الجسد في أحلامه وتصوراته وبحثه الدائم عن الحرية هو أداة تعبير، حتى في ردة فعله وسياقه الاجتماعي والسياسي، هو نقطة اشتباك مع أسئلة الحاضر، ولحظة مفصلية مستمرة في مواجهة ما يمثله الواقع من تحديات. عبر سنواته الممتدة من عام 2006 حتى اليوم قدم مهرجان رام الله للرقص المعاصر في كل عام مئات العروض، وقدم راقصين وراقصات من مختلف دول العالم، لا ليستعيد حرية شخصية يمثلها المؤدون، بل يضيء هامشاً مفصلياً على حياة يحاول الاحتلال ضبطها باستمرار، من خلال المراقبة والتفتيش العميق للأجساد، والاعتقال وكثيراً من الأحيان التنكيل والقتل بدم بارد. لذلك في سنته السابعة عشرة، يشكل مهرجان رام الله للرقص المعاصر كان لنا هذه المقابلة مع أمين سر سرية رام الله للرقص المعاصر، خالد عليان.
بدايةً، في منطقة تخوض صراعها السياسي والاجتماعي اليومي، وتكرس فيه السلطات جميعها هيمنتها على فكرة حرية الجسد، وضبط انفعالاته في الحيز العام، ما الذي يمثله مهرجان الرقص المعاصر في رام الله من حرية أمام تحديات حرية أجسادنا؟
المهرجان طبعاً يعبر عن الحرية، وموضوعنا هو التعبير بحرية، لذلك في كل عام بالإضافة للعروض هناك مؤتمر نعمل على تنظيمه بشكل سنوي عن الرقص والمجتمع، سوف يكون حول موضوع التعبير بحرية، وهذا موضوع مهم جداً، نتيجة ما تواجهه المؤسسات الثقافية، والفنانين بشكل عام، في السنوات الأخيرة، من مضايقات أثرت على القطاع الثقافي والفني الفلسطيني.
فلسطينياً وبشكل عام الشعب الفلسطيني مهتم في الثقافة والفنون، وتعتبر بالنسبة له جزء لا يتجزأ، من نسيجه الوطني والاجتماعي، وفنونه مازلت تلعب دوراً مهماً في المواجهة والتعبير عن نفسه، ولكن بالتأكيد يوجد البعض ينتقد المهرجان ويراه غير ضروري، وتحديداً فكرة الرقص كفن. بالنسبة لنا هذا طبيعي جداً، ربما يحدث في كل العالم، أن يظن البعض أن الرقص ليس ضرورياً، وأن هذه المهرجانات لا تلعب دوراً حقيقياً، بالتأكيد نحترم وجهة نظرهم، لطالما ضمن إطار وجهات النظر والنقد، ونحن مستمرون منذ عام 2006 مقتنعين بدورنا على المستوى الثقافي والفني، ونرى الجسد لغة ومحاولة مهمة للتعبير والكلام، وسبق لغة الكلام، وفي كل دول العالم ترى أن الفلكلور بالنسبة لهم أصبح “متحفي” إلا في فلسطين لا يزال الفلكلور حي بشكل يومي.
واجهنا بعض الانتقادات في الفترات السابقة، وكانت ذات بعد سياسي، ولها علاقة مباشرة في الانقسام السياسي الحاصل ما بين “للاسف” أكبر فصيلين في فلسطين، واستخدام الفعاليات الثقافية لهذه المناكفات، البعض يرى هذا المهرجان في رام الله لسلطة رام الله، ويعمل على الرقص رغم وجود الاحتلال، وفي النهاية نحن مؤسسة غير حكومية، ولكن دائماً هناك البعض الذي يعمل على تعزيز الانقسام من خلال الفن والثقافة. ومواجهتنا الحقيقية لكل هذا تكمن في استمرارنا.
باستمراره مع كل عام، شكل مهرجان الرقص المعاصرة ثيمات الحرية والجسد والمسافات مثل “ثيمة البعيد عنك قريب” التي تزامنت مع وباء كورونا عام 2021، ما هي القصص التي تبحث عنها ثيمة هذا العام من المهرجان في عنوان “للجسد ألف قصة وقصة”؟
اخترنا شعار “للجسد ألف قصة وقصة” لأنه يحمل الكثير من القضايا، هذه السنة الذكرى 75 لنكبة فلسطين، ونكبة فلسطين أثرت على ذاكرة شعبنا الفلسطيني في الهجرة وعمليات القتل والاقتلاع من الأرض، الأسرى الفلسطينيين الذين تعرضوا ويتعرضون اليوم للتعذيب والتنكيل وآثارها على أجسادهم، العنف الذي تواجهه المرأة الفلسطينية والطفل الفلسطيني، هو عنف بشكل أساسي على ضبط حرية كل جسد. نحن أطلقنا هذه الثيمة، لأننا نعتقد أنها مهمة في الوقت الحالي، خاصة فيما يتعلق بممارسات الاحتلال، ضد شعبنا الفلسطيني، هذه هي رسالتنا السياسية والاجتماعية في الثيمة.
بوستر المهرجان، هو عبارة عن ظهر أسير فلسطيني، ومكتوب على جسده رسائل حقيقية لأسرى فلسطينيين لعائلاتهم. العروض أيضاً من خلال الجسد سوف تري حكايات ليس سياسية فقط بل اجتماعية أيضاً، مثلاً المؤدية جمانة دعيبس عانت من تجربة مرضية، والعرض سوف يتحدث عن تجربتها، وكيف أثرت هذه الحالة الصحية على جسدها وعلى لغة جسدها.
فرقة “دناديش” من سرية رام الله، سوف تقدم عرض “مخ مفتول”، لشباب من أعمار 14 حتى 16 عاماً، سوف يتحدثون عن مشاعرهم وأجسادهم والمشاكل التي تواجههم، حتى العرض الختامي المشترك، بين فرقة Eـ من الولايات المتحدة الأميركية، وسرية رام الله للرقص، سيكون من بين أعضاء الفرقة، راقصين من ذوي الإعاقة، وتجمع من خلال قصص الأجساد ومضمون الشعور بها.
كل عمل فني وإبداعي يعمل على بلورة رسالته السياسية. ما هي الرسالة السياسية التي يسعى مهرجان الرقص المعاصر في رام الله لإيصالها للاحتلال والعالم ؟
المهرجان دائماً له بعده الفني وتواصله الثقافي، ولكن نعم هو أيضاً رسالة للاحتلال، أننا هنا مازلنا موجودين، ومازال قادر على التعبير عن نفسه، ونظرة العالم لهذه التفاصيل مهمة جداً خاصة بأن الصورة التي ينقلها الإعلام العالمي عن الفلسطيني هي صورة نمطية وسلبية جداً.
أن نستضيف ما يقارب 60 فناناً، ما يقارب 1400 فنان من حول العالم دخلوا إلى فلسطين على مدار سنوات المهرجان، وتعرفوا على فلسطين عن قرب، وكونوا صورة واضحة عن واقعنا السياسي وهذا مهم جداً، وأدركوا تماماً أننا شعب حي وشعب موجود ويمتلك ثقافته، وأن يروا جدار الفصل العنصري، لماذا نقاوم وما الذي يدفع هذا الشعب ليستمر بمقاومته، وهذه الصور كبيرة مهمة جداً بالنسبة لنا. ولا تتخيل وجود مهرجان مثل مهرجان رام الله للرقص المعاصر في فلسطين ورام الله تحديداً لا يشكل بالنسبة للاحتلال رسالة سياسية واضحة.
يعمل الاحتلال على الهيمنة على المساحات العامة للفلسطينيين، والتركيز على تضييق أفق الجسد الفلسطيني من خلال تفتيشه وضبط تنقلاته، ومحاولة الهيمنة عليه، كيف يعبر الجسد الفلسطيني عن نفسه في سياقات التنكيل والضبط ؟
هل يوجد فلسطيني لم يتعرض للتفتيش، هل يوجد جسد فلسطيني لم يحاول الاحتلال الإسرائيلي إهانته؟ يومياً الجسد الفلسطيني يعيش قصته ويحاول التحرر منها، لذلك كثيراً ما ترى في الجسد وسيلة للتعبير عن مثل علامة النصر، هذه حركة جسد، ضرب الحجر، حركة الجسد أثناء ضرب الحجر، هي رقصة فلسطينية يومية يختبرها الفلسطيني ويمارسها وهو يقاوم.
في كل الفنون سوف ترى الجسد الفلسطيني في وضعيات يعبر بجسده عن الحرية التي يبحث عنها، وفي عملية مقاومة حتى عندما يستكين وهو شهيد. الطفل الفلسطيني عندما يولد تنتظر عائلته أن يرفع علامة النصر، لذلك الجسد الفلسطيني له تجربته الخاصة للتعبير.
تاريخياً كان الجسد الفلسطيني أداة تعبير، مثالاً للتضحية والمواجهة والفداء، وصورة كبيرة للغضب والموت والحياة، كيف أثر تراكم صور الجسد الفلسطيني على خبرات الراقصين الفلسطينيين ومضمون أفكارهم؟
الراقصين الفلسطينيين في الوقت الحالي هم امتداد لحركة الجسد الفلسطيني التاريخية، دائماً معظم عروض الرقص الفلسطينية راكم مؤديها خبرة في بناء ذاكرة أجسادهم وتركيبها، حتى في الدبكة الشعبية سوف تجد به العنفوان، الغضب، ولكن بذكاء، مثل الشابة الذي اعتقلها الاحتلال ومع ذلك تبتسم، رغم كل الغضب، العشرة جنود من حولها غاضبون بينما هي تضحك. راكم الجسد الفلسطيني صورة العنفوان والحلم وثقة عالية في الحركة، لذلك الجسد الفلسطيني لأي متابع لفنون الأداء محدد بملامح استمدها من خلال ذاكرته وذاكرة أهله.
يعتبر المهرجان في كل عام مساحة لتبادل الخبرات بين راقصين وعاملين في الفنون الأدائية من مختلف دول العالم، ما هي التعاونات التي تشكلت عبر السنوات بين المهرجان ومدارس الرقص العالمية؟
قطاع الرقص في فلسطين هو قطاع متقدم بالرغم هو القطاع الوحيد الذي يعمل أغلب القائمين عليه بشكل تطوعي، ولكن تجربة المهرجان من عام 2006 حتى عام 2023، من فرقة كانت تقدم عرضاً واحداً، إلى ما يقارب العشرة فرق في المهرجان، لا يوجد أقل من 300 راقص فلسطيني يعملون في عروض أداء الرقص المعاصر، طبعاً الفنون الشعبية مثل الدبكة العدد بالآلاف.
من حيث تكنيكات الرقص والتفرغ العالم متطور أكثر منا، لأن هناك يوجد دعم كبير، ويوجد اهتمام حقيقي في هذا القطاع، ويملكون مسارح واستديوهات تدريب، ويوجد مختصين متفرغين بشكل كامل، ووجود مؤسسات وأكاديميات، وهم لا يواجهون الثلاث قضايا الرئيسية التي نواجهها، القضية السياسية والاجتماعية والأهم الاقتصادية، نحن نعيش في واقع صعب جداً.
حركة مواصلات الراقصين الفلسطينيين هنا صعبة، تنقلهم فقط يعتبر أزمة ومشكلة يواجهونها باستمرار، في غزة مازلنا ننتظر التصاريح، ومع ذلك بدأنا في غزة. المقارنة ليست سهلة، ومع ذلك يوجد حضور للجسد الفلسطيني. ومع ذلك وصلنا مع مهرجان الرقص المعاصر في رام الله إلى مستوى. لذلك التعاونات مهمة جداً، أرسلنا سبعة طلاب على مدار سنتين كل سنة درسوا سبعة أشهر في أكاديمية روما للرقص، وهذا شكل تعاون مهم مع الاكاديمية. وأرسلنا مؤدي من مخيم جرمانا من سوريا، نحن مدركين ظروف الفلسطينيين في الشتات، الشاب أنهى دراسته في الأكاديمية والآن يقدم دراسات عليا في سويسرا. والآن لدينا إنتاجات مشتركة مع فرق عالمية، أثرت جداً في تبادل التجارب والخبرات.
في عام 2019 وهذا العام، لدينا ملتقى الرقص الفلسطيني، نستضيف مخرجين ومدراء مهرجانات، ومصممين ومدراء مَسَارح للرقص من دول العالم، لكي يلتقوا مع الفنانيين الفلسطينيين، ليتعرفوا على مشاريعهم. هذا العام أيضاً لدينا عشرة ضيوف من دول مختلفة، للتعرف على الفرق الفلسطينية، وتكوين تعاونات مستقبلية.
أخيراً يمثل مهرجان الرقص المعاصر في كل عام حلم كبير للحرية ومواجهة الاضطهاد السياسي والاجتماعي، ما هي المساحة التي يحلم أن يصل إليها المهرجان ؟ وما هي الأحلام التي يسعى لتحقيقها ؟
حلمنا الرئيسي أن ننظم المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية بدون حواجز، متحرراً من الاحتلال، أن نقدم عروضنا في كامل المدن الفلسطينية وخاصة القدس. حلمنا للمهرجان تحديداً أن يتوسع أكثر، ويضم فرق فلسطينية تصل للعالمية أكثر وأكثر. وأن تكون مساحة الحريات أكبر على المستوى السياسي والاجتماعي، بدون الحريات لن نستطيع نتقدم أي خطوة نحو ما نبحث عنه.