بقدراته المعرفية والعلمية وتجربته الحياتيه، أن يلجأ إلى مستوى لغوي معين يساعد على التفاهم بين المتواصلين المختلفين لغوياً من حيث لهجاتهم. وهذه حقيقة كثير من اللغات، وليست اللغة العربية فقط. 

– ليس صحيحاً أن الطفل العربي يكتسبُ فقط اللهجة العربية وأن اللغة الفصحى هي لغة أخرى بالنسبة له. هذا ليس صحيحاً، فالطفل العربي مُعرض من سنٍ صغير إلى اللهجة وإلى المستوى الفصيح من اللغة العربية من خلال دور العبادة، والمدارس من سنٍ صغير، وبرامج إعلامية كثيرة تدمج بين الفصحى والعامية أو تستخدم الفصحى حصراً لوظيفة معينة، كإلقاء الشعر أو الحديث عن الدين، إلخ. ربما قوة حضور الدين والطقوس الدينية في العالم العربي منذُ وقتٍ طويل هو الذي جعل اللغة العربية مألوفة للصغار والكبار على حدّ سواء، وحتى أولئك الذين لم يتلقوا تعليماً رسمياً. وأذكرُ هذا على سبيل الوصف، لا الحكم.

– ليس صحيحاً أنّه لا يوجد علاقة بين اللغة العربية الفصحى، وهو مصطلح حديث نسبياً، وبين اللهجات العربية. فربما جميع اللهجات العربية تنهلُ من اللغة الفصحى، والعكس صحيح. وأما مناقشة من ظهرَ أولاً، اللغة الفصحى أم اللهجات، فذلك موضوع آخر يستحقُ معالجة أخرى. 

– ليس صحيحاً أن اللغة العربية استثناءً كما يشيرُ بعض اللغويين المتخصّصين في مجال علم اللغة من حيث وجهيها الرسمي وغير الرسمي. قد تكونُ درجة الإختلاف بين شقي اللغة واسعة، ويعتمدُ هذا على من يستخدم اللغة والأيديولوجيا، وليس على اللغة بحدِّ ذاتها. وجها اللغة مختلفان، لكنهما يسيران بالتوازي، وإن تعرجت مساراتهما وأختلفت. 

اللغة العربية دائماً ستحتاجُ إلى شقٍ رسمي، مثل اللغة الإنجليزية ولغات أخرى، كالألمانية والفرنسية. قد يتفاوت الفرق بين لغة الكلام العادي واللغة الرسمية بين لغة وأخرى، لكن لا بدَّ من لغة رسمية لهكذا لغة كبيرة كالعربية، واللغة العربية الفصحى تؤدي وظيفة مهمة في هذا المضمار. أما من ينادون بالكتابة بالعامية، فبأي عامية يكتبُ العرب؟! التفكير في هذا الإطار مقصور وغير مثمر. 

– ليس صحيحاً أن اللغة العربية بحدِّ ذاتها مصدر من مصادر التخلف في العالم العربي. اللغة لا تصنعُ تخلفاً لأيِّ أُمّه. الناس يفعلون ذلك. 

– ليس صحيحاً أن من يتعلمون العربية كلغة ثانية لا يستطيعون التفاعل مع أهل العربية، لأنَّ أهل العربية يتكلمون باللغة المحكية. المشكلة هنا في تعلم اللغة العربية الفصحى دون ممارستها كلغة حية كفصحى وكعامية في سياقات مختلفة في العالم العربي. كثيرٌ من العرب يبتهجون لسماع لغة عربية فصيحة من أجنبي ويفهمونه، وإن ضحكوا عليه فذلك لأنَّ النطق غير مألوف، وقد يبدو غريباً كثيراً عما عرفوه. وهذا لا يعني أن الفصحى لغة واللهجة لغة أخرى. فكم من شخصٍ من غير المتحدثين بالعربية كلغة أولى تَعلم العربية وأستطاع استخدامها بطرق مختلفة تتراوح بين الفصحى والعامية.

وأخيراً قد تصح الدعوة إلى استخدامات أكثر حداثةً للغة العربية سواءً على مستوى الشكل أو المحتوى، بحيث تأخذ بعين الإعتبار تقلبات الزمن وتطوراته، ولا تتصحر اللغة وتتقعر داخل قوالب جامدة. ولكن لا تصح الدعوة للكتابة بالعاميات كبديل عن الفصحى، أو وذلك أسوأ، كتابة العربية بحروف لاتينية. هذه الدعوات يلفَّها الشبهه، وعلى أقل تقدير، تنمُّ عن جهلٍ وقصر نظر. 

الكاتب: عاطف الشاعر

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع